لا تمر خطوة التفكير في كسر احتكار السلاح في مصر أو غير مصر مرور الكرام، فثمة أثمان يجب أن تدفع، والقادر على دفع الثمن هو الرابح في النهاية، وقد يدخل التاريخ من بابه الواسع. وسبق لهذه الخطوة أن غيرت الوطن العربي تغييرا جذريا، وأكدت استقلال وتحرير الإرادة الوطنية، مع ما كان لها من تداعيات وتوابع زلزلت الأرض تحت أقدام قوى الهيمنة القديمة والجديدة. ولو لم تتخذ مصر هذه الخطوة في خمسينات وستينات القرن الماضي ما استطاعت أن تلعب الدور الذي لعبته في نهوض بدايات النصف الثاني من القرن العشرين. وكانت مصر في ذلك الزمان طامحة في شق طريقها المستقل للتنمية؛ ومتطلعة إلى كسر احتكار الثروة والسلطة، وزيادة الدخل القومي، وإعادة توزيع المِلكية على أسس أكثر إنسانية وعدلا؛ فتتحقق العدالة الاجتماعية، ويذهب الفقر والجهل والمرض والعبودية، ولم يكن ذلك الأمر ليستقيم دون كسر احتكار السلاح، في وقت كان عبد الناصر يبذل قصارى جهده لتحقيق حلم بناء سد عند أسوان يمنع تبديد مياه النيل في البحر المتوسط؛ ويغير خريطة مصر البشرية والاجتماعية والاقتصادية تغييرا كاملا. لجأت مصر إلى الولاياتالمتحدةوبريطانيا والمصرف الدولي للإنشاء والتعمير لتدبير التمويل اللازم، ولأن المبلغ كان أكبر من قدرة المصرف على الإقراض فُوتحت دول كبرى في المساهمة، وأصدر المصرف الدولي قراره بتمويل المشروع في 1955، وتُمنح مصر بمقتضى القرار قرضا قيمته 200 مليون دولار، وتدفع واشنطن ولندن 130 مليون دولار والباقي تتحمله مصر، وكل هذا انتهى مع انسحاب الولاياتالمتحدة، وبعدها حصلت مصر على قرضين من موسكو.. الأول، وقيمته 400 مليون روبل لتغطية تكلفة المرحلة الأولى، والثاني حصلت عليه مع بدء المرحلة الثانية وقيمته 500 مليون روبل. وفي ظل علاقات مصر المتردية مع بريطانياوالولاياتالمتحدة بسبب صفقة الأسلحة التشيكية عاد السفير المصري في واشنطن أحمد حسين لمزاولة مهامه من جديد في نهاية سنة 1955، وفي محادثاته مع وزير الخارجية الأمريكي، جون فوستر دالاس؛ أوضح له أهمية دعم أمريكا لمصر في بناء السد العالي. ويرى أن الحكومة المصرية ما زالت تفضل التعامل مع المصرف الدولي بالرغم من الشروط السوفييتية الأفضل، ولفت النظر إلى ما يترتب على إرجاء القرار؛ لبلد يعلق آمالا كبارا على مشروع من أكثر مشاريعها أهمية، والإرجاء يؤثر على قدرة الحكومة المصرية في تنفيذ مشروعاتها الحيوية، ولا تجد مفرا من قبول العرض السوفييتي. وعندما شارك أنتوني إيدن رئيس الوزراء البريطاني في المفاوضات الخاصة بتمويل المشروع، لم يكن اهتمام وزير الخارجية الأمريكي بنفس درجة الاهتمام البريطاني، وكان النفوذ السوفييتي هو شاغله الأكبر، بجانب رغبته في تحقيق حلمه بعقد ‘صلح' بين مصر والدولة الصهيونية، واتسعت الشقة لدرجة أن السفير البريطاني في واشنطن أبلغ المسؤولين فيها يوم 17 يوليو 1956 بان المملكة المتحدة لا تحبذ انسحاب الولاياتالمتحدة من تمويل مشروع السد، وتشير مصادر إلى أن ذلك كان على سبيل المناورة، ولم تمر الساعات حتى فوجئ العالم بإعلان دالاس الانسحاب في 19 يوليو؛ أي بعد يومين من تصريح السفير البريطاني. ولم يمر القرار الأمريكي بلا رد فعل من جانب مصر، وبعد اسبوع واحد اتخذت مصر موقفا هز العالم، وأصاب الأوساط الرسمية الغربية بالارتباك، فقد أعلن عبد الناصر في خطاب اعتاد أن يلقيه في ذكرى 26 يوليو والاحتفال بمرور أربع سنوات على تنازل الملك فاروق عن عرش مصر ومغادرته الاسكندرية إلى غير رجعة، وكان الإعلان هو ‘تأميم شركة قناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية' وجاء ردا سريعا ومباغتا احتجاجا على سحب تمويل السد العالي!!.ووصلت انباء التأميم إلى ايدن وهو يتناول العشاء مع الملك فيصل، ملك العراق، ورئيس وزرائه نوري السعيد في 10 داوننغ ستريت مقر رئاسة الوزراء، ونصح الملك العراقي بضرب عبد الناصر ضربة موجعة. وفور انتهاء العشاء استدعى إيدن على الفور القائم بالأعمال الأمريكي والسفير الفرنسي، وطلب الاجتماع بكبار مساعديه ومستشارية السياسيين والقانونيين ورئيس القضاء، والتقى اثنين من رؤساء الأركان؛ هما الفيلد مارشال سير غيرالد تيمبلر والادميرال إيرل مونتباتن. واستمرت اللقاءات والاجتماعات حتى الرابعة فجرا. ولنعود قليلا إلى زيارة قام بها وزير المالية المصري عبد المنعم القيسوني للندن وواشنطن في نوفمبر 1955 للتفاوض حول السد العالي، ولاحظ الوزير المصري أن شبح صفقة السلاح التشيكية يخيم على قاعة الاجتماعات، حتى أن دالاس حَمّل القيسوني رسالة إلى عبد الناصر؛ يلفت فيها نظره إلى أن الاتحاد السوفييتي يمد مصر بالسلاح وهذا معناه الموت، والولاياتالمتحدة ستساعد مصر على بناء السد العالي وهذا يعني الحياة!! ويأمل من الرئيس عبد الناصر أن يفكر فيما أسماه دالاس ‘الفارق بين نوعي المساعدة وأن يقرر بعد ذلك من هم أصدقاء مصر الحقيقيين'. وأساس تلك المواجهة بين القاهرةوواشنطن كان عدم الثقة في السياسة الأمريكية وتحسبا لما كان يتوقعه عبد الناصر حين تحل مواعيد المتابعة السنوية للمساعدة، فتتجدد الضغوط وتزيد التهديدات، وتأكد له ذلك بعد عودة الملك سعود من زيارة لواشنطن في 1957، فقد سمع من دالاس أنه عندما قرر المساعدة في بناء السد كان هدفه ربط مصر بواشنطن لمدة عشر سنوات (المدة المحددة لبناء السد)، وخلالها يوضع عبد الناصر بين خيارين؛ إما إيقاف تعاونه مع السوفييت وإما أن يزاح عن الحكم!! ولم تكن مصر قد نسيت ما حصل في حرب فلسطين، فعندما حظرت الأممالمتحدة السلاح أثناء الحرب؛ طُبق الحظر على العرب فقط، وكان الصهاينة يحصلون على ما يكفيهم ويزيد، وإذا ما فرضت الأممالمتحدة حظرا جديدا، فسوف يشمل الاتحاد السوفييتي، وتحرم مصر من السلاح، وبحثت مصر عن حل إذا ما وقع ذلك الاحتمال، وفكرت في أن يأتيها السلاح عَبْر الصين، التي لم تكن عضوا بالأممالمتحدة بعد، وهذا لا يلزمها بتنفيذ قرارات المنظمة الدولية. كان مسار العلاقات مع الصين في تطور، وجسور الصداقة ممتدة بين شو إن لاي وعبد الناصر منذ مؤتمر باندونغ، وكان رئيس الوزراء الصيني وسيطا لأول صفقة سلاح. وفي ذروة التوتر المحتدم مع الغرب وقعت الصين اتفاقا للتعاون الثقافي مع مصر في 15 إبريل 1956، وبعدها بشهر في 16 مايو سحبت مصر اعترافها بحكومة فورموزا (تايوان حاليا)، وكانت معروفة باسم ‘الصين الوطنية'، وبعد أسابيع من الاعتراف أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس، ثم صدر بيان مشترك من الحكومتين المصرية والصينية في 18 أغسطس بإقامة العلاقات وتبادل السفراء، وكانت الصين قد أيدت رسميا حق مصر في تأميم شركة قناة السويس. وإذا كان تأميم القناة من أهم تداعيات ما بعد كسر احتكار السلاح واستكمال تحرير الإرادة الوطنية، إلا أن ما تم على مستوى التوازن العسكري لم يكن أقل أهمية، فتغيير ميزان القوى العسكري انعكس على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، وأدى إلى إنهيار ما كان يعرف ب'استراتيجية شرق السويس′، وكانت تهدف لتعزيز الوجود البريطاني ودوره النشط في غرب آسيا والجزيرة العربية والخليج، وحدث الانهيار مع الانسحاب البريطاني النهائي في الستينات، وها هو يعود الآن بشكل سافر وواضح. والتغيير الذي طرأ على العقائد القتالية في المنطقة كان ملموسا، ومن المعلوم أن العقيدة القتالية أساس الفكر العسكري لأي جيش، وتمثل الاستعداد والتصميم والتنظيم والقتال، وتشمل أسس وأساليب إعداد القوات وتجهيزها وتدريبها لخوض الحرب وتحقيق أهدافها، وباختصار فهي فن الحرب الذي تأخذ به القوات المسلحة سلما وحربا مسترشدة بدروس تجاربها السابقة وسعيها للتطور والتزود بأحدث النظريات العسكرية والعلوم الاستراتيجية، وترجمة كل هذا إلى خطط وتوجيهات وتكليفات، وأوامر ومبادئ نظرية وعملية؛ تتحدد على أساسها آليات تعبئة الدولة وإعداد القوات المسلحة للحرب. وتمثل العقيدة القتالية عنصرا هاما في رفع كفاءة الجيوش وضمان استقرار الدولة. وتتناول الدراسات العسكرية والاستراتيجية تعريفات عدة للعقيدة العسكرية. وأهم تعريفاتها أنها منظومة نظرية وعملية وميدانية لمجتمع ما يتعامل بها في ظروف الحرب وتحريك الجيوش لخوض غمارها، والامساك بفرص النصر فيها. ويترتب على تغيير السلاح وتنويع مصادره تغيير آخر في ‘العقيدة القتالية'، وقد تمت بلورة ‘عقيدة قتالية عربية'؛ من خلاصة المعارك، ودروس النصر وعِبَر الهزيمة، وتراث التاريخ العسكري المصري والعربي القديم والمعاصر. وغِنَى التجربة العسكرية المصرية منذ نشأة الجيش الوطني في عصر محمد علي؛ ذلك الغنى تعزز في خمسينات وستينات القرن الماضي، بعد أن تخلى الجيش المصري عن العقيدة العسكرية الاستعمارية البريطانية، وكانت قد قامت على إضعافه وتقليل عدد أفراده، الذين كانوا مجرد رديف لقوات الاحتلال، وخدمة مقاتليها والعمل على راحتها والاستعانة به في أعمال الأمن الداخلي والاستعراضات الملكية وموكب المحْمَل في وداع كسوة الكعبة، وأضيف إليها خبرة التعامل مع السلاح السوفييتي والمدربين السوفييت. السلاح السوفييتي مختلف كما ونوعا عن السلاح الغربي، واستفادت منه الجيوش العربية في تطوير قدرتها العسكرية وامتلاكها عقيدة قتالية خاصة بها، وتجسدت في حرب الاستنزاف، ثم حرب 1973؛ تنوعت فيهما وسائل وأساليب الاشتباك والحرب، من غارات أشبه بغارات الفدائيين وهجمات المقاومة المسلحة؛ وعمليات نوعية تعتمد التسلل والكر والفر، ثم أظهرت الحرب النظامية قدرة عالية على تحريك أكثر من جيش على أكثر من جبهة؛ في مصر وسورية وفلسطين، ومشاركة متنوعة من الجيوش العربية؛ سواء بكتائب قتالية أو بالتسليح أو بمشاركة قوات رمزية، ولولا الاختراق والاستسلام لكانت حربا مصرية سورية فلسطينية عربية مثالية، ولتحولت من ‘حرب تحريك' محدودة إلى ‘حرب تحرير' شاملة، ولظهرت في هذا الشرق قوة كبرى؛ تمنع التقسيم وتوقف زحف الإبادة الجماعية الذي حل بالمنطقة مع غزو الكويت!!. هذه بعض تداعيات كسر احتكار السلاح، الذي بدأته مصر في 1955 قبل جلاء القوات البريطانية المحتلة عن أراضيها، وفرصة مصر مواتية الآن رغم ما يجري فيها من استنزاف للقوات المسلحة وتشتيت للشرطة وهدم صروح الدولة، ويمكن لمصر أن تستأنف تنويع وتصنيع السلاح من جديد، ويبقى السؤال عن إمكانية تحقيق ذلك؟. وهذا ما أنوي تناوله إن شاء الله.