لا تمتلك مصر ترف القعود، ولا استراحة المحارب، ولا أن تركن إلي السكون وشرر النار يتطاير في محيطها ويتدافع علي محاورها الاستراتيجية. كما أنها لا تمتلك ترف السكوت علي حريق أقرب، تحت دعوي الفزع من حريق أبعد.وفي ظروف شدّة وعسر، لا تمتلك مصر أن تترك أشرعة مراكبها في إبحارها العاصف، لكي تسوقها رياح تأتي من خارج حدودها، مهما تكن مثقلة بالوعود.فَمِقْود مصر ينبغي أن يظل في يدها أولًا وأخيرًا، وتحديد التهديد أولًا، وتوصيف التهديد ثانيًا، ونفي التهديد ثالثًا هو واجبها الذي لا ينازع، ودورها الذي لا يُجحد، ومسئوليتها التي لا تقبل تأجيلًا أو تسويفًا أو تحويلًا أو مقايضة. ومصر تعرف ذلك دون مزايدة، وقيادتها تدركه دون مواربة، فمصر أكثر يقظة مما يحسب أصدقاؤها، وأمتن جسرًا مما يظن خصومها، وأشد إصرارًا علي استقلال إرادتها مما يتوهم أعداؤها. يبدو المشهد الإقليمي مرتبكًا، ومتناقضًا، ومزعزعًا، وتبدو آفاقه ملبّدة بغيوم ثقيلة ودخان كثيف، كأنه دالة علي حريق كبير يجري، ويجري معه جمع تلال جديدة من الوقود الجاهز لتغذية نيرانه المتّقدة، وبين سحب الدخان تومض قذائف من البيانات والتصريحات والدعوات، مع موجات مُكهربة من الأحداث والأخبار والتعليقات، متصادمة في الفضاء، إلي جانب لقاءات وزيارات واجتماعات تبدو بعض خطوطها متقاطعة، وبعضها متوازية. لكنك كلما ازددت تأملًا ازددت جهلًا، وكلما ازددت اقترابًا من باطن المشهد ازددت شكًا، وكلما حاولت أن تبحث عن المعني في هذا الحراك الفوقيّ فوق سطح هذا المسرح الكبير، لن تجد غير حقائق ناقصة وإجابات مبتورة، وفراغ هائل من اليقين، مع أن اليقين هو ثمرة المعرفة الفريدة التي أنبتتها تربة الفلسفة العربية الإسلامية، ولم يقدّر لها أن تنبت أبدًا، في أيّة تربة سواها، فأمّة اليقين باتت أبعد ما تكون عن اليقين، لأن اليقين أمر لا يتعلّق بما هو مسموع أو مرئي، وإنما يتعلّق بالنوايا، والنوايا بدورها تبدو ملفوفة في طبقات فوقها طبقات، وهو أمر عدّه الجنرال 'إسحاق رابين' من جانبه أحد أهم دروس حرب أكتوبر المجيدة، وكان منطوق الدرس كما صاغه هو: 'إن خطأنا الأكبر عشية حرب الغفران، أننا نظرنا إلي الأوضاع فوق الأرض، وإلي موازين القوي، ولم ننظر في النوايا'. والحقيقة أن النظر في النوايا أو التفتيش فيها عمل بالغ التعقيد والصعوبة، ذلك أن أدواته ليست كما يشاع، قرون استشعار عن بعد، أو وسائط إلكترونية تقوم بأعمال الرصد والتسجيل والمتابعة، فالأقمار الصناعية لا تستطيع أن تفتش في العقول، أو أن تخترق الصدور، ولهذا فالبحث في النوايا هو عمل بشري خالص، ولكنه ليس عملًا من أعمال السحر، أو قراءة الطالع، أو البحث في حركة الكواكب والنجوم، بقدر ما هو عمل منهجيّ من أعمال المخابرات. الظاهرة الأولي التي تَبينُ في أفق هذا المسرح الاستراتيجي الكبير، أن الأمن صار هو الهاجس الأول، وأن الخوف من تصدُّع هذا الأمن، قد أصبح الخبز اليومي لسلطات الحكم في داخل الإقليم وحول تخومه. وأن الأمر -أيضًا– لم يعد وقفًا علي وحداته السياسية، وإنما أصبح الشغل الشاغل لكافة القوي الإقليمية والدولية. وحتي أولئك الذين مدّوا معاولهم من بعيد أو قريب لهدم جدران هذا الأمن، وأطلقوا في ربوعه شياطين القاعدة، وأيقظوا وسمّنوا بين جنباته عفاريت داعش، واصطنعوا من تربته المفككة المجهدة أكثر الموجات ظلامًا وعنفًا وجاهلية وفتنة، يدركهم الخوف وهم في بروجهم المشيّدة، فقد حشروا في أنبوب اختبار علي مقاس الإقليم، كل ما ينتسب إلي تاريخ غابر من وجوه وأفكار وأحقاد، وأضافوا إليه كل أسلحة الهدم، وأحماض إزالة الهوية، ومساحيق زعزعة الاستقرار، ثم حين وضعوها علي الموقد، انقلب التفاعل في اتجاهه المعكوس، فأصبح الحريق أكبر من القدرة علي الاحتواء، وأصبحت المغانم نفسها واقعة تحت التهديد. غير أن ما يثير القلق حقًا، أن مفاهيم الأمن، بعد أن أصبح الصيحة الأعلي في أفواه الجميع، أصبحت أبعد عن التجانس، وأقرب إلي التناقض. والحقيقة أن الحديث خارج مصر، وإن تقنّع باسم الأمن القومي العربي، فليس فيه سمة واحدة من سمات هذا الأمن، لأن ما تجري به الأفعال لا الأقوال قد يطول حدود هذه الدولة أو تلك، أو هذا الجزء من الإقليم أو ذاك، وأغلب الأطراف تتصرف أولًا وأخيرًا، في حدود صيانة حدودها، ودفع الخطر عنها، بل هي تريد أمنها الذاتي ولو علي حساب أمن الأشقاء أو الجيران، ثم إن سلعة الأمن ذاتها أصبحت مركّبة، يختلط فيها ما هو عربي بما هو غير عربي، وما هو وطني بما هو إقليمي، وما هو إقليمي بما هو دولي، فقد ذابت الحدود بين مفاهيم الأمن القومي العربي، وبين الأمن بلغة السوق كسلعة قابلة للشراء، والمقايضة. بل إن هناك أفكارًا تجري في أعنّتها، لخلق قناعة عربية، بأن سلعة الأمن عبر الحدود، يمكن إعادة تكرار شرائها بطلب تدخل من حلف الأطلنطي في بعض الأماكن وبعض الدول، فمفهوم الأمن خارج إطار الرؤية المصرية، أصبح ضيقًا، وذاتيًا، وأنانيًا، إلي حدود غير مسبوقة، حتي وإن استعار من قاموس الجامعة العربية، ما يضفي عليه صفات العروبة والتضامن والوحدة. ثم إن ضيق وانكماش مفهوم الأمن عربيًا علي هذا النحو، لم يتواكب معه أي تغيير في مفهوم الأمن غربيًا، خاصة لدي الولاياتالمتحدةالأمريكية، فالأخيرة تتصرف عمليًا، رغم كل ما لحق باستراتيجيتها المضادة من تصدّع وجروح، وفق مفهوم أمن مطلق، وهو مفهوم يعني قبل كل شيء، تجريد وحدات الإقليم الرئيسية، من فاعلية أيّة نظرية ذاتية للردع، أو بمعني أكثر وضوحًا، السماح بحدود قد تكون مخفورة عسكريًا، لكنها ليست محصّنة استراتيجيًا. لا أتصور أن نهوضًا عربيًا ولا التئامًا قوميًا يمكن أن يقف تحت راية استراتيجية غربية، غاية قصدها وجهدها، أن ترمم أوضاعها المتداعية، وأن تعيد عكس الزمن، كي تستعيد ما فقدته بحسابات خاطئة وقاصرة، لكن الشاهد فوق المسرح الإقليمي الكبير، أن العوامل الخارجية قد استعادت قدرتها علي أن تساهم بالنصيب الأكبر، وفي الحيز الأوسع، في محاولة إعادة صياغة البيئة الاستراتيجية للإقليم، وأن قبول أطراف عربية بذلك، يبدو أكثر حضورًا من أن يُنكَر، وأكثر وضوحًا من أن يتم تجاهله، بل إنك تجد في بعض التصريحات والبيانات دعوات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لا تجد مخرجًا في مواجهة موازين قوي جديدة فوق إحداثيات الأمن القومي، سوي بالسعي إلي تعزيز طلب التدخل الأجنبي، كذلك البيان المسموم الذي حمل اسميّ 'موسي – السنيورة' بخصوص المتغيرات الداخلية في اليمن، فبعيدًا حتي عن نزعة طائفية تتنفس في مفردات البيان، وعن اختلاق صنوف من تهديدات استراتيجية ليست قائمة في الواقع، وطمس تهديدات أجنبية قائمة بالفعل، بل بعيدًا عن سطور كاملة في البيان تبدو وكأنها مكتوبة بحبر جماعة الإخوان المسلمين، فإن الحصاد الجوهري له بنصه هو: 'العمل علي استنهاض مجلس الأمن، وطلب ذلك من الجامعة العربية'، وهي ذات الدعوة وذات الطلب، الذي تم دفعه إلي الجامعة العربية، بأيدي قطر وبعض دول الخليج، وتم علي أساسه بناء جسر من اللحم والدم عبرت فوقه قوات حلف الأطلنطي إلي ليبيا، ودمرت كيان الدولة الليبية، وزرعت في أرضها صنوفًا من الفوضي والإرهاب، لا تزال تشكل تهديدًا استراتيجيًا لدائرة عربية واسعة. وصدي ذلك ليس ببعيد عما يتخلَّق في عملية مراجعة الاستراتيجية الأمريكية، فإذا كانت مجلة 'فورن بوليسي' قد استخلصت خمسة دروس مستفادة من السياسة العالمية حسب قولها، فإن الدرس الأول والأساسي هو رفض تلك القناعة التي تأسّست علي أن سياسة القوة قد أصبحت شيئًا من الماضي، فسياسة القوة بالنسبة للقوة العظمي لا تزال مهمة ومؤثرة، بعد أن تبدد وهم العولمة، أو وحدة العالم علي أساس وحدة الأسواق والقيم الديمقراطية، ولذلك لم يجد 'هيجل' غضاضة في أن يؤكد بصوت مسموع أنه مستعد للنظر في أيَّة توصية يقدمها الجنرال 'ديمبسي' بطلب إرسال قوات برية أمريكية إلي العراق، في الوقت الذي كان 'دمبسي' في زيارته الأولي للعراق بعد يومين من موافقة الكونجرس، بتشكيله الجمهوري الغالب الجديد، علي إرسال 1500 جندي أمريكي إلي هناك، ليصل عدد الجنود الأمريكيين إلي 3100 جندي، وهو أمر يتجاوز ما أعلنه أوباما من أن إرسال قوات أرضية إلي العراق، مشروط بقواعد خاصة، عدّ من بينها امتلاك 'داعش' أسلحة نووية، في الوقت الذي استقدمت فيه لجنة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في مجلس النواب الأمريكي، واحدًا من أبرز وجوه المحافظين الجدد إلي جلسة استماع لتقديم شهادته حول الخطوات التالية في العراقوسوريا، وقد كانت شهادة 'إيلوت إبرامز' ناطقة برسم خطوط جديدة، فقد دعت إلي تغيير جذري تجاه سوريا، يتضمن تغيير جوهر معادلات القوة علي الأرض، فإضافة إلي تجييش وتسليح المعارضة فإنه يجب أن يتزامن معها ضرب سلاح الجو السوري.. ! يبدو لي أن الخطوط الخاصة بمصر في عملية مراجعة الاستراتيجية الأمريكية في الإقليم، تستهدف أمرين: الأول: تحييد مصر عن تفجيرين كبيرين يجري التجهيز لهما فوق الخارطة العربية، أحدهما في الجنوب الشرقي، والآخر يكاد يتعامد معه، الشمال الشرقي، وكلاهما يقع علي إحداثيات الأمن القومي المصري، ونتائج كل منهما تمثل تهديدًا استراتيجيًا لمصر، سواء شرق السويس في حوض البحر الأبيض المتوسط، أو المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. الثاني: دفع مصر إلي انفجار من داخلها، باستخدام كافة أسلحة الإكراه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مع حشد منظم لكافة القوي المضادة لثورة 30 يونية، وكافة العناصر التي سبق استخدامها كمفجر داخلي في ثورة 25 يناير، في إطار تنظيم تعاون كامل بينهما، وبين الأسلحة التي في حوزتها، سواء كانت سياسية أو إعلامية أو اقتصادية أو عناصر إجرامية، تستخدم أدوات الترويع والإكراه والعنف، فضلًا عن استمرار الضغط بعناصر إرهابية علي الحدود الشرقية والشمالية الغربية. ولنا أن نلاحظ وفق هذا التصور -أولًا- ارتفاع وتيرة القذف بشعارات قديمة سبق وأدها، تطول الجيش المصري العظيم، مع محاولة خلق مناخ معادٍ للشرطة المصرية، وإعادة دمغها باتهامات كانت في مجملها وقودًا صالحًا للإثارة، والإجهاز عليها خلال مواقف ثورة 25 يناير، أي باختصار، إسباغ صفة العدو علي الجيش والشرطة، بمعني العمل علي تفكيك أضلاع مثلث القوة الذي أنجز ثورة 30 يونية، والذي كانت قاعدته الشعب المصري العظيم، بينما مثَّل الجيش أحد أضلاعه، ومثَّلت الشرطة ومنظومة القوي ضلعه الثالث. ولنا أن نلاحظ وفق هذا التصور -ثانيًا- ارتفاعًا متزامنًا في أصوات الطابور الخامس، والليبراليين الجدد، التابعين وظيفيًا للغرب، في سياق خطاب سياسي موحد، يتحدث عن الاستمرار في المعركة حتي الموت، دفاعًا عما يطلقون عليه 'القيم الديمقراطية' وهذه الأصوات المتزامنة والموحدة تتوزع بين العديد من العواصمالغربية والإقليمية في الداخل الوطني. ولنا أن نلاحظ وفق هذا التصور -ثالثًا- أن وشائج مشتركة في الخطاب الذي يقدمه بعض عناصر الإخوان، وهذا الخطاب الليبرالي الجديد، واللافت للنظر أن رئيس لجنة نظام الحكم في لجنة الخمسين لإعداد الدستور هو الذي تكفل من باريس، قبيل زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي، بنزع المشروعية القانونية عن إسقاط 'مرسي'، وبالتالي عن ثورة يونية كلية، ثم جاء الصدي مباشرة لخطابه، من ليبرالي وثيق الصلة بالمخابرات المركزية، وبالتنظيم الدولي للإخوان معًا، وهو يتحدث من عاصمة عربية، يتحدث عن مراجعة الجماعة لدروس الماضي، وعن الانخراط في نضال مشترك. ولنا أن نلاحظ وفق هذا التصور -رابعًا- تصعيدًا مجرمًا في الأعمال الإرهابية، يشكل أكثر خسة، وإضرارًا وإرهابًا للمواطنين الأبرياء، سواء في قطارات السكك الحديدية، أو وسائل المواصلات العامة، وقرب التجمعات، وهو ما يستهدف إحداث موجة مباشرة من الترهيب والتخويف. ولنا أن نلاحظ وفق هذا التصور - خامسًا - طبيعة ووجوه وخطاب الداعين للنزول بالسلاح يوم 28 نوفمبر، وإذا كان ظاهر الخطاب في وسائل الإعلام، يستخدم مفردات المصاحف، والإسلام والشريعة، فإن باطن الخطاب من الزوايا والأزقة، وحواف القري، يستخدم لغة أخري، هي لغة المعاناة والفقر، وارتفاع الأسعار، وانغلاق آفاق العمل، وهي مفردات لها صدي عميق، بحكم إحساس عام باختلال التوازنات الاقتصادية والاجتماعية، وارتفاع تكلفة الحياة، بشكل غير مسبوق. ولنا أن نلاحظ وفق هذا التصور -سادسًا - أن المؤتمر الاقتصادي بذاته قد تحوَّل إلي سلاح للإكراه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حيث يتحتم علي كل شيء أن يسبقه، من قانون الاستثمار، إلي الانتخابات البرلمانية، إلي أفكار ودعوات غائمة، عن المصالحة بينما تتعرض العملة الوطنية إلي محنة حقيقية، ليس بمقدور السياسة النقدية التي تقود عربة الاقتصاد وعربة السياسة العامة أن توقفها، بفعل حاسم.ليس تفتيشًا في النوايا، ولكنه مجرد رصد لظواهر عاصفة مما يبدو علي السطح، وما يخفي ما يفور في القاع، لكن مصر كما قلت لا تملك ترف القعود، ولا استراحة المحارب، ولا أن تترك أشرعة مراكبها تسوقها رياح تأتي من وراء الحدود.. !! 'وللحديث بقية' Email: [email protected] Site : ahmedezzeldin.com