دعوة رئاسية وكلمة رنانة.. دشنت مشاركتي بالمنتدى الاقتصادي العالمي في سان بطرسبرج مايو الماضي تحت رعاية الرئيس بوتين. وعندما رأيته، تذكرت خطابه الاستعراضي أمام قادة الأمة الروسية منذ شهور قليلة مضت عندما أعلن عن صاروخ جديد لا يمكن اعتراضه بسرعة تفوق سرعة الصوت 20 مرة ويدار بمحركات نووية، لكن هذه التكنولوجيا الحربية لم تنجح بعد حيث لا تزال قيد التطوير والاختبار، وفشلت تجاربها مطلع عام 2017 بالقطب الشمالي. حقاً هي دعوة كريمة منه لتقييم قدرات روسيا المتذمرة والطامحة لدرجة أعلى في ترتيب القوى العالمية. ولنتذكر معاً سخرية الصحف الغربية من حاملة الطائرات "كوزنتسوف" عند عبورها القنال الإنجليزي عام 2016 متجهة إلى سوريا عندما بدت متهالكة بإصدار الأدخنة من محركاتها، والجدير بالذكر أن روسيا لا تمتلك سوى قمرين اصطناعيين للتجسس في مقابل 12 قمراً أمريكياً من هذا النوع أكثر تطوراً وفق ما نشرته جريدة سبوتنيك بمارس الماضي، الأمر الذي يؤكد تخلف روسيا عسكرياً. وبعيداً عن الصواريخ والتجسس، تمثل القدرة التنافسية للاقتصاد الروسي تساؤلاً، فالناتج المحلي الإجمالي عام 2017 جاء بالترتيب 12 عالمياً بعد الولاياتالمتحدة والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والهند وإيطاليا والبرازيل والهند وكندا وكوريا الجنوبية بالترتيب، كوريا الجنوبية التي لا تتجاوز مساحتها 0.005% من مساحة روسيا إحتلت ترتيباً أعلى منها في ترتيب الاقتصاديات عالمياً! ولتحليل أعمق وفهم أبعد أفقاً، لنلقي الضوء على مشاركتي في منتدى سان بطرسبرج والتي توجت بترتيب مقابلة شخصية مع زافودينا ألا رئيسة وكالة تنمية إقليم نوفجورود بشمال غرب روسيا. ألا أشارت إلى حزمة حوافر ضريبية للمستثمرين مثل الاعفاء من ضريبة الملكية و13.5% للأرباح، والاعفاء من أي ضريبة ورسوم مدفوعة للموازنة الفيدرالية في أول خمس سنوات بدلاً من 3%، و5% بدلاً عن 17% ضرائب ورسوم مدفوعة لميزانية الأقاليم في أول خمس سنوات، والاعفاء من ضرائب الملكية مع إعفاء عقود تمليك الأراضي. والجدير بالذكر أن مع انتهاء الخمس سنوات الأولى، يتم مضاعفة تلك الضرائب والرسوم. "بسيدا" تمثل تجربة فريدة، مبادرة أطلقتها حكومة هذا الاقليم والتي تعني "المناطق ذات الأولوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية" وهم خمسة مثل فيليكي وبوروفيتشي. بسيدا توفر للمستثمر إعفاءات ضريبية لتأسيس وإدارة الشركات الصناعية والتكنولوجية وحاضنات الأعمال كما تشمل "مناطق صناعية" لنحو 40 ألف مساحة تخزين وتصنيع بقيمة استثمارية تبلغ 1.4 مليار روبل، وتعتبر شركة باو أكرون الأبرز هناك في تصنيع الأسمدة الزراعية. وخلال مشاركتي بالمنتدى الاقتصادي العالمي، لاحظت نيل إقليم سمولينسك مساحة ترويجية للاستثمار، 60 ميون نسمة يعيشون في مساحة 500 كم في قلب محورين مركزيين، محور الشرق-الغرب والذي يربط بكين وفلاديفستوك بأقصى شرق أسيا بمدينة هامبورج وبرلين على امتداد خط أنابيب الغاز يامال-أوروبا، والمحور الثاني الشمال-الجنوب الذي يربط بين هامبورج وشنغهاي على امتداد خط بترول البلطيق. 35% من الروس و65% من خدمات الشحن الدولية تتم من شرق أوروبا عبر سمولينسك الروسي، ونظراً لموقعه الاستراتيجي، يمتلك الإقليم عدة نوافذ لجذب الاستثمارات مثل صندوق التنمية الصناعية، وصندوق سمولينسك لدعم مشاريع ريادة الأعمال، ومركز سمولينسك لتنمية الصادرات، وصندوق دعم وتمويل المشروعات الصغيرة، وشركة التنمية الفيدرالية للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر اللذان يقدمان قروض متناهية الصغر تتراوح بين 8-10% بالعام من أجمالي رأس المال وفق طبيعة النشاط الاقتصادي حيث تحظى شركات الصناعة والزراعة والخدمات النسبة الأقل من تلك القروض والتي تبدأ عادة من 10 آلاف روبل، وعلى رواد الأعمال والشركات الناشئة تقديم ضمانات مالية لا تقل عن 25 مليون روبل لينالوا قروض البنوك مع ضرورة تسجيلهم كدافعي ضرائب داخل الإقليم. أما كبار رجال الأعمال، فتوفر الحكومة لهم دعماً ومزايا أوفر حيث يتم اعفائهم من الضرائب على الأصول المملوكة بالإضافة إلى إعفاء ضريبي على الأرباح لمدة 10سنين، وتعطي الحكومة الأولوية للصناعات الغذائية والدوائية وتصنيع السيارات والمعدات الكهربائية والإلكترونية والمركبات بشرط ألا يقل رأس المال عن 3 مليار روبل ولا يقل عدد الموظفين عن 200 موظف، بل وتوفر الحكومة لهم خدمات استشارية مالية وتصميم مشروعات ودعم إداري بلا مقابل!!. ويمثل تعريف المشروعات الصغيرة صدمة، فحكومة الإقليم تشترط أن يتراوح رأس المال ما بين 50-300 مليون روبل أي ما يعادل 1-6 مليون دولار أمريكي تقريباً في حين يصل متوسط دخل الفرد في روسيا 800 دولار شهرياً! علاوة على أن مدة الاعفاءات التي تحصل عليها المشروعات الصغيرة خمس سنوات فقط أي نصف الفترة التي يحصل عليها كبار رجال الأعمال! مما يؤكد انحياز الدولة لهم ويزيد الفجوة بين قلة تملك الكثير وكثرة تملك القليل من مكدرات روسيا. فجذب الاستثمارات يحتاج لمنظومة متكاملة من الحوافز مثل القوة الشرائية في السوق وقيمة العملة وبنية تحتية واعدة وليس فقط إعفاءات ضريبية. روسيا وسياساتها مثار جدل، فاقتصادياً لا تملك القدرة التنافسية سوى بالكاد في محيطها الإقليمي، وعسكرياً وتكنولوجيا لا تزال تحبو وسط جيرانها الأكثر تطوراً.