ماذا حدث في عام1994 ؟ انعقاد مؤتمر دولي فلسفي بالقاهرة تمهيدا للاحتفال بمرور ثمانمائة عام علي موت ابن رشد في عام1198, وكان عنوان المؤتمر ابن رشد والتنوير, وذلك تنفيذا للقرار الذي اتخذه الاتحاد الدولي الإنساني الأخلاقي أثناء انعقاده في أغسطس1990 ببروكسل. والسؤال إذن: ما مغزي انعقاد مؤتمر القاهرة؟ في تقديري أن مغزاه كامن في البحث الذي ألقيته في المؤتمر الاسلامي الدولي الفلسفي الذي عقد في القاهرة في عام1979 تحت عنوان الاسلام والحضارة, وكان عنوان بحثي مفارقة ابن رشد, وقد نشرته مجلة ألمانية تصدر عن الجمعية الدولية لفلسفة القانون والفلسفة الاجتماعية. فكرته المحورية أن ابن رشد حي في الغرب ميت في الشرق. هو حي في الغرب بفضل تيار الرشدية اللاتينية الذي شاع في جامعات فرنسا وايطاليا إثر ترجمة مؤلفات ابن رشد إلي اللاتينية والعبرية بناء علي قرار سياسي من فردريك الثاني(1197-1250) ملك نابولي وصقلية. وقد صدر هذا القرار استنادا إلي رؤية مستشاريه القائلة بأن مقاومة فردريك للبابوية المدعمة للطبقة الاقطاعية من أجل مؤزارة طبقة التجار الصاعدة تستلزم فكرا جديدا, وكان هذا الفكر الجديد هو فكر ابن رشد. وهكذا أصبح ابن رشد حيا في الغرب, أما في الشرق فقد كان ميتا بسبب هجوم علماء الكلام بوجه عام والغزالي بوجه خاص علي الفلسفة في القرن الحادي عشر, إذ اتهم الفلاسفة المسلمون من أمثال الفارابي وابن سينا بالكفر لأنهم تأثروا بالفلسفة اليونانية الوثنية. وهكذا لم يكن في إمكان ابن رشد أن يحتل مكانة مرموقة في العالم الاسلامي فظل هامشيا إلي يومنا هذا, ومن هنا جاء اقتراحي بضرورة تأسيس رشدية عربية تكون جسرا لإعادة التواصل بين العالم الاسلامي والعالم الغربي. والسؤال إذن: ما مدي فاعلية مؤتمر القاهرة في تأسيس الرشدية العربية؟ ليس من الميسور الجواب عن هذا السؤال إذ تداخلت الفاعلية مع عدم الفاعلية. الفاعلية واردة في انعقاد ندوة فلسفية في نيويورك( بافلو) امتدادا لمؤتمر القاهرة الدولي تحت عنوان ابن رشد وتأثيره: احتفاء بذكري جورج حوراني. وقيمة حوراني كامنة في أنه لبناني وعين في جامعة متشجان بأمريكا عام1950 أستاذا لتاريخ الفلسفة الاسلامية, ثم أستاذا للفلسفة بنيويورك- بافلو عام.1960 وكان منشغلا بالكشف عن الينابيع العقلانية للفكر الاسلامي فترجم كتاب فصل المقال لابن رشد وقدم له بدراسة وافية(1961) وألف كتابا عن العقلانية الاسلامية(1971). وبعد كفاح مرير حصل علي لقب أستاذ متميز مع اضافة لها مغزي: علي الرغم من أنه قادم من فكر اسلامي وحضارة اسلامية. هذا عن الفاعلية, أما عن عدم الفاعلية فقد تمثل في مجلة ألف الصادرة عن الجامعة الأمريكيةبالقاهرة والتي أصدرت عددا خاصا( رقم16) في عام1996 عنوانه ابن رشد والتراث العقلاني في الشرق والغرب والعدد مكون من قسمين: القسم العربي والقسم الانجليزي. جاء في افتتاحيته المترجمة عن النص الانجليزي ان هذا العدد ليس الغاية منه تكريس ابن رشد أو توظيفه لصالح وجهة نظر محددة. واللافت للانتباه في هذه العبارة أنها ترجمة غير دقيقة للنص الانجليزي. فالترجمة الدقيقة هي علي النحو الآتي: إن هذا العدد لا ينشد تكريس ابن رشد أو تحويله إلي أيقونة دولية, ولا يقصد إلي احتوائه في رؤية محددة. ومن البين أن النص الانجليزي يشي بمطاردة تأويل معين لابن رشد مع تحقير لهذا التأويل. والسؤال إذن: ما هو هذا التأويل سيئ السمعة؟ هو التأويل الوارد في بحثي المعنون مفارقة ابن رشد والذي فيه دللت علي أن فلسفة ابن رشد هي من جذور الإصلاح الديني في أوروبا في القرن السادس عشر ومن جذور التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر. ومن ملامح عدم الفاعلية أيضا ما ارتآه المستشرق الهولندي شتيفان فيلد وتلميذته أنكه فون كوحلجن من أن إحياء فلسفة ابن رشد أمر محال لأنها محاولة عبثية, إذ إن البرهنة علي التكافؤ بين القيم الاسلامية والقيم الغربية مازالت غائبة, واذا ظلت غائبة فإن العرب لن يكونوا شركاء للأوروبيين. والمفارقة هنا أنه في أمستردام عاصمة هولندا أنشئ في جامعة أوترخت أستاذ كرسي ابن رشد الذي كان يشغله حامد نصر أبو زيد. والسؤال إذن: بعد موت أبو زيد ما هو مصير ذلك الكرسي المسمي كرسي ابن رشد؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة