هل تختلف الرشدية اللاتينية عن الرشدية العربية-إذا جازت التسمية- هذا الاختلاف المنشئ لتلك الحالة من التباين التي تجعل تمايزهما جليًا إلى حدٍ بعيد؟ يوجد ثمَّة اختلافٌ واضحٌ ربما نتج عن عديد من الأخطاء التي اعتورت الترجمات الأولى لكتب ابن رشد إلى اللاتينية ، وربما يعُزى ذلك إلى قصورٍ ناجم ٍعن قلة الدراية باللغة العربية من قِبل العديد من المترجمين وبالمصطلحات التي استخدمها ابن رشد خاصة، لكنَّ الدلائل تشير إلى أنَّ هناك تشويه عمدي طال هذه الترجمات التي تضمنت في بعضها ما لم يقل به ابن رشد، بل أنَّه من المعروف أنَّه كان يرى في هذه المسائل – تحديدًا- رأيًا مناقضًا بالكلية، ومن المؤسف أنَّ عديدًا من النصوص الرشدية العربية قد فُقِد، ولم يبق إلا الترجمة اللاتينية على ما بها من خلل . إنَّ الغرب المسيحي الذي سقط في حلكة الجهالة القروسطية بسبب تغول الكنيسة والإقطاع، كأنَّما فزع حين قرعت أفكار ابن رشد ورؤاه وشروحاته لأرسطو عقله الساكن المتكلس الذي اهتاج أيما اهتياجٍ ؛ دفاعًا عن كُمُونيَّته وانقطاعه وامتثاله الكامل للخرافة؛ حتى نُعِت ابن رشد في أوروبا وعلى مدى قرون ب ( الملحد، المادي، الذي لا يؤمن بأي دين، العقلاني الصرف، رجل الإيمان المزدوج ، الذي يُظهر خلاف ما يبطن ) حتى بلغ بهم السفه أن جعلوه رمزًا على الفلسفة الوثنية بحد ذاتها! وليس بخافٍ أنَّ مثل هذه النعوت لا يمكن أن تصدر عن أشخاص لهم أدنى معرفة بفلسفة ابن رشد وفكره، فلقد طرح ابن رشد مسألة العلاقات بين الفلسفة والدين في كتابيه ( فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ) و ( كشف مناهج الأدلة في عقائد الملة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبهات المزيفة والبدع المُضلَّة) وقد أراد ابن رشد فيهما أن يثبت أنَّ الفلسفة واجبة شرعًا مستدلاً بقوله تعالى {… فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ }الحشر(2) ويقول : وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معًا، وكذلك قوله تعالى {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ… }الأعراف (185) ويضيف :" وهذا نص بالحثِّ على النظر في جميع الموجودات". وكان مما أُلصِقَ به أيضًا من افتراءات – قوله بالحقيقة المزدوجة، والحقيقة أنَّ ابن رشد قال بحقيقةٍ واحدةٍ ؛ ولكنَّ الطريق إليها مختلفٌ، كما قال بالتأويل إذا حدث تناقض بين ظاهر النص الشرعي والعقل فيقول في فصل المقال ( وإن كانت الشريعة نطقت به ( أي بموجود ما ) فلا يخلو ظاهر النطق من أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفًا. فإن كان موافقًا فلا قول هنالك، وإن كان مخالفًا طُلِب هنالك تأويله. ومعنى التأويل : هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخلَّ ذلك بعادة لسان العرب في التجوُّز). لقد أشعل فكر ابن رشد النار في حطام عتيق من الأباطيل الأوربية ؛ بل إنَّ روحه النبيل المتسامي هو من بعث الحياة في الفكر الأوربي ؛ إذ كان تجسيدًا للعقلانية الفلسفية وشاغلاً أكبر ومسيطرًا على الجامعات الأوربية – خاصة جامعة پادوا الإيطالية- زهاء أربعة قرون ، ثم كان أن أرادت أوربا أن تمحو من تاريخها فترة القرون الوسطى ازدراءً لها -خاصة من قبل الحداثة الأوربية التي اعتمدت الفلسفة الوضعية المنطقية ؛ فطُويَّ عن عمدٍ منجز الرشدية وفضله على الفكر الأوربي ؛ كما جاء ذلك اتساقًا مع النزعة الأوربية الواضحة في إنكار كل فضل للآخرين عليها؛ خاصةً العرب والمسلمين. لقد تنكرت أوربا ل ( رشديتها ) منذ مطلع القرن السابع عشر، وحتى منتصف القرن التاسع عشر ، إنكارًا يقوم على التجاهل التام ،إلى أن ظهر كتاب الفيلسوف الفرنسي (إرنست رينان) الذي عنونه ب ( ابن رشد والرشدية) واحتاج لثلاثة عقودٍ أخرى ليظهر في شكله النهائي بعد عديد من الإضافات والتعديلات ، غير أنَّ ( رينان) بدا استعلائيًا مقيتًا لا يُبرزُ مأثرةً لابن رشد إلا وسارع إلى نفيها، حتى أوقع نفسه في تناقضات تثير السخرية؛ ففي مقدمة كتابه يقول ( وأعُدُّني أول من يعترف بأنَّه لا يوجد ما نتعلمه من ابن رشد ولا من العرب ولا من القرون الوسطى ) فأي دافعٍ ملتبسٍ كان لدى الرجل عندما بدأ في وضع كتابه؟! ويقول أيضًا في مخاصمةٍ فجةٍ للمنطق عن الرشدية إنَّها ( لا تحوز أية أهميةٍ بصفتها فلسفة، ولكنَّها سرعان ما تحوز أهميةً تاريخيةً حقيقيةً حين ندرك أنَّها كانت في حقيقتها ذريعةً لانبعاث الاستقلال الفكري). والحقيقة أنَّ إعادة الاعتبار لابن رشد أوربيًا لم تحصل إلا منذ عقودٍ قليلةٍ على يد ثُلَّةٍ من المفكرين الفرنسيين المعاصرين الذين كان طرحهم هو الأقرب إلى الموضوعية ، ويأتي على رأس هؤلاء الفيلسوف ( آلان دوليبيرا ) الذي قدم مجددًا لكتاب (رينان) بقوله :" «إنَّه كتاب عرف في الوقت نفسه كيف ينزع الطابع الأسطوري عن مادة بحثه، ثم كيف يفرض أساطير جديدة على كل أولئك الذين استأنفوا دراسة الملفات المتعلقة بالموضوع. وهو أيضاً، كتاب إذا كان صحيحًا أنَّه يبدي شيئًا من الرفض لجوهر الموضوع الذي يطرحه، عرف كيف يُخرِج من وِهَاد النسيان، لحظةً أساسيةً من لحظات تاريخ الفلسفة والثقافة". لا يستنكف ( آلان دوليبيرا ) أن يعلن أنَّ الأوروبيين تتلمذوا على أيدي العرب لما يربو على ثلاثة قرون على الأقل، كما أنَّه يسخر من تلك النظرة الأوربية الاستعلائية التي تقول بأنَّ تاريخ العقل ابتدأ عند الإغريق، ثم استمر عند الأوروبيين بدءًا من ( ديكارت) قفزًا على العصور الوسطى كلها، وبخاصة العطاء العربي – الإسلامي. هذا ما ينعته ( آلان دوليبيرا ) بالعنصرية الفلسفية، ويضيف : " نعم إنِّني أقولها صراحة: لقد لعب العرب دورًا حاسمًا في تشكيل الهوية الفكرية لأوروبا، ولا يمكن لأحدٍ أن يعترض على هذا الكلام إلا إذا أراد أن ينكر الحقيقة. إنَّ النزاهة الفكرية تفرض علينا القول بأن علاقة الغرب مع الأمة العربية تمر- أيضًا -عبر الاعتراف بالإرث المنسي للعرب". لقد كان ابن رشد هو حلقة الاتصال – ربما الوحيدة – في عملية التلاقح العلمي والفلسفي بين أوروبا من جانب والعرب والإغريق من جانب آخر ؛ بل يُعدُّ الحلقة المركزية في هذا الجهاز الفلسفي الذي أتاح للفكر الأوربي أن يُشكِّل هويته الفلسفية. يبدو جليًا أنَّ النزعة الأوروبية للتمركز حول الذات من حيث التنامي الخطِر هو ما جعل ( آلان دوليبيرا ) يكرِّس كل هذا الجهد لإعادة الاعتبار لدور الفلسفة العربية، وخاصة الرشدية في الفكر الأوربي ، هذا التموضع الذي أسرف فيه ( رينان) فبدا متعصبًا حد السخرية، حتى أنه جرُؤ على القول أنَّه " ليس للساميين أفكارٌ خاصةٌ بهم "، وامتدَّ إلى يومنا هذا متخذًا من ( الإسلاموفوبيا ) وصراع الحضارات بيئة حاضنة لكثير من الأطروحات المتعصبة ، والتي تبلورت في الكتاب الصادر في عام 2008 بعنوان ( الجذور الإغريقية لأوروبا المسيحية) للمؤرخ (سيلفان جوجنهايم) الذي يقول بالحد اللغوي والمعرفي الذي لا يستطيع العقل الإسلامي تجاوزه، ثم يذهب ( جوجنهايم) في غيِّه بعيدًا فيقول بأنَّه " لا شيء يجمع على الإطلاق بين الحضارة الأوروبية المسيحية والحضارة العربية الإسلامية، في الماضي والحاضر في آن" زاعمًا أنَّ العرب لم يتعلموا قديمًا من اليونانيين، وأنَّهم عاجزون اليوم بالكلية عن التعلم من أوروبا الحاضرة؛ لذلك فهو لا يرى جدوى الحوار معهم ، ويشير إلى أنَّ الاعتراف بالعالم العربي الإسلامي أمر لا يلزم أوروبا الراهنة .. بمثل هذا الغثاء وغيره تمتلئ عديدٌ من الأبحاث الأكاديمية التي تتزيا زيًا علميًا زائفًا يبدو جليل المظهر، بينما هو- في حقيقته- دعوةٌ صريحةٌ للتعصب والكراهية، وهنا تبدو أهمية العناية العلمية بما يقدمه مفكرون أوربيون منصفون من أمثال (آلان دوليبيرا) و ( روجيه إرنالديز) و ( جان جوليفيه ) وغيرهم. إنَّ فكر ابن رشد الذي أشرقت شمسه على جليد العقل الأوروبي، يحتاج منا اليوم أن نتناوله بالدراسة الجادة والتدقيق العلمي، لأننا ما زلنا في طور الاحتياج الُملِح إليه ، فإذا كانت أوروبا العنصرية تتنكر له اليوم؛ محاولة هدم الجسور التي أقامها وعبرت عليها نحو الاستنارة العلمية؛ فإنَّ من الواجب علينا أن ننافح عنه اليوم منافحتنا عن ذاتنا التي هي قيد الاستلاب.