- الإعلانات تأكل الفراغ بشكل بشع والدولة تحتاج لإعادة صياغة فنونها - الفنان مثله كالقابض على الجمر لأنه يدرك ما أصاب المجتمع من تشويه - لم لا تكون السياسة فن الخطاب الواضح بدلًا من الحلول القمعية؟ يحاول أن يخوض في أعماق النفس البشرية؛ باحثًا في ملامحها الإنسانية، مستفزًا ما بداخلها من طاقات إيجابية، هذا المسعى يتفق مع ما يشغله منذ بداية مشواره الفني: «أن اختزن الطاقة واحتويها داخل أعمالي الفنية، لتنعكس على المشاهد بما تحمله في طياتها من تعبيرات إنسانية ترسم ملامح بين فرح وحزن، أو طموح وتحد، أو يأس وأمل». النحات المصري طارق الكومي، فنان تشكيلي متفرغ، صاحب تمثال الموسيقار محمد عبد الوهاب بدار الأوبرا، افتتح مؤخرًا معرضه «ملامح إنسانية»، الذي يمس ملامح البشر الخارجية والداخلية: «لكنني تعمدت التركيز على الملامح الداخلية المكنونة بكل إنسان، وتمنيت أن تنعكس على الأوطان». حاورته «البديل» من داخل معرضه بجاليري الزمالك للفنون، فأكد: لم أقدم محاكاة أو رصد لعالمنا في معرضي هذا، بل تمكنت من رسم عالم أجمل مما نعيشه، تشع الطاقة من المنحوتات، فتلك الكتل الصماء تحتاج للصدق لتنقل لها مشاعرك كفنان، لتجد الخامات طيعة، وتنقل بدورها تلك الروح إلى المتلقي، لذا نعتبر النحت –بل الفنون بشكل عام- طاقة إيجابية من ينقلها العمل إلى المتلقي، وكأنه تلك الشحنة الوجدانية بداخلنا». كرمه صالون الخريف الفرنسي 2011، في قلب العاصمة باريس، وسط مشاركة 1600 فنان من 35 دولة، وحضور جماهيرى قارب ال15 ألف متفرج، وقال الناقد نويل كوريه- رئيس الصالون، الذي سلمه الجائزة: إن الفنون المصرية لها مكانة كبيرة دائمًا ما تفرض تواجدها بالتميز والأصالة، لذا كانت المقارنة في حوارنا واجبة بين البلدين، من حيث دعم الدولة ووعي الجمهور والحركة النقدية: «الفنون البصرية مهضوم حقها في مصر، لتركيز الإعلام على السينما وبرامج التوك شو، ما يعكس سياسة الدولة، تلك الدولة التي تهتم بكرة القدم أكثر من اهتمامها بالفنون الجميلة، رغم أنه بشئ من الوعي تستطيع أن تحقق من خلال الفنون ما استحال تحقيقه في اللعبة الأكثر شعبية، بدليل ما حدث فعلًا في بينالي فينسيا 2006 -الموازي في القيمة لمهرجان كان السينمائي أو الأوسكار الأمريكي- الذي فاز به 3 فنانيين مصريين، هؤلاء حصلوا على كأس العالم في الفنون ولم يتم استقبالهم في المطار ولا الاحتفاء بهم». الغوص في أزمات المجتمع المصري بعين «الكومي» يؤكد أن الفنون التشكيلية ليست كوكبًا منفصلًا عن الأرض، أو كما قال: "على الدولة استيعاب أن الفنانيين (مش عايشيين في ملكوت الله)، لابد من الاستعانة بهم لتجميل وتطوير البلاد"، كما يستنكر صاحب تمثال أم كلثوم بالأوبرا والمنصورة تدهور الشخصية المصرية، موضحًا أن السبب يرجع لتلقي الشباب منتوجات ثقافية كلها إسفاف في مختلف الفنون، وسط عمارة وألوان قبيحة، غير الإعلانات التي تأكل الفراغ بشكل بشع، الطرقات لابد أن تكون لوحة مفتوحة تساهم في خلق علاقة حميمية بين المواطن والشارع، سيظل المجتمع في حالة استنزاف ما دام على الطريق الخطأ، لذا لابد من الخروج بالمواطن من دائرة البحث عن (أكل عيشه)، وأن تعي الدولة سهولة التعامل مع فرد مثقف ومتعلم من التعامل مع مواطن مقهور في ظل قمع أمني واقتصادي، لأن أساس استعادة هوية مصر الثقافية تعامل آدمي من قبل الدولة مع مواطنيها، والتخلص من الفكر الاستهلاكي الذي يستهدف تفريغ طاقاتها لصالح منتجات يمكن الاستغناء عنها، فما دامت الدولة لا تأمن قوت المواطنين ستظل تحت الضغوط الخارجية. شوارع باريس لوحة جمالية مفتوحة، أما مصر فقد تحولت أحياءها التراثية لمرحلة متطورة من التشويه والقبح، إذ تحولت لأسواق ومحال تجارية اتسمت بالعشوائية وأهدرت هوية مصر، ويوضح «الكومي» أن المواطن أصيب بتشويه للقيم الجمالية ما أدى لفقده القدرة على التذوق: "الدولة حولت الإنسان إلى ماكينة، وتعمدت إلغاء حس النشء بتهميشها الفن والموسيقى في المراحل التعليمية، وستخسر المليارات عند محاولتها إعادة السيطرة على سلوك تلك الأجيال، فالحوار بين العقلاء أقل كلفة منه بين الجهلاء". الحركة النقدية للفنون التشكيلية في مصر تحتاج إلى أشخاص لديهم القدرة على القراءة الصحيحة للأعمال، عدم تحقق ذلك يرجع لما صنعه الإعلام من جدار بين نقاد الفنون البصرية وغيرهم من نقاد الفنون الرائجة، إذ يفضل الناقد أن يكون طارق الشناوي وليس محمود بقشيش أو نعيم عطية، لذا يوضح الحائز على تشجيعة الدولة في الفنون أن "الفنون التشكيلية تحتاج إلى الغوص في أعماق العمل والفنان، ما يلزم المعايشة لأن النقد الانطباعي ليس السبيل لحركة نقدية رائجة، فلا تصح القراءات السطحية الدارجة للأعمال، غير أزمة عدم تقدير النقاد سواء ماديًا أو أدبيًا، على عكس الناقد الرياضي! الدولة تحتاج لإعادة صياغة فنونها، كي تكون في صدارة البناء الحديث للمجتمع، أما فنون "الهلس" فلابد وأن تختفي، كفى تشويهًا". دخل الفنان الراحل سعيد صالح السجن عندما قال في وصف الحكام: «واحد أكلنا المش، والتاني علمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش»، ولا حصر لم منعتهم الرقابة الأمنية لمجرد محاولتهم النهضة بالمجتمع، لذا يتعجب «الكومي» من عدم التعامل بالمنع مع المتسببين في انحدار الذوق العام والبعد عن الهوية المصرية، والانشغال بفرض قبضتهم على أصحاب الرسالة النهضوية، أساليب تخلق حالة من العدائية والانقسام ولا تحقق العدالة، وكأنها سبيل السلطة للحفاظ على "الكرسي"، ويتساءل: لم لا تكون السياسة فن الخطاب الواضح الممكن المستطاع بدلًا من الحلول القمعية؟ يتمنى الفنان توفير مساحة للتواصل مع المجتمع، ويعترف بأزمات تلقي الإبداعات الثقافية والفنية في الفترات الحالية، لذا لجأ الشباب المبدع إلى العروض والمعارض الفنية في الشوارع والميادين العامة، كذلك قدم «الكومي» عددًا من المعارض المباشرة مع الجمهور في محافظات مطروح وأسوان وعلى كورنيش الإسكندرية، هنا يؤكد: المدن يميزها ما بها من نصب تذكارية، فلن تتذكر إلا نيويورك عند رؤيتك لتمثال الحرية، كذلك مسلة روما، تلك الأعمال أصبحت شخصية المدينة، كذلك برج القاهرة وتمثال إبراهيم باشا في القاهرة، ما من شأنه تثبيت الذاكرة البصرية لدى غير المصريين أن هذه مصر. محاولًا استعادة هوية مصر الضائعة، يقول «الكومي» باعتباره عضو اللجنة العليا الفنية التاريخية لمشروع ذاكرة الوطن التي تشكلت نهاية 2010: الفنان بما يمتلك من حصانة اكتسبها من وعيه وإدراكه وتكوينه الثقافي ودراسته لفلسفة الحضارات، مثله كالقابض على الجمر، مدرك ما أصاب المجتمع من تشويه، ويحاول في فنه تقديم البعد التراثي متجسدًا في صور الحداثة، تلك هي المعادلة التي أعمل عليها. كأن «الكومي» يخلي سبيل أهل الفن والثقافة من قضية استعادة الهوية، لما لهم من حصانة، ويحمل المواطن العادي مسؤلية الأزمة: "المشكلة في المواطن العادي، فالفنان يحافظ على هوية بلده من خلال مساحة أعماله، أما بقية البلد فهي ملك لسلوك المجتمع، لذا لابد من احترام آراء المختصين في الهوية البصرية والأخذ بها، والإصرار على تنفيذها، وإلا فلينتصر مَن سعى لتدمير التراث الإنساني، ومَن جعل من القاهرة مسخ، جعل منها لوحات إعلانية ومحلات أحذية، ما يكشف عن عدم تفعيل جهاز التنسيق الحضاري (مجرد شكل)، لكننا لسنا كائنات لا تشعر ولا تحس". الحائز على جائزة الدولة للإبداع، والخبير في النحت الميداني، مازال لديه من المشروعات الفنية ما يحلم أن يقدمه لمصر، فكما نحت تمثالًا لعالمة الفلك والرياضيات «هيباتيا»، وتمثال ميداني «الحرب والسلام» بمدينة شبين الكوم، ونماذج للبيت النوبي والبيت الأفريقي الفلاحي بمتحف الطفل، يحلم «الكومي» بتنفيذ مشروع «بوابة النصر»، وهي بوابة أمام مدخل قناة السويس من الحجر المصري على ارتفاع 20 متر، يشارك فيها أكثر من 10 نحاتين، كل بكتلته الخاصة من حيث التصميم والشكل، لكن الفكرة لا تزال قيد البيروقراطية، إذ تنتظر موافقات المسؤلين والتنظيم والدعم.