لاشك أن الإنسان كائن مفكر بطبعه، حيث إن التفكير هو من الخصائص الذاتية لكل إنسان كما بينا سابقا. وربما يوهم ذلك أن الإنسان ليس بحاجة إلى تعلّم قواعد التفكير طالما أنه مفكر بذاته،إلا أن هذا التوهم يرتفع ببيان الفرق بين التفكير بوجه عام، وبين التفكير الصحيح. فالإنسان العربي مثلا يتكلم اللغة العربية بحسب طبعه الاجتماعي في بيئته العربية التي نشأ وترعرع فيها، ولكن كونه يتكلم العربية شيء، وكونه يتكلم العربية الصحيحة شيئا آخر، فهو من أجل ذلك ومع كونه عربيا يحتاج لتعلم قواعد اللغة العربية، ليجيد النطق الصحيح والفصيح. وكذلك الإنسان فمع كونه مفكرا بطبعه، إلا أنه في حاجة ماسة لتعلم قواعد التفكير إن أراد أن يفكر تفكيرا صحيحا ولا يخفي على العاقل أولوية تعلم قواعد التفكير على قواعد اللغة العربية، حيث إن الخطأ في الكلام وإن كان قبيحا عند أهل اللغة والبيان ولكن ليس بخطورة اللحن والخطأ في التفكير، فإن الخطأ في التفكير يؤدي إلى الخطأ والانحراف الفكري والسلوكي؛ مما يؤثر سلبا على مصير الإنسان في هذه الحياة وما بعدها. عملية التفكير: وقبل التعرض لبيان هذه القواعد، ينبغي علينا أن نغوص معا في أنفسنا لنكتشف أولا طبيعة عملية التفكير، وكيف تبدأ وكيف تنتهي، حيث يشكل ذلك مقدمة ضرورية مهمة لاكتشاف قواعد التفكير الصحيح. إن عملية التفكير تبدأ عند الإنسان عندما يواجه مشكلة علمية أو فكرية معينة مجهولة لديه، ومطلوب منه أن يحلها، ويتعرف عليها، كمن سمع لفظا معينا كالملائكة لا يعرف معناه، فيسعى للتعرف عليه ليتصور حقيقته في الواقع، أو كمن سمع خبرا معينا، كوجود حياة بعد الموت مثلا، فيسعى للتأكد من صحة هذا القول، وهل هو صحيح أم لا؟ هذه المواجهة مع المجهول تكون بمثابة الشرارة الأولى للبدأ في عملية التفكير، حيث ينطلق الإنسان من المطلوب معرفته أو إثباته، متجولا بين المعلومات الحاصلة عنده، باحثا عن المعلومات المناسبة للمطلوب،فيبحث عن المعلومات الرياضية للمطلوب الرياضي، والفيزيائية للمطلوب الطبيعي، والفلسفية للمطلوب الفلسفي، وهكذا . . وبعد تجميعها يقوم بتشكيلها على صورة وهيئة مناسبة للمطلوب. ويمكننا أن نضرب لذلك مثالا مشابها بالمهندس الذي يريد أن يبني بيتا في الخارج، فهو بعد أن يتصور البيت المطلوب في ذهنه، يقوم أولا بتجميع مواد البناء المناسبة للبيت من الأحجار والأخشاب والحديد والأسمنت وغيرها، ثم يؤلف بينها ويرتبها على طبق الصورة أو القالب الذي في ذهنه ثانيا؛ لكي يتحصل البيت في الخارج كما هو مطلوب منه. ونحن إذا تأملنا سائر الصناعات المختلفة كصناعة السيارات والنجارة واللوازم المنزلية المختلفة، وغيرها، لوجدناها تشترك جميعا في هاتين الحركتين، الحركة الأولى في تجميع المواد الخام المناسبة للمطلوب، ثم الحركة الثانية في ترتيبها على الصورة اللائقة حتى يخرج المصنوع إلى النور في صورته المطلوبة. وكذا المفكر إلا أن الفرق بينهما في كون المواد الخام عنده ليست هي الأحجار أو الأخشاب أو الحديد، بل هي المعلومات الحاصلة عنده، وأن المطلوب منه ليس هو صناعة البيوت أو السيارات في الخارج وإن كان هذا مسبوقا بنوع من التفكير أيضا بل المطلوب الأعلى هو تشييد صرح الفكر والمعرفة، وبناء رؤيته الكونية عن العالم والإنسان، وهو أفضل وأشرف الصناعات الإنسانية. وقيمة كل مصنوع إنما يكون من جهة مادته أو من جهة صورته، فكلما كانت مادته أجود، وصورته أجمل وأفخم، كان سعره أعلى وأغلى، والعكس صحيح، كذلك الأمر في قيمة الفكر الإنساني، فكلما كانت المواد المعلوماتية أدق وأشرف، والصورة الترتيبية لها أصح وأنسب، كانت قيمته العلمية والفكرية أعلى وأشرف. وكما أن الخطأ أو العيب في الصناعات يقع من جهتين، إما من جهة المادة، حيث تستعمل مواد رديئة أو مغشوشة، وإما من جهة الصورة، حيث يتم ترتيب المواد على صورة مشوهة أو غير لائقة، كذلك الخطأ في التفكير إنما يتصور أيضا على وجهين، إما من جهة ضعف أو فساد المعلومات المنتخبة من قبل الإنسان، وعدم تناسبها مع المطلوب إثباته، وإما من جهة سوء الترتيب والتنسيق فيما بينها، حيث توضع المعلومات على صورة مضطربة أو مشوشة. ولذلك فقد مست الحاجة إلى صناعة فكرية عقلية، نتعلم فيها كيفية انتخاب المعلومات المناسبة للمطلوب المجهول أولاً، ثم كيفية ترتيبها على الصورة الصحيحة ثانيا، وهذه هي قواعد التفكير الصحيح التي أشرنا إليها سابقا. وهذه الصناعة الفكرية هي صناعة المنطق، التي هي للفكر في الأذهان كالنحو للسان.