وأنا طفلة حين ماتت جدتي، دخلت لأراها معلنة التحدي للنبض داخلي، وجدتهم يصبون الماء عليها ويضفرون شعرها، لمست جلدها، كان طريا رخوا! كنت أشعر بها جيدا، وهي تبتسم وأنا العب بجسدها، حتى أني مددت يدي لأتمكن من سرقة ما تضعه من مال تحت رأسها وهي نائمة، لم أجد، كانت تنام على كنبة خشب. أحدث نفسي: غريبة لمَ هي مطمئنة هكذا! لم لا تصرخ بنا كعادتها لمغادرة المكان. كنت أود منحها بعضا من قوتي، لتصرخ في تلك المرأة. إنها تقلبها كما لو كانت تقلب طعاما في القدر، تفيض عليها الماء بغزارة، ثم لفتها وكأنها تلف طرد، غطتها بالملاءة البيضاء، لابد لي من موقف مع تلك المرأة. لابد من مؤامرة تصدمها، واتجهت ناحية بطنها وركلتها بكل قوتي وجريت. صرخت بقوة، فبادلتها النسوة بالخارج الصرخات ولكلِِ أسبابه. مضى بها الرجال على الأعناق محمولة، ونحن خلفها يتتبعنا صوت الصرخات. حدث شيئ ما بداخلي، ثمة موتي تطفو أمام عيني، السماء ملتهبة في صدري. رأيت نفسي ممددة على الألواح، ويد المرأة تقلبني وتغزو الماء على جسدي رأيت ِنفسي مغطاة بالشرشف، كنت جسديا، وعقليا أنا الميتة، صرخت بعمق الضوء لأحترق بداخلي، سقطت من الهذيان. كانت روحي حبيسة؛ أراها تحلق دون قيد، كنت كالطفل الذي ينزع من صدر أمه، أبحث عني لا أجدني. كيف يتم بداخل هذا الجسد الضعيف كل هذه الثورات، الموت يفرض نفسه بلا خجل، كنت أشعر بجسدي يتحلل، ظللت أردد: لا أرغب في الموت. في المساء أقيم سرادق العزاء، كانت الألفة العائلية واضحة، كعادتنا كمصريين لا نجتمع في الأفراح بالحميمية والألفة كما نجتمع في الموت. علا صوت القرآن في الحي، أسرعت إلي جمع من أبناء العمومة، وقفت بينهم، نخطط للعبة الحفرة على الأرض، وعلا صوتنا في الضحك على من يسقط بها, توالت الضحكات نجري ونتقاذف بالكرة والحبل تارة، حتى انتهى العزاء. وضعت جسدي النحيل على السرير، وزاغ بصري لأعلى، رأيت في سقف الحجرة، كل تفاصيل اليوم مرسومة بدقة وبألوان متشابهة تماما مع الحزن، شعرت أن السقف يقترب مني أكثر؛ فأكثر، حتى أني شعرت أن الرسومات التصقت بقلبي، وأن الألوان صبغت جسمي. بحثت عن الكرة وسط الرسومات لم أجدها! بحثت عن أبناء عمومتي لم أجدهم! لقد انمحت من الذاكرة لحظات السعادة، الأحزان كصفيحة علقت بجناحي لتكون كالجرس في روحي، كانت أي إشارة للموت تبكيني وتربك معدتي. كنت أرى الظلام نهاية العالم، أتذكر جيدا كم أمضيت ليال أصرخ من الرعب والفزع. كان الموقف لا يبرح ذهني حتى كبرت، وتزوجت، وانتفخت بطني. فعاد شبح الخوف يطاردني، حينما شعرت بانقباض في رحمي وضربات في ظهري، الماء يتدفق أسفل مني، صرخت بقوة، تذكرت النسوة وهن يصرخن، رأيت نفس الرسومات في السقف، بكيت نفسي، تلك المرة كنت أجد سببا لدخولي بوابة الوهم. توالت الصرخات مني, تصبب العرق من وجهي, تدفق الدم واختلط بالماء، اندفعت من كوة محشورة لتشاركني الصرخات، يستكين الألم بداخلي، شعرت بلذة الصراخ، تطلعت لها، تلمست جسدها الطري الرخو. رحت أتحسس بأصابعي رأسها, رأيت الممرضة وهي تغزوها بالماء, وتقلبها بيديها، ثم عادت بها وقد ألبستها الفستان الأبيض ملفوفة بشرشف أبيض، سألت الممرضة: لم هي مستكينة هكذا؟! تبسمت، شعرت بسعادة ولدت من طاقة وجودها. حين قالت: هي مازالت تشعر أنها بداخلك. مضت السحب بعيدة وألقيت الذكريات بمجرة أخرى، كنت أحاول التحرر من اللاشعور ولا أتتبعه بداخلي. رحت أسبح عكس طفولتي التي كانت تطفو ميتة فوق سفح عمري، قررت أنه من الخطيئة أن نتذكر. Comment *