محافظ بني سويف: الرئيس السيسي حول المحافظة لمدينة صناعية كبيرة وطاقة نور    بعد الانخفاض الكبير في عز.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد بالمصانع والأسواق    كولر يتحدث عن: إصابة معلول.. وانفعاله على مصطفى غربال    نجم الأهلي السابق: الزمالك يستطيع حصد لقب كأس الكونفدرالية    من اللائحة.. ماهي فرص الأهلي حال التعادل في إياب نهائي أفريقيا أمام الترجي؟    مع استمرار الموجة شديدة الحرارة.. درجات الحرارة المتوقعة اليوم الأحد 19 مايو 2024    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    بعد ارتفاعه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 19 مايو 2024    عماد النحاس: كولر أدار المباراة بشكل متميز.. وغربال كان متوترًا    إجراء من «كاف» ضد اثنين من لاعبي الأهلي عقب مباراة الترجي    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    «الداحلية» تكشف تفاصيل قيام قائدي السيارات بأداء حركات استعراضية بموكب زفاف بطريق «إسماعيلية الصحراوي»    قفزة جديدة ب160 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الأحد 19 مايو 2024 بالصاغة (آخر تحديث)    صرف 90 % من المقررات التموينية لأصحاب البطاقات خلال مايو    تتعليمات موسم حج 1445..تأشيرة العمرة لا تصلح لأداء الفريضة    أوكرانيا تُسقط طائرة هجومية روسية من طراز "سوخوى - 25"    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    كولر: قدمنا مستوى جيدًا أمام الترجي.. وعلينا الحذر في لقاء الإياب    رئيس الموساد السابق: نتنياهو يتعمد منع إعادة المحتجزين فى غزة    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    رقصة على ضفاف النيل تنتهي بجثة طالب في المياه بالجيزة    شافها في مقطع فيديو.. سائق «توك توك» يتهم زوجته بالزنا في كرداسة    كلب مسعور يعقر 3 أشخاص في المنيرة الغربية بالجيزة    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    ماجد منير: موقف مصر واضح من القضية الفلسطينية وأهداف نتنياهو لن تتحقق    الفنان محمد بوشريح يناقش قضايا اجتماعية في فيلم «صحراء الواحة» لتسليط الضوء على المجتمعات    خريطة تلاوات القرآن المجود اليوم الأحد بإذاعة القرآن الكريم    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    مدرسة ناصر للتربية الفكرية بدمنهور تحصدون المراكز الأولى في المسابقة الرياضية    تزامناً مع الموجة الحارة.. نصائح من الصحة للمواطنين لمواجهة ارتفاع الحرارة    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    الهبوط والعصب الحائر.. جمال شعبان يتحدث عن الضغط المنخفض    تحليل موعد عيد الأضحى في عام 2024: توقعات وتوجيهات    حريق بالمحور المركزي في 6 أكتوبر    إعادة محاكمة المتهمين في قضية "أحداث مجلس الوزراء" اليوم    شهداء وجرحى جراء القصف الإسرائيلي المستمر على مناطق متفرقة في قطاع غزة    البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي الأمريكي سيبحث مع ولي العهد السعودي الحرب في غزة    «غانتس» يمهل نتنياهو حتى 10 يونيو لتحديد استراتيجية واضحة للحرب.. ورئيس الحكومة يرد: هذه هزيمة إسرائيل    على متنها اثنين مصريين.. غرق سفينة شحن في البحر الأسود    مسلم يطرح أحدث أغاني ألبومه الجديد «اتقابلنا» (تعرف على كلماتها)    «فايزة» سيدة صناعة «الأكياب» تكشف أسرار المهنة: «المغزل» أهم أداة فى العمل    «المقصورة الملكية».. المهابة تعانق الجمال فى استاد الإسكندرية الرياضى    حدث بالفن| حفل زفاف ابنة الفنان سامح يسري ونجوم الفن في عزاء زوجة أحمد عدوية وإصابة مخرج بجلطة    تونس.. ضبط 6 عناصر تكفيرية مطلوبين لدى الجهات الأمنية والقضائية    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    من 35 ل 40 ألف جنيه.. ارتفاع أسعار الأضاحي بالإسكندرية 2024    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    مصر في 24 ساعة| موجة حارة تضرب البلاد.. وهجوم للغربان في الإسماعيلية    وزير روسي: التبادلات السياحية مع كوريا الشمالية تكتسب شعبية أكبر    نقص أوميغا 6 و3 يعرضك لخطر الوفاة    أدعية مستحبة خلال مناسك الحج.. تعرف عليها    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    نموذج إجابة امتحان اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي محافظة الجيزة    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    «الأوقاف» تفتتح 10 مساجد بعد تجديدها الجمعة المقبلة    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام الجمر والرماد...!!
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 21 - 01 - 2013

لا أحد يستطيع مهما استعان بوسائل الإيهام، وأدوات السحر، وتكنولوجيا صناعة الوهم، أن يغطي علي ملامح هذا الواقع الذي يزداد قبحًا ودمامة.
ولا أحد يستطيع أن يقنع المصريين، الذين خرجوا كالزلزال، وهبّوا كالعاصفة، منذ عامين، بهامات مرفوعة، وصدور عارية، وطاقة متفجرة، ليقهروا الاستلاب والاستغلال والعجز والفقر والتبعية، كي يأخذوا مكانهم الذي يستحقونه، تحت شمس الحرية والعدل، أن شعاعًا واحدًا دافئًا من هذه الشمس قد تسلل إلي عيونهم، أو انسكب في أرواحهم، وبدّلهم أمنًا من بعد خوف، وحرية من بعد قهر، وغني من بعد مسغبة، وشبعًا من بعد جوع.
فالشاهد أن اليأس قد غالب الأمل، وأن القهر قد غالب الزمن، وأنهم بدلا من أن يصعدوا فوق أمواج الثورة العالية، إلي حيث أرادوا وظنوا واستحقوا، هبطوا إلي قاع سحيق، فقد جنحت بهم السفينة، بعد أن استولي عليها قراصنة جدد.
وليس من طبائع الأشياء، أن تذهب إلي العرس فتجد مأتمًا، أو أن تذهب إلي الفرح فتجد يأسًا، أو أن تذهب إلي الحرية فتجد سجنا، ولذلك تتزاحم الأسئلة فوق هذه المساحة المضطربة: كيف؟ ولماذا؟ وما العمل؟
ومن بين ما يربو علي مائة مقال، واكبت أحداث هذين العامين، أسبوعًا بأسبوع، قد تكون ثمة إجابات في ثنايا هذه المقاطع المختارة من بينها.
'1'
يمكن وصف البيئة الوطنية التي كوّنها النظام السابق في مصر، بأنها ' بيئة انقلابيّة'، بمعني أنها كانت تمتلك في عمق تربتها كل العوامل الرئيسة الصالحة لخلق حالة ثورية ذاتية خالصة، أو بفعل عوامل خارجية مساعدة، فالحقيقة أن مصر لم تعد خلال السنوات الأخيرة مسكونة بأعداد من القنابل الاقتصادية والاجتماعية الجاهزة للانفجار في دوائر بعينها، بل أصبحت هي ذاتها بحدود جغرافيتها الطبيعية والاجتماعية، قنبلة موقوتة كبيرة، جاهزة للانفجار كليًا بمساحة مليون كم2، فقد كان المطلوب – فقط – مفجّرًا ذاتيًا، لتتوالي الانفجارات متصلة من القلب إلي الأطراف ومن الأطراف إلي القلب في تغذية متبادلة، استطاعت وفق نظرية 'الحث' في الكهرباء، أن تتجاوز الحدود.
ولقد كان دور هذه القوة الدافقة الأولي من الشباب هو تمثيل دور المفجر الإليكتروني – أما عملية التفجير نفسها فقد اندفعت أمواجها من جميع شرائح الطبقة المتوسطة المصرية، وغذتها في لحظات حاسمة الطبقات الدنيا الأكثر حرمانًا وعوزًا، ساعد في ذلك دون شك نزعة استحواذ مريضة ضيقة الأفق، وقدر هائل من سوء تقدير الموقف، عكسا حالة واضحة من تصلب الشرايين في الرأس قبل الأطراف.
ولهذا فإن التعبيرات الأكثر رواجًا عن 'ثورة الشباب' و 'ثورة الإنترنت' وغيرها، لا تعكس الحقيقة مثلها مثل 'الثورة الديمقراطية'، فإذا كانت الأولي تريد أن تعطي انطباعًا بأن الثورة لم تكن أكثر من تعبير عن صراع جيل، فإن الثانية توحي بأنها لم تكن إلا تمثيلا لمطالب ديمقراطية خالصة، تبدأ وتنتهي بحرية تذكرة الانتخاب وإذا جري تقزيم الثورة، بصّبها في أحد هذين القالبين الجاهزين، فإن ذلك لا يشي فقط بسوء فهم، ولكنه قد يشي –أيضًا– بسوء قصد، لأنه يجرد الثورة من عوامل قيامها، ومن أسباب بقائها.
'بين بيئة الثورة وبْنية الثورة المضادة'
'2'
أريد أن أقول إنه إذا اقتنع الناس في قواعدهم الشعبية، أنهم نجحوا في صنع الثورة، بما قدموه من طاقة وبذلوه من دم، بينما يتبدي العجز عن التغيير العميق في أوضاعهم وحياتهم، باقيًا أمامهم كتمثال من الصخر، في ظل حكومة لا تستطيع أن تجمع شملهم وتوحد إرادتهم، فوق جسر تحول صحيح، لإعادة بناء الموازين المختلة في مجتمعهم، فماذا يبقي لهم، إذا كان استعادة الثورة عمل يتسم بالصعوبة، سوي أن تنطلق في صفوفهم جيوش من العفاريت، ومن قوي ما وراء الطبيعة، يطلبون منها ومعها الحل والحماية، لتتم خلخلة الفضاء السياسي والفكري والاجتماعي، أمام استقواء عقل سلفي بمركبات الضعف والاختلال التي تحيط به، ليضخ تيارًا سلفيًا ومناخًا سلفيًا، يصعد علي أكتافه إلي مواقع التأثير والحكم.
'القدرة علي الثورة و العجز عن التغيير'
'3'
إن الجيش قد وجد نفسه في أوج حالة مصرية غير مسبوقة، وربما غير متوقعة، فقد أصبح من الطبيعي أن يشكل رأس السلطة ومصدر الحكم، خلال مرحلة مشبعة بالمخاطر والتهديدات، كأنها عبور عاصف في حقل ألغام.
لكن المفارقة في ذلك، أن الجيش يريد عبورًا قصيرًا وسريعًا، خلال أشهر معدودة، يتم خلالها إصلاح بعض ما أفسده الزمن علي الصعيد السياسي، من خلال تأمينه دستوريًا وقانونيًا، ليترك السلطة لمن يختاره الشعب، من خلال صناديق الانتخاب.
وإذا اقتصر الأمر علي ذلك، فإن العبور لن يكون كاملا ولن يكون آمنًا، فالسلطة التي ستخرج من صناديق الانتخاب، رغم كل ما يحيط بها من ضمانات لن تكون هي سلطة الشعب فعلا، وإنما سلطة قوة التنظيم المسبق، أو قوة الفكر السائد في قواعد الفقر والتهميش، أو قوة رأس المال.
وليكون كل ما أنجزته الثورة لا يتعدي إنتاج نظام محسَّن، يستند إلي ذات الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، لنظام متداع قديم.
'القدرة علي الثورة و العجز عن التغيير'
'4'
نحن أمام عملية فرز واصطفاف تجري في أعنتها علي مستوي الأبنية الفوقية في المجتمع، لأعلي مستوي أبنيته التحتية، فقضايا الخلاف وإعادة التشكيل جميعها تدور في دائرة المجرد والمطلق، وفي قضايا ذات طبيعة عقائدية وثقافية وفكرية، مشحونة بدوافع نفسية، وثارات تاريخية، وأطماع ذاتية، بينما كان الطبيعي أن يكون الفرز وإعادة الاصطفاف مستندًا بالأساس إلي قضايا وطنية ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية، وهذا بدوره ما يشكل خطرًا إضافيًا، لأن الأمم والشعوب تتفرق بالثقافة أكثر مما تتفرق بالاقتصاد، وتصير جماعات وقبائل بالثقافة أكثر مما تصير بالاقتصاد.
'حرب من ضد من في مصر'
'5'
تتنكب مصر الطريق فوق هذا الجسر الصعب، إذا فقدت ثقتها بذاتها، ويقينها بقدرتها، علي أن تفرض إرادتها علي واقعها ومحيطها، وتنهار من تحت أرجلها سلالم ذلك الممر العلوي، الذي صنعته ثورتها العظيمة، نحو سماوات أحلامها، المرصعة بالنجوم، إذا انطفأت في روحها تلك الشعلة المتأججة إيمانًا بالنفس، وإدراكًا لمكامن القدرة والقوة، إذ لا شيء في ميزان القوي يتناسب مع الروح المعنوية للشعب، فهي الثقل الأكبر في كفة الميزان، بل في جميع كل الموازين، فانتصار الشعوب كانتصار الجيوش سواء بسواء، لا يتحقق بقبضة السيف، أي القوة المادية، وإنما بحده المصقول، أي القوة المعنوية، وهزيمة الشعوب، كهزيمة الجيوش سواء بسواء، تبدأ جرثومة، تنخر في روحها المعنوية، ثم تنتقل إلي إرادتها فتصيبها بالوهن، ثم الانكسار.
لذلك فالمبارزات التاريخية الكبري، ليست – في النهاية – صدامًا بين شعوب وشعوب، أو جيوش وجيوش، ولكنها بين إرادات وإرادات، ولهذا لا تتحدد نتائج هذه المبارزات التاريخية في كل معركة، وكل مواجهة، بمقدار ما يضغط به الطرف الأقوي، ولكن بمقدار ما يقاوم به الطرف الأضعف.
غير أن الروح المعنوية ليست نشيدًا حماسيًا في المذياع، ولا خطابًا ورديًا عبر الشاشات، ولا أقراص للتفاؤل توزعها الحكومات، مع الصحف اليومية وأرغفة الخبز، كما أنها ليست وعودًا مبذولة بالاستقرار والرخاء، وإنما هي منسوب نهر الرضا العام، الذي يجري طليقًا في الشوارع والحارات والحقول، وفي هذه الدائرة تحديدًا، يتراكم أكثر ما تنتجه هذه الحكومة من سلبيات، وهو إطفاء الروح المعنوية للشعب، فليست المشكلة في أن الضعف باد، والقرارات مرتبكة، والفوضي ناشئة، والرؤية محدودة، والفهم منغلق، والاقتصاد مستنزف، والفقر والجوع يتكاثران في الأركان، والنظام الاقتصادي ما زال مرآة للنظام السابق، ولكن في مردود حاصل ضرب ذلك كله علي الناس، والذي لا يخرج عن كونه حقنا منظمًا للشعب، بجراثيم الإحباط واليأس، وفقدان اليقين.
'مصر وتركيا: أي حوار استراتيجي نريد؟!'
'6'
تدهورت الحرفة في مصر، سواء أكانت حرفة السياسة، أو حرفة الثقافة، أو حرفة الحكم، رغم أن مصر أصل كل حرفة.
و تراجعت الحكمة في مصر، سواء حكمة النص، أو حكمة الفعل، أو حكمة القول، رغم أن مصر رأس كل حكمة.
والحقيقة عندي أن ذلك أوضح مظاهر تردي المشهد السياسي الراهن، الذي كاد أن يصبح اسطوانة تدور علي نفسها بغير محور، وسوقًا مفتوحًا بغير قانون، وطحنًا متواصلًا بغير طحين، ومعرضًا لا مكان فيه لما يغذي عقول الناس المضطربة، أو يروي أفئدتهم الظمأي، أو يطرد عن عيونهم غربان الخوف، التي تحوم حولها في اليقظة والمنام.
في أبجديات الثورات الإنسانية كلها، لا أجد تعبيرًا مانعًا جامعًا لتعريف الثوري، أكثر دقة من تعريفه بأنه من يوحّد، ومن يجمع، وأن نقيض الثوري هو من يفرق ويفصل، إنه من يقطع بين مصالحه ومصالح الناس بالسكين، ومن يفصل بين مصالح الجماعة الخاصة، ومصالح الجماعة الوطنية بالسيف، ويعلي الأولي علي الثانية في الحالتين.
كأن الثورة المصرية، قد غدت بقرة استوي شواء لحمها علي مائدة الغرماء، يقتطع كل منهم لنفسه منها بقدر ما تطول يده، وتنتزع أظفاره.
أو كأن مصر كلها أصبحت ثوبًا من قماش، يريد كل منهم أن يعيد تفصيله علي مقاس هزال بدنه، وخواء عقله، وطمع نفسه.
إينما دققت في خطابات الإكراه السياسي، التي تتصادم في الفضاء الوطني، لن تجد شيئا جوهريًا يخص مصالح الناس الحقيقية في قواعد المجتمع، أو يختص بالدفاع عن المصالح الوطنية العليا، وأينما راجعت وتأملت، لن تجد إلا سعيًا وراء مغانم الدنيا، حتي لو كان الخطاب مفعمًا بفضائل الآخرة، وإنما راجعت وتأملت، لن تجد إلا جهدًا للتمكين في الأرض، حتي لو كان الخطاب مرصعا بالجهاد، خضوعًا لإرادة عليا في السماء.
وإينما راجعت وتأملت، لن تجد إلا سعيًا للاستحواذ الذاتي علي السلطة، حتي لو كان الخطاب قصيدة مبتذلة في عشق الديمقراطية، ولن تجد إلا تجاهلا وافتئاتًا، علي حقوق القاعدة الاجتماعية العريضة، حتي لو كان الخطاب لحنا شجيّا، في حب الفقراء والمساكين وأهل السبيل، تبدو المفارقة صادمة في ذلك كله، إذ إننا أمام أعظم ثورة في التاريخ الإنساني كله، تجاوزت طاقتها العاتية المحيطات والقارات، وذهبت تهزّ قواعد الحكم الراسخة منذ مئات السنين، فوق تخوم الدنيا الواسعة، فكيف لها أن تسمح بأن يتسلق قمة موجهًا أولئك الذين تدفئوا بنارها، وتجنبوا أن يكونوا من وقودها، أو أولئك الذين تعلقوا بأقدامها فأخرجتهم، من خنادق الدفاع السلبي، ومن غياهب الخضوع والامتثال، إلي آفاق الحياة.
'الأمن القومي هو الحل'
'7'
يبقي هذا الصراع المستورد، بين مصر الإسلامية، ومصر المدنية، عارض من عوارض هذا الزمن، ولحنًا ناشذًا في معزوفة الروح المصرية، تتساءل متعجبا قبل أن تكون مستنكرًا: وهل مصر ليست دولة إسلامية، بالقدر الذي يتوافق مع جوهر الإسلام؟ و تتساءل متعجّبا قبل أن تكون مستنكرًا، وهل مصر ليست دولة مدنية بالقدر الذي يتواءم مع مفهوم الدولة الحديثة؟ وفي الحالتين وأيا تكن الإجابة، نكرر السؤالين بصيغ أخري: هل كانت إعاقة مصر علي امتداد عقدين أخيرين، مردّها إلي انتقاص من جوهر الإسلام فيها، أو في حياتها ورسالتها، أم كانت نتيجة لمدنية ضامرة في دولتها التاريخية.
والحقيقة أن إعاقة مصر، لم تنشأ لا علي قاعدة اغتراب عن الدين، الذي ابتكرته حد أنه تخلل روحها الحية، قبل أن يهبط وحيا من السماء، ولا علي قاعدة غياب المدنية، في أصول دولتها الحديثة، وقد أحاطت بها قبل أي دولة سواها.
إن تلك المعركة الوهمية –في ظني– هي جزء من مسرح الإيهام الواسع، الذي حشدت له كل القوي، كي يتمدد في الساحة المصرية، وهي معركة سعت منذ البداية للتغطية علي الميدان الحقيقي للمواجهة، وعلي الأسباب الحقيقية التي تضافرت من الداخل والخارج، لإعاقة مصر عن أداء دورها ورسالتها، فضلا عن تحويلها ذاتها إلي كائن معاق.
معركة مصر الحقيقة، ليست من أجل الدين، لأنه يتنفس في كريات دمّها، ولا من أجل المدنية الحديثة، لأنها أنتجتها وعاشتها وتمثّلتها، ولكن معركتها الحقيقية في استخلاص إرادتها، وإعادة بناء توازناتها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتشبث بصخرة وحدتها الوطنية، وتصفية آثار الاستبداد السياسي، وإنهاء الظلم الاجتماعي، علي قاعدة من التوافق الوطني، فمصر المتوافقة، هي مصر الإسلامية، وهي مصر المدنية، ومصر المتفرقة، لن تكون إسلامية قلبا، ولا مدنية عقلا.
'ليس معبّرا عن الثورة.. وليس ممثلا للشعب'
'8'
لا شيء مما يدور في المسرح السياسي في مصر، يدعو إلي البهجة أو التفاؤل، ولا شيء يدعو إلي اليقين أن مصر –حقا– قد أمسكت ببداية طريق يأخذها إلي تحقيق أهداف ثورتها العظيمة، وكأننا أمام مشاهد ثانوية، من مسلسل يخلو من الحبكة والتراكم الدراميين، فالصراع بين أطرافه وأفراده معزول عن الحياة وعن الواقع، بقدر عزلته عن الشعب، وعن طبقاته المطحونة، وأوجاعه الحيّة، ومفردات الخطاب التي تجري بين أطرافه وأفراده، تخرج من الأفواه أحيانا كالأحجار، توجع وتدمي، وأحيانا كالهواء، خاوية كفؤاد أم موسي، وأحيانا كقنابل الدخان، لا تضيء دربا، ولا تكشف طريقا، بقدر ما تثير في العيون غشاوة من فقدان الرؤية، وفي النفوس موجات من الحيرة واليأس والرجاء.
إن أكثر ما يلفت النظر في ذلك، أن أكثر الذين كانوا يقفون علي خط المواجهة مع النظام السابق، علي أنه نظام مغلق ومستبدّ لأنه صادرهم، وأغلق عليهم خنادقهم، هم الذين يتحركون علي كل الجهات، ليحل انغلاقهم محل انغلاقه، واستبدادهم مكان استبداده، بل إنهم يعمّقون مدي الاستبداد، استحواذا وإحلالا لأنفسهم، لا محل النظام، وإنما محل الدولة.
وأكثر ما يلفت النظر في ذلك، أن أكثر الذين كان كلامهم مفعما بفضائل الإيمان والتقوي، رفضا لمتاع الدنيا، وسعيا إلي جنة الآخرة، هم الأكثر سعيا وعدوا وراء مغانم الدنيا الزائلة.
وأكثر ما يلفت النظر في ذلك، أن أكثر القوي حديثا عن الشفافية والوضوح والتمسك بالقانون، هم أكثرها غموضا، وعتمة، وافتئاتا علي القانون، نصا وروحا.
وأكثر ما يلفت النظر في ذلك، أن الأشد إعلانا عن عداوته لأمريكا وللإمبريالية، وعن سخطه عليها، ونفوره منها، هو الأقرب إليها سعيا، وتحاورا، وتوافقا، وإحسانا.
ثم إن أكثر ما يلفت النظر في ذلك كله، أن الأغلب الأعم من الجاثمين فوق المسرح، وفي جنباته، لا يبدو إلا مشغولا بذاته، ممتلئا بمصالحه، متطرفا في ادعائه الغلبة والقدرة والمكانة، بينما تجري أنهار الناس في شوارع القاهرة، أمواجا من الحيرة، تغالب عوائد الزمن، وصنوف المحن، وجيوش الفتن، وهي ترمم حلم الثورة في رقدتها الخشنة في جوف الليل، ربما يدبّ فيه نبض الحياة، عندما يشرق صبح جديد.
'من فقه الثورة إلي فقه التبعية...'
'9'
إن الحقيقة الساطعة تؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين مع آخرين، علي خطوط الاصطفاف الديني، هي أكثر القوي استحواذا علي المبادرة السياسية، وهي في طريقها إلي الاستحواذ الكامل والمطلق عليها، وأن ممارستها العملية الممتدة، منذ المرحلة الأولي التي تلت نجاح الثورة في إزاحة النظام، وحتي هذه اللحظة تقدم شواهد واضحة ومحددة، علي أن الأمر لم يجر بصورة عشوائية، وإنما جري مخططا ومبرمجا، ومساندا من قوي خارجية، وقد استخدمت فيه كل أدوات صناعة الوهم، وجميع حيل الالتفاف والاختراق والتقسيم والتطويق.
بل إن مراجعة خطابات الجماعة علي امتداد أكثر من عام، بما في ذلك صيغ التحالف التي طرحتها، ودعوات التوافق اللحظية التي دعت إليها، وأساليب الحركة وإعادة الاصطفاف بين القوي التي دعمتها، تؤكد بجلاء أن استراتيجية التمكين للجماعة في المجتمع، اندفعت بقوة مضاعفة لتحقيق أهدافها الذاتية، وأنها انتقلت من مرحلة الإحلال محل النظام السياسي السابق، إلي مرحلة الإحلال محل الدولة ذاتها.
'مصر بين خيار الانفجار الشعبي والانفجار العسكري'
'10'
ينثرون في الفضاء المفتوح خطابًا سياسيًا كأنه أوراق الورد، لكنها أوراق من الزجاج، سرعان ما تتحول عندما تصطدم بأرض الواقع إلي نثار من التراب، وبقع من الرماد، يتحدثون ديمُقراطية ويتصرفون استبدادا، يتكلمون عدلا ويتصرفون جورا، يتحدثون انحيازا للقانون وسيادته ويتصرفون طعنا فيه وهدما لسيادته.
يقولون في الفضاء المفتوح خطابًا مرصّعًا بجواهر الكلِم، عن الحرية والديمُقراطية والعدل والتوافق الوطني، ثم ينصرفون إلي خنادقهم المغلقة كي يضعوا المكائد، وينصبوا المصائد، لتكبيل الحرية، وخنق الديمُقراطية، واغتيال العدل، وطرد الخصوم خارج المسرح السياسي، منتقين أكثر وسائل الترهيب وأدوات القمع تخلفا.
وليس هذا هو الإسلام، بل هو نقيضه جوهرا وروحا، فالإسلام لا يعرف ازدواجية في الخطاب، ولا تحايلا في المنطق، ولا انفصاما بين القول والفعل، ولا تضليلا في البيّنة، وكذًبا في الادعاء، كما أنه لا يعرف سعيا إلي الاستحواذ، ولا اكتنازا للسلطة أو رأس المال، ولا مغالبة إلا مع الأعداء، بل هو يرفض التمييز، ولا يجعل فارق الأفضلية بين ناس وناس، وجماعة وجماعة، وفرد وفرد، إلا بالتقوي، التي هي ليست ظاهر القول، وليس ما تسوّقه الكلمات، وإنما ما يعتمر في القلب وتترجمه الأفعال، صدقا، وحقا، وعدلا، ومساواة.
والمشكلة في ذلك عصية علي الحل، إذ كيف يري الناس في الفواصل بين الكلمات والأفعال، ما يمكن أن يرد عن ثوب الإسلام الناصع، ما قد يعلق به من تصرفات، من يدّعون الحديث باسمه والانتماء إليه؟!
وهي كقطع كبيرة من الليل مظلما، وكيف لا يجد الذين في قلوبهم مرض ضد الإسلام، في تلك الفواصل ما يشحنون به مشاعر غير المسلمين خارج الحدود، ليقولوا لهم في النهاية، تلك هي صورة الإسلام الحقيقية، كل مفرداتها تسلط واستحواذ وغلبة، واحتكار ومغانم.
'وجهان في وجه.. ودولتان في دولة'
'11'
يقيني أن النظام المصري الراهن، الذي يقوم علي رأسه الدكتور محمد مرسي، يقع جوهريا في الخطأ الاستراتيجي القاتل ذاته، الذي وقعت فيه الأنظمة السابقة، التي تداعت قواعدها وحوائطها وأسقفها بفعل زلزال الغضب الشعبي، ويقيني أنه إذا ظلت العوامل علي حالها و التفاعلات وفق طبيعتها والشقوق بعمقها، فإننا نسير وبغض النظر عن التوقيت أو المسافة إلي لحظة الانفجار الكبير ذاتها، وإن كانت تلك اللحظة في هذه المرة سيكون إيقاعها الدرامي أكثر حدة، ومضاعفاتها أكثر قسوة، ومنتوجها صداما وانفصاما وأنقاضا ودما، أكثر اتساعا وسخونة.
ذلك أننا أمام قوتين متصادمتين واقعيا، الأولي قوة شعبية ازدادت دوائرها اتساعا يتخللها إحساس طاغ واقعي وعميق، بأن ثمرة الثورة التي غذتها صبرًا وجلدًا وقهرا ودما، قد قطفتها كاملة بالغدر والخديعة يد قوة أخري، وأن ما تبقي لديها هو حصاد الهشيم، مجرد أحلام مجهضة وآمال مستلبة ومستقبل لا يشي بغير الاستبعاد والتهميش والاحتكار، فضلا عن أن آفاقه لا تزال مسدودة بمكعبات جديدة مضافة من التمييز والفقر والعوز والجوع، والثانية، قوة مغلقة زيّن لها حضورها المنظم ومالها المتدفق وصعود أحد رموزها إلي سدة الحكم، وإحساسها الطاغي بالقدرة والغلبة، وجسورها المفتوحة توافقا مع مصالح قوي الإمبريالية الدولية المسيطرة، أنها صاحبة الاستحقاق في فرصة تاريخية متفردة، غير قابلة للتكرار بأن تفرض سلطتها القاهرة دون منازع، وسلطانها الجائر دون مشارك، وقانونها الأعلي دون معقّب، وأن تحصن بجميع الوسائل مشروعة وغير مشروعة ديمومة السلطة، وأبدية السلطان، ووحدانية القانون.
والمشكلة في ذلك أننا أمام ضفتين متباعدتين، تريد كل منهما استحقاقها الذي تراه كاملا غير منقوص، وإذا كانت القوة بجماهيرها الشعبية الواسعة غير المنظمة، قد اتسعت دوائرها المشتعلة غضبا في أنحاء مصر كلها، فإنها لا تملك إلا حضورها السلمي في الميادين، وحناجرها التي تخوض سباقا مبررا لتعلية سقف الشعارات والمطالب، وهو بدوره ما يشكل دالة علي عمق الغضب تحت صخور الإحساس بالامتهان والاستلاب والخديعة، أما القوة الثانية المتحصنة في قصر الرئاسة ودوائره، فتبدو في توجهها العام أقرب إلي نصف بيت من معلقة امرؤ القيس ' كجلمود صخر حطه السيل من علِ ' وواقع الأمر بذلك أن القوة الثانية التي تملك إمكانية إظهار المرونة وتغليب قواعد التوافق سادرة في غيها، لا تريد إلا أن تثقل موازينها دون أن تتنازل عن شر و نقير، فهي تريد أن تأكل وحدها رغيف السلطة دون تفريط في كسرة منه أو حبة قمح، وهي تريد أن تحتكر مائدة السلطان وحدها دون أن ترمي للأفواه المفتوحة من حولها، حتي ما قد يعد من بقايا المائدة وفضلات أطباقها.
وواقع الأمر بذلك، بل واقع الخطر الهائل المحدق بنا في الحقيقة، أن السلطة القائمة، هي التي تفرض قاعدة المواجهة وقانونها، وأنها تحولها بإصرار بالغ، وضيق أفق نادر، وحسابات ذاتية مرتبكة وغير سليمة، إلي نمط غير مسبوق في جميع الصراعات، التي اكتنفت التاريخ الوطني، والتي جرت بين حاكم وشعب، أو بين شعب وجماعة حاكمة، إلي ما يسمي في العلوم الاستراتيجية بالمعركة أو المباراة الصفريّة، أي إما غالب وقاهر ومسيطر، وإما مهزوم ومقهور ومستلب، بمعني أدق إما حاكم فرد وشعب خانع، أو حاكم مخلوع وشعب قادر، وتلك هي المعضلة حقا، التي تجعل وجه المستقبل الوطني في مرايا المستقبل القريب، مساحات متداخلة من الكسور والشقوق والجروح والدماء.
'للجماعة لا لله ولا للوطن......!!!!!'
'12'
كان مطلوبًا من الإخوان -أولاً- أن يضعوا قارة الثورة المصرية، بل الكيان الوطني نفسه، فوق قضبان الاستراتيجية الأمريكية في الإقليم، مقابل صعودهم بقوة الأمر الواقع إلي سدّة الحكم.
وكان مطلوبا من الإخوان -ثانيًا- أن يدفعوا الاقتصاد الوطني إلي مزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي، من موقع ضعف، ومن موقع ذيليّ وأن يقبلوا بالتكيّف مع الشروط الجائرة التي يتطلبها هذا الاندماج، وأن يطيحوا بما تبقّي من معادلات الاعتماد علي الذات، وتقليل درجة الانكشاف أمام الخارج.
وكان مطلوبا من الإخوان -ثالثًا- أن يحافظوا علي المعادلات الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجها النظام السابق علي حالها، فيبقي توزيع الثروة الوطنية قسمة جائرة يتمركز ثلثاها في أيدي أقلية محتكرة، لا تمثل إلا هامشا ضيقا لا يتجاوز 5% إلي 7%، يحتل قمة السلم الاجتماعي بينما يبقي السفح مكتظا ومتصادمًا بأغلب شرائح الطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا.
وكان مطلوبا من الإخوان -رابعًا- فصم تلك الوحدة العضوية التاريخية بين العروبة والإسلام، واعتبار العروبة بنية مكروهة في حد ذاتها وكأنها نقيض الإسلام، وليست الجسد الذي احتوي روح الإسلام، والشرايين التي جري فيها كما تجري العصارة الحيّة في الشجرة الجرداء، بكل انعكاس ذلك علي سلامة النظام الإقليمي العربي، وعلي إعادة الاصطفاف في الإقليم وفق روابط مصطنعة، تنفي القومية، وتجزؤ الإسلام، وتقوم علي المذهبية الضيقة.
وكان مطلوبا من الإخوان -خامسًا- غض البصر عن التهديدات المستجدّة، التي تفيد تشكيل البيئة الاستراتيجية حول مصر بالقوة المسلحة، وتخفيض درجة الإحساس الوطني بالخطر، وعدم القيام بأي عمل معيق لإكمال عملية الانقلاب الاستراتيجي في أوضاع الإقليم، بل الانخراط عمليا في المساعدة علي اكتماله، في حيز الشمال الأفريقي برمته.
وكان مطلوبا من الإخوان -سادسًا- وضع القضية الفلسطينية في ثلاجة الزمن بخلق حالة تهدئة عامة مع إسرائيل وتأمين جبهتها الجنوبية وفق شروط تمس السيادة الوطنية وتفرض هدنة ممتدة بين حماس وإسرائيل، تكّف الأولي وفق هذه الشروط عن أن تمثل تهديدا عسكريا للثانية.
وكان مطلوبًا من الإخوان - سابعًا وثامنًا وتاسعًا - الخ..الخ
'عن الدولة والجيش والإخوان'
'13'
لقد فات الجميع أن الشعوب لا تطلب التغيير دفعًا للملل، أو هربًا من الأرق، ولا تطلبه وفق حسابات برنامج الكمبيوتر، أو توقعات هيئات الأرصاد الجوية، أو محددات تقارير البنك والصندوق الدوليين، فللشعوب حساباتها، التي هي خارج قوانين السوق، ومنطق السلطات، وضوابط النظام الدولي.
ينزل الفساد من أعلي ويهبط علي سلالم المجتمع ويخنق الناس بيدين قويتين في الشوارع، ليصعد العنف من أسفل علي السلالم ذاتها، فيحتدم الصدام، ومن ثم الانفجار، لكنه لا مناص من القول إن هذه السلطات التي تضع مصائر أوطانها فوق عجلات أجنبية، وتدفعها فوق قضبان التكيٌف مع شروط الأقوي، ومنظماته ومؤسساته الدولية، متنكٌرة لخصوصيتها الوطنية، وحاجات القواعد المنتجة العريضة في مجتمعاتها، هي التي تؤدي بنفسها دور المفجٌر الموقوت في قنبلة هائلة علي مقاس المجتمع، لأنها لا تدرك وربما لا ترغب في أن تدرك، أنه عندما ما تتوقف الكعكة عن النمو، وتنشط فيها عوامل تآكل الدولة، وتآكل رأس المال الاجتماعي، جنبا إلي جنب مع مضاعفات الكساد والاحتكار والبطالة، واستحواذ الأقلية علي الجانب الأكبر من الثروة الوطنية، فإن الحراك الاجتماعي الذي يتوجه بقوة من أعلي إلي أسفل، ليعيد بناء طبقات المجتمع وتنظيم عوائدها، علي مقاس مصالح هذه الأقليات وحلقاتها وحلفائها في الخارج، يدفع بنفسه حراكًا سياسيًا جديدًا، يتوجه بقوة مضاعفة من أسفل إلي أعلي، متسلحًٌا بطاقة عنف شديدة، دفاعًا عما تبقي من لقمة العيش، وضرورات الحياة.
'دروس الثورة في تونس'
Email: [email protected]
Site: ahmedezzeldin.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.