لم أعد أذكر ما حدث بالترتيب، قبلتك، ثم قلت إنك أحببتني في صمت، ثم فتحت أزرار قميصي، ثم قبلتني، ثم حكيت لك حكاية أربكتني، ثم قبلتك، ثم احتضنتني، ثم أغلقت بابا خلفي وفتحت بابا للمخاوف، ثم تهادت السيارة بي عائدة إلي البيت، ثم قبلتك فقبلتني، أم حدث غير ذلك في ترتيب آخر لن نذكره أبدا. غرفة وحيدة ملاصقة لنافذة الصالة المطلة علي النهر، لم يحدث ما كنا نتوق إليه، خفنا، علي وعليك، والأرجح أن تكون الرغبات العنيفة قد ماتت مع الزمن وحلت محلها خبرة الضجر والحيطة والانتظار، لا تقل إني فقدت تلك الجذوة، دعني أنا أقول، لا تقل إنك تري السنين قد مرت علي جسدي، دعني أنا أريك بلا خجل، سأريك علامات جسدي، غدا أو بعد غد، لو عدت إلي أو عدت إليك، قبلة أخيرة تبلل شفتي بالندي كفت الدموع منذ برهة، اطمأن قلبك إلي قلبي. تعاهدنا في سذاجة، والعهد يذكرنا بما مضي من حب لم يكتمل، لن يكتمل، يبدأ حب جديد، لن نسميه حبا، سنسميه صداقة.. فرحة أبدية، الحب الحقيقي له هو وحده، هو أول من امتلكني، مازال نحيفا، شاحب الوجه، كما عهدته، مازال جالسا بيننا لكنك لا تراه، لا تسألني عنه، سأحكي لك حتي لو لم تسأل، يوما ستعرف أنه بيننا وأني بينكما. أكتب لك بعد أن أخذت حماما ساخنا في الصباح، وقفت تحت الماء المنهمر دقائق قبل أن أزيح الستار عن جسدي وأخطو خارج البانيو، دقائق من النشوة الخالصة، صمت يحملني إلي الداخل، عيناي مغمضتان علي صورتك، يغمرني الماء تغمرني أحاسيس هي شمس ونور وظلال، كأني عدت جميلة من جديد. أتحسس جسدي وأتخيل أنك معي، يدي ويدك معا، علي نهد البنت النحيفة التي لم تفلح بعد في أن تكون امرأة، علي بطن متكورة، علي تعاريج الخصر، علي أعلي الفخذ، الفرق بينك وبين الآخرين خبرتهم بجسدي، جهلك به، لم تلمسني قط حلمت بي فقط لن تلمسني قط، وربما فيما بعد تكف عن الحلم أيضا. قرار لا أعرف مصدره اتخذته وحدي، لا رادع سوي رغبتي في أن نظل أصدقاء، أن نكتشف الحالة دون أن نتلامس، قرار ضد الرغبة، ضد الطبيعة، متسق فقط مع تصور خلقته لنفسي فجأة، فرضته علي نفسي فجأة، تصور عن الحب، الأخلاق، العفة، لا أعرف تحديدا، أمهلني بعض الوقت لأفكر، لنقل إنه تصور ضد الطبيعة علي طول الخط، مع التربية علي طول الخط. لو ظل الحب حيا، آه لو ظل حيا، أجفف جسدي ببطء وأتذكر أن أسامة كان يحب أن يجفف لي ظهري بعد الحمام ثم كف عن هذه العادة بعد سنة من زواجنا، اختفت من حياتنا عادات كثيرة كانت تعطي لقاءنا طعم النعناع، ذابت حبة النعناع وخلفت وراءها.. أصبحت أخجل من وجوده معي في الحمام.. بعد الحمام أخجل من نظرته ورغبته كلما رآني عارية، هو من يعرف هذا الجسد، علمته إياه ركنا ركنا، وهو من يراني جميلة، بل جميلة الجميلات، لكني لم أعد أنصت لإطرائه ولم يعد جسدي يصغي، تعود أن يكون جميلا تحت عينيه، بين ذراعيه، ثم لم يعد يتوق إلي ما يعرف، كف عن الإنصات، يأكل آليا، يشرب آليا، يحصل علي اللذة آليا، يبقي الحب يرفرف بجناحين ضعيفين، يعيد إحياء الجذوة كلما عن لها أن تخبو، أحيانا في وحدتي أتمني لو أننا لم نتركها تخبو. ثم أضحك من سذاجتي، أضحك بصوت عال أمام المرآة، وأكره نفسي الأمارة بالسوء. أكره الملل والوقت والعادة ورواسب التكرار، أكرهها وأغمز بعيني وأضحك عاليا، تعرف هذا النوع من الجنون حين تنظر لنفسك في المرآة فتراها تنظر إليك. ولماذا أحكي لك حكاية أسامة وأترك الزوج الثاني خارج الحكاية؟ تفهم أني لا أحب الحديث عنه، هو أبو الولد، والولد تركته له وهربت، لن تصدق أن أنزع من قلبي الأمومة، أن أتركها تعوي مثل ذئبة منتفخة علي قارعة الطريق، أمومة لا تليق بي، تليق بصديقاتي ربما، لكني لست مثلهن، أمومتي أقرب للأبوة، ليس من معانيها الالتصاق، بل التخلي الدائم اكتفاء بشرف البنوة، الزوج الثاني كان غشيما، لا أعرف لماذا أحببت الارتباط به، لا أعرف ماذا اجتذبني إليه، ربما فرط سذاجته، وربما لأنني كنت قد مللت شقة أسامة الضيقة التي تركها لي بعد طلاقنا، الثاني كان يمتلك من المال قنطارا، ذهب، هدايا، سفر، وأخلاق عالية، عالية لدرجة تفوق الوصف، كنت أول امرأة في حياته، شيء لا يحتمله عقل إنسان. في البداية أعجبتني لمسته الخشنة آخر الليل. بعد ثلاث سنوات لم أعد أحتمل، نفس قصير في الحب، وأنانية أدمت روحي، لكن دعنا من المبالغات، لم يكن سيئا إلي هذا الحد، كان عطوفاً وغبيا، تفهم ما أقصد؟ حتي تجربة الأمومة مرت مثل حلم، كنت غارقة في تعاسة الزواج الثاني وفكرة الطلاق تراودني كل يوم، أردت أن أجرب استقرار الأمهات، ثم أفقت من حلم الاستقرار علي وجه طفل جميل يبكي ويطلب ما لا أقدر علي منحه، وقتا ورعاية، عدت لشقتي القديمة لمجرد أن أهرب من الولد وأبيه، زاد ارتباطي بالشلة والناس والورق والألوان والحرية. تضحك؟ لا تضحك، تضحكني حين تضحك، خذ سيجارة وأبعد عينيك عني وأنا أكتب. نعم الحرية شيء حيوي جدا سأتحدث عنها فيما بعد. لن أطيل عليك، انفصلنا بهدوء وبلا رغبة في الانتقام، كأنه يفهم السبب في طلب الطلاق، رغم أني مقتنعة أنه لا يفهم شيئا، لم يلحظ مثلا نمو علاقتي بكريم في تلك الفترة، أو تغاضي عنها، لا أدري، كان غشيما حتي في المعارك. لو لمستني ربما يصحو جسدي، ربما يعرف خبرة لم يعرفها من قبل، لكننا سنحرم أنفسنا منها، بقرار أنا صاحبته وليس لك يد فيه، قبلتني، بل قبلتك، وعرفت بما لا يقبل الشك أن جسدي سيتوقف إلي جسدك، وأني سأحرمه من الرغبة. تسألني لماذا، تثور علي منطق الجدات، لكنك تعرف أنه منطق لا يهزمه الزمن، تهادن وتقترب وأبعدك بنظرة. أقول لك Not so soon، لماذا؟ سأجيبك فيما بعد، فأنا نفسي لا أعرف لماذا. تحت الماء الساخن، هذا المساء، رأيتك رغم عيني المغمضتين، تحسستني ودخلت. أقول لك الحق، انخلع قلبي، انخلع من مكانه لمجرد أن خيالك مر من هناك، من بين خيوط الماء المنسكبة علي رأسي، كأنك أمل أو وعد أو نداء مجهول سيعيد اكتشاف ما ترنح وتهاوي من جسدي العاطل. بعد الدش، قهوة بحليب وكرواسان، أكتب لك خطابا رغم أن بيني وبينك ثلاث ساعات بالسيارة، أنت الآن في قريتنا، وأنا أتمني لو آتي إليك، أطرق بابك وأدخل، لا لشيء إلا لأسألك كيف كانت ليلتك، هل نمت جيدا؟ هل حلمت بي؟ هل قبلتني هكذا في الحلم، وأقبلك لعلك تتذكر، الحلم أحلي أم الحقيقة؟ دلع البنات الذي لا أحبه، بيني وبينك هاتف لا نهوي استخدامه، الكتابة أكثر شبقا من الهاتف، أكتب إليك وأقرر ألا أرتدي أحسن ملابسي للقائك، أخاف أن تقبلني ثانية، أخاف أن أفرح ثانية، أخاف أن ترتفع قدماي عدة سنتيمترات عن الأرض وأنت تحملني وتطيرني كالفراشة، أخاف من السقوط، من الحبة قبة، تقول، من الحبة قبة، أجيبك بخبرة الفراشات. لوهلة تصورت وأنت تقبلني أن رجلا وامرأة يسكنان جسدي، رأيتك بعيني تلك المرأة ورأيت نفسي بعيني ذلك الرجل. أعرف أنه بداخلي، ما أعطيه لك هو ما أخذته منك، رأيت نفسي في عينيك جميلة، ورأيت في عيني وأنت تتفرج علي جسدي، بجفنين مغمضتين وقلب يقظ. تقتنص قبلة أخري من عمق سحيق لم تبلغه شفتاك. وتمرر لسانك علي شفتي، تبللهما بعطر اشتريته من مطار بعيد، وتعود لترتشف منهما رشفة أخيرة. تبتعد وأفتح عيني ببطء لأراك تبتعد، مزهوا بلحظة انتصار لن يشهده غيرك. غيري، نعرف أن حروبا صغيرة في الخارج مازالت دائرة، لكننا كسبنا حربا كبيرة دارت هنا، ضد الزمن، ضد المسافة، ضد الملل الذي نعرفه ونفلت من براثنه من وقت لآخر، هكذا، بالحب المفاجئ واللهفة، نتوهمها، نحب أن نتوهمها تلك اللهفة، نحب أن تفاجئنا من حيث لا ندري، أخضعناها مائة مرة، أخضعتنا مرة واحدة، قبلة هي الأولي والأخيرة، الرجل فينا هو الذي قرر الانصياع لها، المرأة فينا هي التي قادت الدفة. أتظن أني لم أرها تلك المرأة بداخلك؟ أتظن أني لم أحبها كما أحببتك؟ أقبلك كأني أقبل امرأة هي أنا وأنت، تقبلني كأنك تقبل رجلا هو أنا وأنت، تحسم ذراعاك القويتان المعركة لصالح الرجل، يحسم نهدي الملتصق بصدرك المعركة لصالح المرأة، لوهلة نتذكر الدور وننتشي، وبعدها نعود لسابق عهدنا بأنفسنا، نتبادل الأدوار ونهوي تبادلها، ثم نخاف ونحجم ونحسب ألف حساب. أتخيل نفسي في غرفة بيضاء، ناصعة البياض، غرفة مربعة، بنافذتين مستطيلتين يصلان بين إفريز السقف والسفل الخشبي العريض المطلي بالأبيض، الأرضية من الخشب السميك، ألواح عريضة بيضاء مصقولة، تتوسط الغرفة مائدة قديمة من خشب الورد الثقيل ومقعد بذراعين، من الخشب أيضا، من السقف، تسقط فوق الطاولة فراشات بيضاء من الورق الشفاف مثبتة بخيوط نايلون متباينة الطول، يصل بعضها لارتفاع ذراع من سطح المكتب وبعضها الآخر يقترب من السقف. أجلس ساعات بمواجهة النافذتين أو أعطيهما ظهري، أجلس وأرسم اسكيتشات لامرأة تقبل نفسها في مرآة، تأتي أنت من آن لآخر، تقبلني في رقبتي، نمارس الحب علي المقعد، نتكلم بين قبلتين ونعود للعمل، تصنع لي فنجان قهوة وتلف لي سيجارة بدون فلتر، تخرج الورق من علبة معدنية أنيقة والتبغ من كيس تبغ مستورد، السجائر الملفوفة أقل ضررا، تقول. أكتب وأرسم وأحبك أكتب من ذي قبل لكنك عندما تغيب عني لا أفتقدك كثيرا، تفتقدني أنت أكثر. تعود وتقبلني علي شعري. أدفعك بعيدا وأنام علي المقعد وأشرب القهوة وهي باردة وأدخن سيجارة أخري وأغفو وأصحو لأعيد رسم ما رسمت ويأتي الليل وأنام وأنا في حضنك وأنا أحلم برسم نفس المرأة، نفس المرآة، الغرفة ليس فيها سوي مقعد وطاولة والأرضية الخشبية تؤلمني لكني أنام بين ذراعيك. أغفو، ساعة، ساعتين، أصحو ولا أجدك. ذهبت وتركتني نائمة، الصباح يأتي وتأتي أنت ومعك قهوة وكرواسان وتذكرتان لأوبرا توسكا. تعرف أني أهوي الأوبرا ولا أحب الذهاب وحدي. نذهب معا ونبدو مثل طائرين غريبين حطا علي سطح المبني. نتسلل من كوة في الحائط ونستقر تحت السقف مباشرة، أرخص مقعدين في قاعة الأوبرا، الليلة ننام علي صوت كالاس وهي تغني توسكا. المغنية التي شاهدناها علي المسرح صورة باهتة من كالاس، لا تعجبنا، نسخر منها ونعود بلهفة للغرفة البيضاء، كأننا لم نغادرها أبدا. نفس المقطع مستمر، من الأوبرا إلي جهاز الريكوردر القديم. «عشت من أجل الفن، عشت من أجل الحب، وأبدا لم أتسبب في أذي لأحد». أقول لك إني كلما سمعت Vissi d'arte تصورت أنه مقطع من أوبرا أخري، مقطع انتظار بترفلاي لزوجها، تتعجب وتضحك وأنا أقسم لك أن ثمة أوجه للشبه، وتضحك أكثر حين أقول لك إني كنت أستمع إليها متصورة أنها تغني قبل انتحارها، كأن انتحار توسكا وبترفلاي لا يمكن إلا أن يتشابها. قبلة تنسيني سيرة الموت، تتلوها قبلة تعيدني بخفة إلي حضنك الواسع، والغرفة البيضاء يغمرها سحر كالاس والظلام. لا أنام في فراشي، أنام تحت الطاولة بجوار المقعد. وأحيانا أخري أعود إلي البيت أو تعيدني بالعافية. أرسم وأرقص وأقبلك ونحن جالسان علي المقعد. أرسم لأني أحب. أرسم وأنا هنا وأنت هناك.. مسافر لكني أراك تأتي في الصباح بفنجان القهوة والكرواسان. متي عدت؟ لم تعد، رأيتك فقط بعين الخيال. وقبلتك قبلة فرنسية. المشهد كله أوروبي، لا يمكن أن تتوافر غرفة بيضاء كهذه في مدينتنا. أليس كذلك؟ تقول: بلي، وتصر علي تحقيق الحلم. تجد الغرفة لكنك لا تجد تذكرتين لحفل الأوبرا، تجد التذكرتين، لكنك لا تجد الطاولة الخشبية التي أعتبرها شرطا للرسم، تجد المقعد لكني أتركه شاغرا، أتعبتك معي، لا شيء يريحني، لا شيء أبدا، لذلك لا أرسم حقا، كما تري. أدعي فقط أني أرسم، أو أرسم وألقي الرسم في سلة القمامة. تستغرقني بحضورك وبغيابك، تماما كما جاء في كتب الحب. وأنا أكره أن أكرر نفسي، أن أضيع من نفسي، بسبب رجل، لكني أكف عن الرسم وأنتظرك علي خشب الأرضية المصقول، كأني في حلم، وأصحو لأجد نفسي نائمة في فراشي كما تعودت كل ليلة والغرفة البيضاء رسم في كراس، رسم بلا ملامح، صفحة عارية أتخيلها غرفة وأنت لست فيها، وأنت كما تعرف مسافر دائما، وأنا كما تعرف، وحدي دائما.