منذ أكثر من 7 أعوام، وخلال فترة عمل ثرية أعتز بذكرياتها في صحيفة (الوطن) العمانية، جمعتني جلسة حديث ودي مطولة مع الدكتور محمد يحيى مطر الخبير بالأمم المتحدة والمدير التنفيذ لمشروع الحماية ضد الاتجار بالبشر بجامعة جون هوبكتز الأمريكية، حيث أبدى الأكاديمي المرموق اندهاشه من موقف تعرض له خلال إحدى زيارات عمله للمملكة العربية السعودية، وقتما طلبت منه الجامعة السعودية المضيفة تسليم جواز سفره للإدارة باعتبارها (كفيلة!) خلال فترة عمله، الرجل استقبل الطلب بالكثير من الاستغراب والاعتراض، وهو الأستاذ الجامعي المرموق والخبير الأممي المختص في ملف الاتجار بالبشر، والذي طالما ألقي على مسامع من يحاضرهم في سفراته المتكررة أن مصادرة جوازات السفر إحدى الممارسات التي تندرج دوليا تحت محظورات الاتجار بالبشر، على أي حال، ورغم المحاولات المستميتة من جانب الدكتور مطر لتوضيح موقفه الرافض لسحب هويته الوطنية وشرح وجهة نظره العلمية والعملية في هكذا سلوك، فقد كان واضحًا وحاسماً هذا نظام وقانون دولة طال عمرك..عليك الامتثال له أو مغادرة المملكة". أطلت تلك الرواية بتفاصيلها عبر نافذة الذاكرة، وتراءت أمامي نظرة الدهشة التي ملأت عيني البروفيسور مطر وهو يرويها، ذلك فقط حين قرأت خبرا بصحيفة خليجية نقلا عما وصفته بمصادر رفيعة المستوى في حملة المشير عبدالفتاح السيسي الانتخابية، يتحدث عن أن المشير يعتزم التفاوض مع دول الخليج فور إعلان فوزه برئاسة مصر لضم مصر ضمن منظومة مجلس التعاون الخليجي بصفة "عضو مراقب"، والتوصل إلى تفاهم لإعفاء المصريين من تطبيق نظام الكفيل، وإلغاء نظام التأشيرة بين مصر والسعودية والإمارات والكويت والبحرين بهدف زيادة النشاط التجاري والسياحي بين هذه الدول ومصر"، وهو الوعد الانتخابي الذي يستحق أن نتوقف أمامه، خاصة أن أحد بنوده يمس وبشكل مباشر ملايين المصريين العاملين في الخليج، ويخضعون لنظام الكفالة في دول المجلس. واقعيا، يمكن فهم الترويج لفكرة لحاق مصر بقطار شراكة استراتيجية جزئية مع دول مجلس التعاون، استنادا إلى تغيرات استراتيجية عميقة شهدتها المنطقة جعلت من ظهر بعض دولها مكشوفا في أعقاب ما يعرف بالربيع العربي ووصول الإخوان للحكم، بما يمكن معه حساب تلك الشراكة في إطار صفقة تقودها العربية السعودية وتوازن الدعم المادي لاقتصاد مصر المنهك، مقابل حماية الجيش المصري للخليج من الهواجس الأمنية، وكان العربون الأول لتلك الصفقة هو مشاركات الجيش في مناورات مشتركة مع الإمارات والبحرين، تبعث برسائل وإشارات لمن يهمه الأمر في المنطقة بأن الوجود العسكري المصري سيشكل واقعا جديدا في مستقبل دول الخليج، وقد تتضح الصورة بعمق حين نستعيد حديث المشير الموجه للكويت ومحاولة تذكرتها بمحنة الغزو، والتي كان للوجود العسكري المصري دورا حاسما في إنهائها. لكن القدر المتيقن من الحقيقة لكل من اطلع على الملف الخليجي، أن فكرة إلغاء الكفالة عن المصريين تبدو غير واقعية أو قل ضربا من الخيال، ولا يمكن وضعها سوى في سياق تسويق تلك الشراكة للمواطن المصري، وربما تهيئته لابتلاع التصريح المثير للجدل الذي خرج على لسان المشير السيسي في وصف الملك عبدالله بأنه "كبير العرب ورجل العرب وحكيم العرب"، سيما في ضوء ما هو معلوم عن دور "حكيم العرب" في تدمير سوريا ودعم الجماعات الإرهابية فيها ماديا ولوجيستيا، وفي الوقت نفسه فإن رواية (البروفيسور مطر) عن جواز سفره هي ترجمة حية لأبشع صور العبودية الحديثة والتي لا مجال للاستثناء أو التفاوض أو مجرد الحديث الودي، فالكفالة والكفيل هو جزء من تركيبة تلك الدول وضمانات سيطرتها على ثرواتها النفطية وأسواق العمل فيها، هذا علاوة على ما ينضوي تحته هذا النظام من مصادر دخل موازية لقطاعات واسعة من مواطني تلك الدول الذين يتكسب من التجارة المستترة بالكفالة، بما يعني أن القرار السياسي الخليجي في تلك اللحظة سيواجه معارضة من أفراد وجماعات مصالح من المرجح أن يمس القرار جيوبها. مع ذلك، ينبغي التذكير أن الشراكات الاستراتيجية والتي تمس الأمن القومي تخضع لحسابات وترتيبات معقدة تفرضها ظروف اللحظة، لكن ما لا ينبغي غض الطرف عنه هو الخروج بوعود غير منطقية تدغدغ أحلام الشباب المصري، أو التبرع بتصريحات تنفخ في أوصال الشريك الخليجي بما يضع مصر في مكانة أدنى تقزم قامتها وتهدر قيمتها، وتحول الشراكة والتعاون إلى كفالة كبرى من الشقيق الخليجي لمستقبل مصر وارتهانا لقرارها، وبما لا يستوي معه الترويج لخرافة إلغاء الكفالة عن المصريين في الخليج، رغم أن أطرافا مصرية وقعت عقد كفالة مبكر لمصر بأكملها داخل عباءة الشقيق الخليجي، وهو ما يعني بالمنطق والعقل ضرورة ضبط انفلات التصريحات حتى لو كانت مجاملة، هذا إذا وضعنا في الاعتبار أن هذا التصريح خرج على لسان القائد السابق لجيش مصر العظيم.