لم يكن السد العالي مجرد بناء هندسي قررت مصر تشييده فشيدته كما هو الحال في جميع سدود العالم التي لا تحتاج إلا إلي القرار والتمويل, ولكنه كان وسيظل قصة كفاح اختلطت بدماء آلاف المصريين. حيث كان الإصرار علي إقامته سببا غير مباشر للعدوان الثلاثي علي مصر في عام1956 كما أنه ظل مثار استهداف من الكثيرين وآخر مثال علي ذلك ما حدث منذ عامين تقريبا عندما هدد افيجدور ليبرمان رئيس حزب إسرائيل بيتنا الإسرائيلي اليميني المعارض آنذاك بضرب السد بالقنابل النووية إذا شنت مصر هجوما عسكريا علي إسرائيل. وبالنسبة لكون السد العالي السبب غير المباشر للعدوان الثلاثي الذي قامت به بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر في عام1956 فالقصة ببساطة هي أن مصر عندما اتخذت قرار بناء السد كانت تحتاج إلي تمويل دولي لأن إمكاناتها آنذاك لم تكن تكفي لتوفر تكاليف المشروع التي قدرت بنحو مليار دولار, وبالفعل لجأت للبنك الدولي والولاياتالمتحدة وبريطانيا للحصول علي قروض أو منح لاستخدامها في إتمام المشروع العظيم, ولأن مصر كانت في تلك الفترة قد بدأت تظهر وجهها القومي العربي وتشدد علي ضرورة تحرير فلسطين, كما حصلت علي صفقة سلاح من الكتلة الشرقية التابعة للاتحاد السوفيتي, فإن الغرب اعتبر ان حاجة القاهرة لتمويل السد ستذلها له وتجبرها علي تغيير سياستها, ولذا لم يكن قرار أمريكا سحب عرضها في المساهمة في تمويل مشروع السد العالي مثار مفاجأة كبيرة للدوائر السياسية, بقدر ما أثارته الطريقة والملابسات التي تم بها هذا القرار والأسلوب الذي اتبعته لإبلاغه لمصر, فقد كانت هذه صفعة لوجه مصر لم يقبلها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والذي وجد أن الرد المناسب عليها يتمثل في إصدار قرار تأميم شركة قناة السويس واستخدام إيراد القناة لبناء السد, وهو قرار كان يلح علي تفكير جمال عبد الناصر منذ بدأ تفكيره في الثورة, ولكنه كان يري أن الوقت غير مناسب إلي أن جاء الرفض الأمريكي البريطاني المنسق لتمويل السد. فعندما قررت مصر بناء السد اتجهت إلي الولاياتالمتحدة وانجلترا والبنك الدولي بحثا عن تمويل بناء السد وأقر المشروع خبراء البنك الدولي في سنة1955, فتقدمت كل من إنجلترا وأمريكا في خريف1955 بعروض جزئية للمشاركة في تمويل قروض مشروع بناء السد العالي تبلغ في جملتها130 مليون دولار واشترط لهذه المعونة موافقة البنك الدولي علي تقديم قرضه لمصر البالغ200 مليون دولار. وسافر الدكتور عبد المنعم القيسوني وزير المالية في نوفمبر1955 إلي واشنطن ليبدأ التفاوض حول التمويل مع رئيس البنك الدولي يوجين بلاك ومع ممثلي الحكومة الأمريكية والبريطانية من أجل المساهمة في تمويل المشروع, وواصلت مصر مفاوضاتها مع البنك الدولي مما أدي في النهاية إلي أن يعلن البنك الدولي يوم17 ديسمبر1955 أنه سيقوم بتمويل مشروع بناء السد العالي مشتركا مع إنجلترا وأمريكا, وأن البنك سيقوم بدفع نصف العملات الصعبة, بينما تقوم أمريكا وبريطانيا بدفع نصف التكاليف للمرحلتين الأولي والثانية. كانت عملية تمويل قروض مشروع بناء السد العالي كلها مشروطة منذ البداية, فقد صاحب إعلان البنك الدولي مذكرة الغرب- بريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية وبها شروط مجحفة تتناول السيادة الوطنية علي مصر كأساس لتنفيذ المشروع: وتمثلت الشروط في أن تتعهد مصر بعدم إبرام أي اتفاقات مالية أو الحصول علي أي قروض دون موافقة البنك الدولي وأن يكون للبنك الدولي الحق في مراجعة ميزانية مصر وأن تتعهد مصر بتركيز تنميتها علي مشروع السد العالي فقط وتخصيص ثلث دخلها لمدة عشر سنوات لهذا الغرض و استبعاد الكتلة الشرقية كلية من المشروع وان تجري عقود الإنشاء علي أساس المنافسة. وكان الهدف من كل هذه الشروط في الحقيقة, هو إبعاد السوفيت عن المنطقة, خاصة بعدما لوحظ أن عبد الناصر يحاول الحصول علي السلاح الذي يحتاجه من الروس أو الكتلة الشرقية لكي يتمكن جيش مصر وقواتها المسلحة من الدفاع عن مصر وتطوير القوات المسلحة المصرية, وفي نفس الوقت الحصول علي التمويل اللازم لبناء السد العإلي من الغرب وأمريكا. كان من الطبيعي ان ترفض مصر هذه الشروط لأنها تؤدي إلي سيطرة الغرب علي اقتصاد مصر, ثم تنتهي بالتالي إلي الإطاحة باستقلالها كما حدث لمصر في عهد الخديو إسماعيل نتيجة لحفر وبناء قناة السويس, وهذا يعني أن يعيد التاريخ نفسه مرة أخري وهو وضع ترفضه الثورة. ورغم ذلك الرفض لم تتخل مصر عن هدفها في ضرورة بناء السد العالي لأهميته للاقتصاد المصري وواصلت مفاوضاتها مع واشنطنولندن والبنك الدولي لتعديل الشروط, وجري بالفعل الاتفاق المبدئي مع البنك الدولي علي شروط أفضل ولكن جون فوستر دالاس وزير خارجية الولاياتالمتحدة تعمد استدعاء السفير المصري في واشنطن أحمد حسين الي مكتبه وابلغه بأن حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية قد وصلت الي قرار بأن الاقتصاد المصري لا يستطيع أن يتحمل أعباء بناء السد العالي, ومن ثم قررت حكومة واشنطن سحب عرضها بتقديم المعونة المالية وقدمت كتابا تعلن فيه الحكومة الأمريكية سحب عرضها وقدره56 مليون دولار للمشاركة في تمويل قروض مشروع بناء السد, وفي الوقت نفسه وزع دلاس علي الصحافة نص خطاب الرفض قبل أن يصل رسميا الي الحكومة المصرية. ولم يختلف الوضع في لندن, فقد استدعي في اليوم التالي السير هارولد كاشيا, الوكيل الدائم لوزارة الخارجية البريطانية السفير المصري في بريطانيا وأبلغه أن بريطانيا قد قررت بدورها سحب العرض الذي كانت تقدمه لمصر وقدره نحو14 مليون دولار للمشاركة في تكملة تمويل قروض مشروع بناء السد العالي. ولم ينقض اليوم قبل أن يعلن' يوجين بلاك' مدير البنك الدولي أن البنك الدولي لا يستطيع أن يقرض مصر مبلغ المائتي مليون دولار لتمويل مشروع بناء السد العالي كما وعد مصر قبل أسبوع, وذلك بسبب القرارين الأنجلو أمريكي. بهذا أيقنت مصر أن البنك الدولي يخضع للدول الغربية وظهر لمصر أن سحب أمريكا لعرضها هو بداية مؤامرة سياسية محكمة الأطراف, معاقبة من أمريكا لمصر بعد فشل الولاياتالمتحدة في اثناء مصر عن شراء السلاح من الكتلة الشرقية, وبذلك كسر احتكار الغرب لتوريد السلاح للمنطقة ولذلك كان قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس هو القرار الذي كان بدوره السبب المباشر للعدوان الثلاثي ومع ذلك فشل العدوان وجري بناء السد وأصبحت القناة مصرية خالصة. [email protected]