أنا واحد من بين كثيرين يعتقدون في قدرة مصر على كسر احتكار السلاح وتصنيعه من جديد، وأقول عليها استئنافه وليس البدء في نشاط جربته ومارسته بكفاءة عالية في السابق وما زالت تصنع بعضه بقيود أكثر وظروف أصعب. تسببت فيها التبعية والهيمنة الغربية على صناعة تظل محكومة بمصالحها وبأمن الدولة الصهيونية، ومع الحفاظ على مصادر الطاقة والغاز والسيطرة عليها. ولا يمكن فصل الموقف الأمريكي من تقليص المساعدة العسكرية عن رفض واشنطن لثورة 30 يونيو، وعدم قبولها بتأييد الملايين لها، وكانت السفيرة الأمريكية السابقة ‘آن باترسون' قد وفرت الفرص والإمكانيات المعجلة بتفكيك المجتمع والدولة المصرية، وركزت اهتمامها على جماعات وطوائف وأتباع مذاهب وقبائل وشجعتهم على التحول إلى بؤر إنفصالية وكيانات انعزالية متناحرة؛ سلاحها العنف والمال والتضليل، ولم يتح لها الثوار فرصة استكمال ذلك المخطط، وكان دورها أحد أهم أسباب خروج الملايين إلى الشوارع للمرة الثانية، وما زالت توابع هذا الخروج مستمرة حتى الآن. قصة السلاح في مصر؛ ليست بنت اللحظة، وإن أضفت هذه اللحظة عليها جوا من الاهتمام والقلق. وفي محاولتنا الرد على السؤال المعلق عن إمكانية كسر احتكار السلاح وتصنيعه علينا الإمساك بمفاتيح القصة وكشف ما يحيط بها من التباس وغموض. كنا قد وصلنا في مقالاتنا السابقة إلى أن العقيدة العسكرية تغيرت وحملت مضمونا وطنيا بسبب كسر احتكار السلاح في خمسينات وستينات القرن الماضي، وتجسدت ‘العقيدة القتالية العربية' على أعلى مراتبها في 1973، بتفاصيلها التي أشرنا إليها، ومن فاتته ذلك يمكنه الرجوع إليها. ومنذ عودة احتكار السلاح رجعت العقيدة العسكرية المصرية إلى ما يشبه ما كانت عليه إبان الاحتلال، وتوافقت العقيدتان؛ الأمريكية (الغربية) والمصرية (الانعزالية)، وبدأ ذلك بإعلان السادات أن حرب 1973 آخر الحروب، ولو ادعى أنها آخر الحروب العربية الصهيونية أو بمعنى أصح آخر حروب التحرير والاستقلال لكان كلامه مقبولا. وعبرت العودة عن نفسها في انتظام مناورات ‘النجم الساطع′، وفي المجهود العسكري الأمريكي المصري المشترك. ويمر القرار العسكري المصري والعربي باختبار حقيقي وهو يواجه توابع ثورتين عظميين في أقل من ثلاث سنوات، وهو قرار لا يمكن له إلا أن يكون جزءا من قرار سياسي وطني مستقل؛ متحرر من التبعية، وهو قرار ما زال غائبا، والمعنيون باتخاذه أدنى من مستوى الطموح الثوري، الذي ما زال له التأثير الأكبر على المواطن العادي، حتى أنه صنع رأيا عاما ضاغطا يلح في فض الاشتباك بين عقيدة القتال الأمريكية والمصرية، ولا يعني ذلك طلبا للحرب، إنما من أجل تعديل ميزان القوى العسكري ليعتدل ميزان القوى السياسي الداخلي والعربي، فتنتهي العلاقة المختلة؛ القائمة على ‘سلام' زائف وإرادة مكبلة؛ ذات اتجاه واحد خادم للاستيطان وضامن لتفوق الدولة الصهيونية على عموم المنطقة، وأساس تصحيح العلاقة هو موقف ندي وسلام حقيقي؛ ينبذ الاستيطان ولا يقبل بالعنصرية، ويستبدل التبعية بتعاون يقوم على الاحترام المتبادل وتأكيد المصالح المشتركة. انهارت العقيدة القتالية العربية، وكانت قد حققت أعظم صور التضامن العربي والإرادة القومية الواحدة في 1973، ودخول مصر وسورياوفلسطين الحرب، وإرسال الجزائر وليبيا والمغرب والسودان والعراق والأردن قوات برية وجوية ومعدات دعما للجيشين المصري والسوري، واستُخدِم النفط العربي سلاحا، وتوقف ضخه الى الولاياتالمتحدة وأوربا؛ ردا على الدعم السياسي والعسكري المباشر للدولة الصهيونية وتحطم الموقف العربي الواحد من العدوان الصهيوني، وكان قد عبر عن نفسه في قمة الخرطوم في أغسطس 1967 بعد الهزيمة مباشرة بلاءاته الأربع: ‘لا تفاوض، ولا صلح، ولا اعتراف، ولا تفريط في الحق الفلسطيني'!!. ولعب السادات الدور الأساسي في تقويض ذلك الموقف الموحد؛ أثناء الحرب وبعدها، وبدأ برسالة بعث بها إلى ‘صديقه' كيسنجر في اليوم الثاني للحرب؛ يخبره فيها بطبيعة الحرب بأنها ل'التحريك' وليست ل'التحرير'، وكانت فرصة الثعلب الأمريكي، فيسرع ليزف الخبر إلى ‘غولدا مائير'، ومن جانبها بدأت تعد لاختراق خطوط القتال المصرية حتى حدثت ‘ثغرة الدفرسوار'، وتوالت التنازلات في مباحثات فض الاشتباك الأول، ومفاوضات الكيلو 101، حتى مبادرة السادات للذهاب للقدس المحتلة في مثل هذا الشهر سنة 1977، وتوقيع اتفاقية ‘كامب ديفيد' 1978، ومعاهدة ‘السلام' 1979. وبذلك قضي على العقيدة القتالية العربية وأُغلق الباب أمام حل عربي عادل؛ بدعوى أن 99′ من أوراقه بيد واشنطن، وبذلك احتل السادات في التاريخ مكانة مؤسس حقبة الانحطاط العربي المستمرة حتى اليوم، رغم ما كان يمكن أن يجنيه بفضل قرار الحرب الذي اتخذه مرغما، وكان في صالحه، لكن ‘الطبع يغلب التطبع′. وبدأت الحلول المنفردة، وبردت الجبهات الساخنة واشتعلت الجبهات الداخلية في فلسطين ولبنان والعراق، ومؤخرا تونس وليبيا وسوريا ومصر، وتحولت حروب التحرير والاستقلال العربية الى معارك عربية عربية وداخلية أهلية لا تستثني أحدا؛ تتغذى على الفتن والصراعات الطائفية والمذهبية والانفصالية والمناطقية لرسم خرائط جديدة تجعل من الوطن العربي أثرا بعد عين. وتحت إدارة السادات ومن بعده مبارك دُفعت القوات المسلحة لدخول حروب تخدم المصالح الأمريكية والدولة الصهيونية، فضلا عن التعاون الأمني، الذي لا يعلن عنه، ووصل إلى مستويات غير مسبوقة؛ اعتاد فيها ضباط صهاينة لقاء ضباط مصريين في اجتماعات منظمة، زادت وتيرتها على ضوء ما يجري في سيناء. ونتج عن ذلك نقل قوات مصرية إلى شرق سيناء، بمساعدة ‘القوة المتعددة الجنسيات'؛ المكونة أساسا من قوات أمريكية تراقب تنفيذ اتفاقية ‘السلام'. وتقدر القوات ما يعادل لواءين ميكانيكيين في المنطقتين ‘ب' و'ج' معهما دبابات وطائرات أباتشي. وتتصدى هذه القوات للمجموعات ‘الجهادية' وتنظيم ‘القاعدة'، وتمنع التسلل والتهريب من سيناء إلى غزة وبالعكس، وأغلقت 800 نفق تقريبا بين سيناء والقطاع، وتقيم حرما حدوديا عرضه 500 متر بطول أربعة عشر كيلومترا، وفي هذه المرحلة أوكل ملف العلاقة مع سلطات الحدود الصهيونية إلى ‘المخابرات العامة'، تسندها القوات المسلحة. وتقلص دور وزارة الخارجية في متابعة ملف شائك ومعقد!!. ويبقى الموقف الفلسطيني وقد انزلق إلى مزاد التنازلات، وألقى قطاع عريض من نخبه بنفسه في أتون الفتن والصراعات، المذهبية والطائفية والانفصالية، ومنهم من أعطى ذلك أولوية على التحرير والعودة واسترداد الأرض المغتصبة، واقترب بذلك من دوائر السادات وخداع ‘أصدقائه' كيسنجر وكارتر وبيغن، وقبل بضغوط مبارك ‘الكنز الاستراتيجي للصهيونية'، واستمرت منظمة التحرير الفلسطينية في تفاوض عبثي حقق أكبر قدر من التنازلات، وآخرها ما يثار حول التنازل عن حق العودة، الذي لم يتصور أحد أنه قابل للتفريط مهما كان الظرف وتعقيداته. باندثار ‘العقيدة القتالية العربية' تخلى النظام الرسمي العربي عن ثوابت وطنية وقومية ودينية حكمت قضية العرب الأولى، وهي قضية فلسطين.. ولم تكن التحركات التي شهدتها المنطقة خلال الأسابيع الأخيرة خارج ذلك السياق؛ جاءت نتيجة امتعاض مصر من الموقف الأمريكي بتخفيض المساعدة العسكرية، وتلويحها بإمكانية كسر احتكار السلاح مرة أخرى، ولاحت نيتها في تنويع مصادره، وزاد عدد الوفود الروسية إلى القاهرة، وتوالى وصول مسؤولين مصريين إلى موسكو؛ طلبا لعودة التعاون في مجالات الاقتصاد والتصنيع والطاقة النووية والزراعة. وكان لهذه التحركات علاقة بمستقبل ‘السلام' بين القاهرة وتل أبيب، والتي قال فيها ‘إهود يعاري'؛ زميل متعاون مع معهد واشنطن، وخبير في شؤون الشرق الأوسط، ويعمل في القناة الثانية للتليفزيون الصهيوني (2/ 10/ 2013)؛ قال إن قوانين اللعبة تغيرت ولمدى زمني طويل في المنطقة، في أعقاب عزل مرسي، ويرى أن الحكومتين الصهيونية والمصرية لهما تفسير مماثل إلى حد ما، بغض النظر عن خلافاتهما حول القضية الفلسطينية. من حيث عدم الارتياح لسياسة واشنطن في المنطقة؛ التي ينصب اهتمامها على إقامة تعاون صهيوني مع الدول العربية للتوازن مع إيران؛ وانتابهما القلق من صعود المتطرفين ‘الإسلاميين' في سوريا. ورغم حصر القاهرة لنطاق علاقاتها مع تل أبيب، لكن للحكومتين مصلحة في التنسيق بسبب ما يجري في سيناءوغزة. ويضيف إذا كانت إدارة أوباما والكونغرس الأمريكي يُشجعان هذا الاتجاه، فبإمكانهما دعم الركيزة الأساسية الوحيدة للاستقرار في منطقة شديدة التقلب. بغض النظر عمن يتم انتخابه رئيساً لمصر في العام المقبل، وقد يكون شخصا راغباً في تجاوز السلام البارد، التي تمت صياغته من قبل السادات ومبارك في ضوء تنامي مشاعر مناهضة ل ‘حماس′ في مصر حالياً، والحفاظ على المستويات الحالية للمساعدات الأمريكية قد يسهل هذا التحول، ويساعد الرئيس الجديد على تجاوز دعوات عامة لاتباع نهج ناصري جديد يترتب عليه سياسات معادية لأمريكا والدولة الصهيونية. ويأخذ ‘أهود يعاري' من الانتشار غير المسبوق للقوات المصرية في سيناء دليلا على عدم حاجة البلدين إلى عمل محفوف بالمخاطر لمراجعة معاهدة ‘السلام' أو الملحق العسكري. ويستشهد بالمرشح الرئاسي عمرو موسى، وهو يكرر في مناسبات عديدة أن زحزحة ‘طوبة' واحدة في بنيان تلك الاتفاقيات يهدم البنيان بكامله. وان تمكنت الحكومتان من التوصل إلى ترتيبات شبه دائمة في سيناء؛ تعزز الجهود الأمنية بما يسمح للمسؤولين المصريين بطمأنة شعبهم إلى أن ‘القيود السابقة على السيادة' في سيناء لم تعد قائمة. ونتيجة لذلك، تكون الفرصة مواتية لاستمرار معاهدة ‘السلام' في ظل اضطرابات لا تزال قائمة في وادي النيل!!. وهكذا أخذتنا التحركات الأخيرة في مصر والمنطقة بعيدا عن الإجابة المباشرة عن سؤالنا المعلق عن إمكانية استئناف تنويع مصادر السلاح وتصنيعه، ويبدو أننا في حاجة إلى مساحة أخرى من الوقت والكتابة للرد على نفس السؤال المعلق.