بالأسماء، حركة تنقلات وكلاء الإدارات التعليمية بالقاهرة    ربيع: التطوير الشامل للقطاع الجنوبي أعاد رسم خريطة الملاحة في قناة السويس    تناقض صارخ.. الحكومة تسدد الديون الخارجية بقروض جديدة!!    وزير الصحة يشارك في حوار عن الثقافة والرياضة والهوية الوطنية    مجموعة مكسيم للاستثمار راعٍ بلاتيني للمؤتمر العالمي للسكان والصحة PHDC'25    لبنان.. التمويل الإيرانى يتحدى العقوبات.. وحزب الله تحت مجهر واشنطن    البرازيل: الرسوم الأمريكية على البن واللحوم والفواكه الاستوائية تبقى عند 40% رغم خفض ترامب لبعض الضرائب    جميع المتأهلين لدور ال16 في كأس العالم للناشئين وموعد المباريات    عمر مرموش يعود لتدريبات منتخب مصر استعدادا لمباراة الرأس الأخضر    موجة حارة تضرب البلاد تدريجيًا بداية من هذا الموعد.. الأرصاد توضح التفاصيل    أسماء جلال ل «أبلة فاهيتا»: أول قصة حب كانت في أولى ابتدائي    المصريين: "دولة التلاوة" تحافظ على الإرث الروحي لمصر ومكانتها القرآنية    المركز الإعلامي يوضح تحول تلال الفسطاط إلى واجهة حضارية بالقاهرة التاريخية    اختتام المؤتمر العالمي للسكان.. وزير الصحة يعلن التوصيات ويحدد موعد النسخة الرابعة    البرازيل تفوز على السنغال بثنائية نظيفة وديا    كولومبيا توقع عقدًا لشراء 17 طائرة مقاتلة من طراز "جريبين" من شركة ساب السويدية    هل تشفي سورة الفاتحة من الأمراض؟.. داعية توضح| فيديو    أسامة ربيع: أكثر من 40 سفينة تعبر قناة السويس يوميًا    الأرصاد: تحسن في الطقس وارتفاع طفيف بدرجات الحرارة نهاية الأسبوع    سلة - قبل مباراة الفريق الأول.. مرتبط الأهلي يفوز على سبورتنج ويتأهل لنهائي الدوري    رامي عيسي يحصد برونزية التايكوندو في دورة ألعاب التضامن الإسلامي 2025    (كن جميلًا ترَ الوجودَ جميلًا) موضوع خطبة الجمعة المقبلة    محافظ الدقهلية خلال احتفالية «المس حلمك»: نور البصيرة لا يُطفأ ومصر وطن يحتضن الجميع| فيديو    أسباب الانزلاق إلى الإدمان ودوافع التعافي.. دراسة تكشف تأثير البيئة والصحة والضغوط المعيشية على مسار المدمنين في مصر    استشاري أمراض صدرية تحسم الجدل حول انتشار الفيروس المخلوي بين طلاب المدارس    رواتب تصل ل 45 ألف جنيه.. وظائف جديدة في محطة الضبعة النووية    تعديلات منتظرة في تشكيل شبيبة القبائل أمام الأهلي    عاجل خبير أمريكي: واشنطن مطالَبة بوقف تمويل الأطراف المتورطة في إبادة الفاشر    طوكيو تحتج على تحذير الصين رعاياها من السفر إلى اليابان    قضية إبستين.. واشنطن بوست: ترامب يُصعد لتوجيه الغضب نحو الديمقراطيين    الليلة الكبيرة تنطلق في المنيا ضمن المرحلة السادسة لمسرح المواجهة والتجوال    حبس والدى طفلة الإشارة بالإسماعيلية 4 أيام على ذمة التحقيقات    عملات تذكارية جديدة توثق معالم المتحف المصري الكبير وتشهد إقبالًا كبيرًا    الزراعة: تعاون مصري صيني لتعزيز الابتكار في مجال الصحة الحيوانية    وزير الصحة يعلن توصيات المؤتمر العالمى للسكان والصحة والتنمية البشرية    القاهرة للعرائس تتألق وتحصد 4 جوائز في مهرجان الطفل العربي    الداخلية تكشف ملابسات تضرر مواطن من ضابط مرور بسبب «إسكوتر»    جنايات بنها تصدر حكم الإعدام شنقًا لعامل وسائق في قضية قتل سيدة بالقليوبية    جامعة قناة السويس تنظم ندوة حوارية بعنوان «مائة عام من الحرب إلى السلام»    سفير الجزائر عن المتحف الكبير: لمست عن قرب إنجازات المصريين رغم التحديات    التعليم العالي ترفع الأعباء عن طلاب المعاهد الفنية وتلغي الرسوم الدراسية    بيان رسمي.. تفسير جديد لاستبعاد معلول من ودية تونس والبرازيل    عاجل| «الفجر» تنشر أبرز النقاط في اجتماع الرئيس السيسي مع وزير البترول ورئيس الوزراء    محاضرة بجامعة القاهرة حول "خطورة الرشوة على المجتمع"    تحاليل اختبار الجلوكوز.. ما هو معدل السكر الطبيعي في الدم؟    عمرو حسام: الشناوي وإمام عاشور الأفضل حاليا.. و"آزارو" كان مرعبا    الشرطة السويدية: مصرع ثلاثة أشخاص إثر صدمهم من قبل حافلة وسط استوكهولم    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمحل عطارة في بولاق الدكرور    طريقة عمل بودينج البطاطا الحلوة، وصفة سهلة وغنية بالألياف    الإفتاء: لا يجوز العدول عن الوعد بالبيع    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    نقيب المهن الموسيقية يطمئن جمهور أحمد سعد بعد تعرضه لحادث    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    نانسي عجرم تروي قصة زواجها من فادي الهاشم: أسناني سبب ارتباطنا    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    حسام حسن: هناك بعض الإيجابيات من الهزيمة أمام أوزبكستان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن الدولة والجيش والإخوان
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 31 - 12 - 2012

خلال أخطر مشاهد الحرب العالمية الثانية، وفي وهج الصدام العسكري، الذي كاد أن يغطي الشرق الأوسط، أعاد الاستراتيجيون البريطانيون وحلفاؤهم الأمريكان استبصار القيمة الاستراتيجية الاستثنائية لمصر كقاعدة لا بديل عنها للدفاع عن الإقليم أو الاستحواذ عليه بتحديد أدق.
لقد أحبطوا ارتكازا علي مصر، غزوا ألمانيًّا متوقعا لإيران واستولوا عليها، وقمعوا من قواعدهم في مصر ثورة العراق وأطفأوا نارها، وقفزوا من فوق الجسور المصرية مع قوات 'ديجول'، وطردوا قوات ' فيشي' من سوريا وحرروها، ولم يعد لديهم في اليونان أو قبرص موطئ قدم، حيث ثبت أن الوجود في البحر الأبيض يظل غير آمن وغير مستقر دون مصر، وعبر الباسيفيك إلي البحر الأحمر كانت الإمدادات الأمريكية تصل معلقة علي معبر لا بديل عنه... الخ الخ.
لقد كانت مصر تبدو في ذلك الوقت، رغم هذه الأهمية الاستثنائية كخشبة طافية فوق سطح مضطرب، وفوق سطحها أيضا ما يؤذن باضطراب وقلاقل، وكان لابد من طفوها مؤقتا دون اهتزاز، فقد كان النظام السياسي ذاته يترنح أمام العواصف التي تهب من كل اتجاه، كانت المعارضة قد انتقلت من الأحزاب السياسية إلي الشارع، فقد تحدث فيه فاقة وجوع وأزمة مستحكمة وعجزًا سياسيًا كاملًا مصاحبًا لها، واهتزت قاعدة الائتلاف في المجتمع، وأصبح الباب مفتوحا أمام صياغات جديدة، ستحاول أن تعرّف نفسها بالقوة الجبرية.
في ضوء ذلك توصل البريطانيون لصيغة كان الأمريكيون هم مبتكروها، وهي 'التأجير العيني بنظام الوقت'، لقد استأجرت أمريكا عينيا وبنظام الوقت عددا من القواعد البحرية والجوية البريطانية في أنحاء العالم لمدة 99 عاما مقابل 50 مدمرة بحرية متهالكة، فلماذا لا تتوصل بريطانيا إلي صيغة للاستئجار العيني بنظام الوقت للقاعدة الشعبية لحزب الوفد، مقابل فتح الطريق أمامه للانفراد بالحكم وفق اتفاق مشترك، وكان هذا بالضبط هو ما تم في حادثة 4 فبراير 1942، حين تم فرض حكومة الوفد علي الملك، بعملية مركبة من الإكراه السياسي، واستخدام القوة المسلحة.
مع ذلك فلم يُقدر لهذه الحكومة التي فرضها البريطانيون علي مصر، بمزيج من الإكراه السياسي والقوة المسلحة غير عام وشهرين، استنفد البريطانيون خلالها بعض مآربهم من استئجار قواعدها الشعبية، لتمرير مخططات الحلفاء، التي كانت تعيد ترتيب وبناء الأوضاع في مصر، وفي أنحاء الإقليم، ورغم أن 'تشرشل' أصدر أوامره ثلاث مرات للقوات البريطانية بفرض بقاء هذه الحكومة، فإن الإصرار علي بقائها بدا في أعقاب ذلك أكثر تكلفة للإستراتيجية البريطانية من السماح بسقوطها، بسبب نتائج الصدامات المتكررة بين الملك والنحاس، الذي كان لا يزال أقرب إلي التعبير عن ضمير الأمة.
وفي محاولة أخيرة للإبقاء عليها أرسل 'تشرشل' إلي 'كيلرن' رد عليه 'في 29 إبريل حسب الوثائق البريطانية' قائلا: 'إن إصلاح العلاقة بينهما كمن يحاول خلط الزيت بالخل'.
ورد عليه 'تشرشل' بأسلوبه الأدبي الرمزي قائلا: 'لا يزعجنك خلط الزيت بالخل، فذلك ما يحتاجه دائما أبسط أطباق السلطة' لكن 'طبق السلطة' الذي أراد 'تشرشل' صنعه في مصر لم تجانس مفرداته ولم يقاوم طويلا، فقد انكسر بما احتواه.
شيء من ذلك قد حدث في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير، فقد بدت القاعدة الشعبية للإخوان، هي الأكثر تنظيما واتساعا، وبالتالي الأكثر قدرة علي تخفيض حدة الاضطراب الكبير فوق سطح مضطرب، ووسط بيئة إقليمية أكثر اضطرابا، بينما بدت بقية فصائل القوي السياسية الأخري أكثر تشتتا وتبعثرا، تموج بخلافاتها وتناقضاتها الثانوية، ونزوعها إلي التمركز علي ذواتها، في الوقت الذي كان مطلوبا فيه أمريكيا وغربيا، إزاحة وعاء القوة الوطنية المنظم الذي يمثله الجيش، وطرده كليا خارج جميع المعادلات السياسية للبلاد، وهو مطلب وهدف ظل السعي إلي تحقيقه سابقا بسنوات طوال علي حدث الثورة، لكنه أصبح أكثر إلحاحا وربما أكثر قابلية للتحقيق بعد حدوثها، فقد كان علي الجيش أن يعبر بالوطن فوق جسر تحوّل، تتزاحم فوقه المخاطر والتهديدات، وتتعدد فيه واجهات وأدوات الاختراق الأجنبي، وسط حالة عامة من انخفاض المناعة الوطنية، بحكم ما تعرضت له منظومة القوة، وأدوات الضبط الاجتماعي من تبعثر وانكسار.
غير أن قيادة الجيش أخضعت سلوكها لعدة معايير رأت فيها أنها تمثل ضرورات وطنية ملزمة، سواء للحفاظ علي بنية المؤسسة العسكرية علي جانب، أو سواء لتحسين الأوضاع الداخلية من الانجراف نحو تفجيرات مرتبّة،وصدامات مخططة، بين جانب من الشعب وقواته المسلحة، مع اتساع تعدد جبهات الخطر، ومنصّات التهديد.
ولهذا انصّب جهدها في المرحلة الانتقالية علي محاولة نزع الألغام والقنابل الموقوتة القابلة للانفجار في البيئة الوطنية، بينما لم تتدخل بالقدر المطلوب لإعادة بناء موازين القوي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي كان يمكن أن تفتح الباب علي اتساعه أمام موجة الثورة العالية للاقتراب، أكثر من الوصول إلي شاطئها المأمول، وهكذا تحولت المرحلة الانتقالية في مناخ عاصف إلي مسافة زمنية، انتقل المصريون علي جسرها من محطة إلي محطة، دون أن يلحق بأوضاعهم المأزومة، وأهدافهم المشروعة، وموازينهم المختلة، ما يعين ثمرة الثورة نفسها علي أن تكون ملكا للجميع، ساعد علي ذلك دون شك زيادة عناصر المكوّن الأجنبي والأمريكي خاصة في القرار الداخلي، من خلال التئام العلاقة بين الإخوان والولايات المتحدة الأمريكية، ودخولها في صيغة لا تخرج عن تلك الصيغة السابقة، وهي صيغة 'التأجير العيني بنظام الوقت'.
كان مطلوبا من الإخوان–أولا–أن يضعوا قارة الثورة المصرية، بل الكيان الوطني نفسه، فوق قضبان الاستراتيجية الأمريكية في الإقليم، مقابل صعودهم بقوة الأمر الواقع إلي سدّة الحكم.
وكان مطلوبا من الإخوان–ثانيا–أن يدفعوا الاقتصاد الوطني إلي مزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي، من موقع ضعف، ومن موقع ذيليّ وأن يقبلوا بالتكيّف مع الشروط الجائرة التي يتطلبها هذا الاندماج، وأن يطيحوا بما تبقّي من معادلات الاعتماد علي الذات، وتقليل درجة الانكشاف أمام الخارج.
وكان مطلوبا من الإخوان–ثالثا–أن يحافظوا علي المعادلات الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجها النظام السابق علي حالها، فيبقي توزيع الثروة الوطنية قسمة جائرة يتمركز ثلثاها في أيدي أقلية محتكرة، لا تمثل إلا هامشا ضيقا لا يتجاوز 5% إلي 7%، يحتل قمة السلم الاجتماعي بينما يبقي السفح مكتظا ومتصادما بأغلب شرائح الطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا.
وكان مطلوبا من الإخوان–رابعا–فصم تلك الوحدة العضوية التاريخية بين العروبة والإسلام، واعتبار العروبة بنية مكروهة في حد ذاتها وكأنها نقيض الإسلام، وليست الجسد الذي احتوي روح الإسلام، والشرايين التي جري فيها كما تجري العصارة الحيّة في الشجرة الجرداء، بكل انعكاس ذلك علي سلامة النظام الإقليمي العربي، وعلي إعادة الاصطفاف في الإقليم وفق روابط مصطنعة، تنفي القومية، وتجزأ الإسلام، وتقوم علي المذهبية الضيقة.
وكان مطلوبا من الإخوان–خامسا–غض البصر عن التهديدات المستجدّة، التي تفيد تشكيل البيئة الاستراتيجية حول مصر بالقوة المسلحة، وتخفيض درجة الإحساس الوطني بالخطر، وعدم القيام بأي عمل معيق لإكمال عملية الانقلاب الاستراتيجي في أوضاع الإقليم، بل الانخراط عمليا في المساعدة علي اكتماله، في حيز الشمال الأفريقي برمته.
وكان مطلوبا من الإخوان–سادسا–وضع القضية الفلسطينية في ثلاجة الزمن بخلق حالة تهدئة عامة مع إسرائيل وتأمين جبهتها الجنوبية وفق شروط تمس السيادة الوطنية وتفرض هدنة ممتدة بين حماس وإسرائيل، تكّف الأولي وفق هذه الشروط عن أن تمثل تهديدا عسكريا للثانية.
وكان مطلوبًا من الإخوان–سابعا وثامنا وتاسعا–الخ..الخ
لقد كان علي الإخوان أن يحققوا ذلك كله، ولكن بمنحي مختلف، فقد كان المطلوب غربيا اعتماد منطق خلط الخل بالزيت، وتكوين طبق السلطة، الذي يشكلون مفرداته الغالبة، لا مفرداته الوحيدة القاهرة التي احتكرت الطبق لنفسها، وطردت ما عداها إلي خارجه، وإذا كان الإخوان قد بدأوا خطابهم العام، بالحديث عن فتح مصر، فقد تحوّل سلوكهم العام من مطمع إلي مغنم، وكأنما تم اصطياد مصر فريسة، ينبغي التصرف معها بمنطق الاستئثار بالملكية والاحتكار، وهكذا تم خلط العمل السياسي العام الديمقراطي، بتوجهات ذات طبيعة إحلالية انقلابية، وقد تم التحوّل من ثقافة موروث وطني يشكّل الدين أحد أبعاده الأساسية، إلي ثقافة موروث ديني بحت، يشكّل قطيعة معرفية مع التراث الوطني، ومع التوفيقية الإسلامية التي استطاعت في أوج مراحل الإبداع الفكري العربي، أن توفق بين العقل والنقل، وبين العقل والنص، وبين ما تفرضه قوانين السماء، والحاجات المتجددة والمتغيرة في الأرض، لينتهي الأمر إلي فصل العقل عن الإيمان، والحرية عن التاريخ، والعدل عن القيمة، والعقل والحرية والتاريخ والقيمة عن المعني، وإذا كان 'الشافعي' قد عرّف الحق بالصدق، فقد عرفهما معا بأنهما 'المطابقة في الحق من جانب الواقع، وفي الصدق من جانب الحكم' ولكننا انتهينا إلي مخالفة في الحق من جانب الواقع، وفي الصدق من جانب الحكم.
هكذا إذن يمكن تفسير غلبة نزعة الاحتكار والاستحواذ، التي تدحرجت إلي مسافات أبعد وأعمق، تطول قواعد الدولة المصرية ومؤسساتها، فقد تم التدخل بقوة جامحة من السلطة القضائية بغية تطويعها، أو إزالة القيود التي تعترض هذه النزعة من جانبها، فنحن في الحقيقة أمام نزعة مجبولة علي إزاحة القواعد القانونية والدستورية، التي تعترض طريقها أو القفز من فوقها وانتهاك شرعيتها، بغير اكتراث ولامبالاة، ثم إننا أمام نزعة تريد أن تفرض قانونها الأعلي علي جميع القوانين، وأن تحل نفسها محل كافة المؤسسات، وأن تفرض سطوتها بالقوة علي جميع القوي السياسية والاجتماعية وعلي صفحات وشاشات الإعلام، وأن تطمس الهوية الوطنية بطابور مستحدث من الهويات الفرعية، يحول الشروخ إلي فجوات، والفجوات إلي فوالق، تغطي جميع المستويات، سياسيا وطائفيا، ومذهبيا وثقافيا، واقتصاديا واجتماعيا، وهو أمر خرج بها من منظور الغرب ذاته، عن حدود الوظيفة التي تم استئجارها بنظام الوقت من أجل تحقيقها، وهي خلق حالة شكلية تعطي انطباعا عاما بالتوافق، وإحساسا عاما بالتهدئة والرضا العام، أي خلط الزيت بالخل، وصناعة طبق من السلطة، يمكن أن يكون قابلا للتناول والتداول.
ماذا أريد أن أقول؟
أريد أن أقول بوضوح، إننا لم نعد بصدد خلافات في السياسة، أو حول السياسة، برامجيًا أو توجهًا، وإنما نحن بصدد صدام في صلب مفاهيم وقواعد الأمن القويم، وأن المشكلة والأزمة لم تعد متعلقة بجماعة تريد أن تفرض وجودها ورؤيتها علي جميع جوانب الحياة السياسية في مصر، أو تريد أن تحلّ نفسها محل جميع القوي الوطنية في تحديد المصير الوطني، ولكننا أمام جماعة ورئاسة، تقوّض هوية الدولة الوطنية التاريخية، وتمزق قواعد الأمن القويم، وهو أمر لا علاقة له بأي نتائج تخرج بالحق أو بالباطل من صناديق الانتخابات أو الاستفتاءات، فهذه الصناديق لا تعطي أحدًا حقا في تغيير الوظيفة التاريخية للدولة المصرية، ولا تعطي أحدًا مشروعية كسر الكتلة الوطنية، ولا إشاعة عوامل الفرقة والصدام، ونفي عوامل التوافق والتوحد، هذه الصناديق لا تعطي أحدا مشروعية استخدام وتوظيف تنظيمات مسلحة، لإكراه منصات القضاء العالية، وأجهزة الدولة العاملة، ومنابر الإعلام والأحزاب المختلفة، فضلا عن المتظاهرين السلميين، علي الرضوخ والإذعان، والانحناء المذّل، أمام سطوة السلاح، ومنطق الإرهاب، وهي تنظيمات مسلحة، أصبحت تمارس دورها المشبوه في وضح النهار، وكأن السلطة قد منحتها حصانة خاصة وأقامتها بديلا عن الشرطة الوطنية، التي قيّدت نفسها بالقانون، وقيّدتها السلطة حدودا وتسليحا.
لقد أقنع الإخوان أنفسهم، بعد أن تحقق لهم هدف إخراج الجيش من المعادلات السياسية للبلاد، بأن الأمر أصبح جاهزا لتقييد الجيش، ودفعه إلي الخروج كليّا من التأثير في المعادلات الاستراتيجية، والحفاظ علي هوية الدولة، وصيانة قواعد الأمن القومي، ولقد كان صدي ذلك واضحا ومتزامنا في إسرائيل، في صورة قرار هدم النصب التذكاري في قرية ثوايا بالضفة الغربية لعشرة شهداء من العسكريين المصريين تمسكوا بشرف العسكرية المصرية، ورفضوا الإذعان لأوامر العدو بتنكيس أعلامهم وأسلحتهم والخروج من الضفة الغربية إلي الأردن، فاغتالتهم قنابل الغدر ودفنتهم كالأعلام حيث كانوا وقوفا يقاومون.
والحقيقة أن تعبير الأمن القومي ذاته هو تعبير مهجور في جميع خطابات وكتابات ووثائق الإخوان، بل هو تعبير غائب أو قل فريضة غائبة، أما الكلمة نفسها إذا وجدت عابرة، فهي تعبّر عن شيء آخر، تم تجريده من مفاهيمها الحقيقية، فعندما يستخدم مرشد الجماعة–مثلا–في تعبير عابر ونادر كلمة الأمن القومي، فإنه يضعها في السياق التالي ' إن دعم المقاومة الفلسطينية هو خط الدفاع الأساسي عن الأمن القومي المصري '، وهو ما يمكن قراءة عمقه علي النحو التالي: 'إن دعم حماس هو خط الدفاع الأساسي عن أمن الجماعة في مصر' وإذا كنا كما قال المرشد ذاته في مواجهة جماعة يضع توصيفا دقيقا لها بأنها–حسب ألفاظه–'مؤسسة دولية'، فكيف يستقيم البحث عن وجود مفهوم وطني صحيح للأمن القومي، تعرّف نفسها علي هذا النحو، بأنها مؤسسة فوق وطنية وفوق قومية وفوق إقليمية، بل كيف يستقيم معه البحث عن ظلّ لمفهوم السيادة الوطنية، في جميع الأدبيات الفكرية للجماعة، إذا كلما استخدمت كلمة السيادة، لا تعني إلا أن تكون مرادفا لشيء آخر، هو سيادة الجماعة، وإن حلّت مكانها بالخداع كلمة الدولة، أليس هذا ما ينطق به تصريح أحد قيادات حزب الحرية والعدالة، بعد العدوان الهمجي علي معتصمي قصر الاتحادية، بقوله: 'سنحمي سيادة الدولة بأي ثمن ولا يمكن للرئيس أن يعتمد علي قوة الشرطة التي تنتمي إلي عصر مبارك' وهذا كلام فوق أنه يقيم سيادة الجماعة بديلا لسيادة الدولة، فإنه يعترف بالسعي إلي إحلال جهاز إخواني خاص محل جهاز الشرطة، يؤدي وظيفة القمع الغاشم التي أصبحت تستنكف القيام بها، ولذلك–أيضا–فلم يكن هناك ما يستوجب الدهشة عندما يضاف إلي أحد بنود هذا الدستور المصطنع، ما يسمح بالتخلي عما يدخل في قلب مفهوم السيادة الوطنية.
لسنا إذن بصدد خلافات في السياسة، أو حول السياسة، برامجيًا أو توجها، وإنما بصدد صدام في صلب مفاهيم وقواعد الأمن القومي، وفي أسس هويّة الدولة الوطنية التاريخية، وأي تناول لذلك في سياق آخر هو تجريد له من حقيقته، وتسطيح له من جوهره.
إذا كانت تلك هي حقيقة الأزمة، ومادة الصراع، التي تشكل محنة وطنية حقيقية، فما حدود ومساحة التداخل بينها وبين وظيفة الجيش، وبين دور الجيش وبينها ؟
أعتقد أن مساحة التداخل وحدودها، تتحدد وفق قاعدتين أساسيتين:
الأولي: أن مبدأ حماية الأمن القومي يتقدم بالمنطق والفطرة بل والغريزة، علي أي وظيفة أخري للدولة.
الثانية: أن العقيدة القتالية لا تخصّ الجيش وحده، لأنها في تعريفها العلمي، الإدراك القومي المتكامل لأساليب ومناهج التعامل مع التهديدات والأزمات والخصوم.
لكن العقيدة العسكرية هي التعبير العضوي عن هذا الإدراك، الذي يخصّ القوات المسلحة، وأساليبها وأدواتها في إدارة الصراع.
وفي تداخل الحدود والمساحات بين العقيدة القتالية والعقيدة العسكرية، ووظيفة الدولة، والأولوية المطلقة لمبدأ حماية الأمن القومي، تنبثق الوظيفة السياسية للمؤسسة العسكرية باعتبارها أداة الضبط والرقابة النهائية، علي جميع العوامل والعناصر التي تهدد بنية الدولة وهويتها وقواعد أمنها القومي، كما تبلورت في شخصيتها الحضارية التاريخية، وهي وظيفة لا قبل لأحد بتجاهلها، أو تجاوزها، أو الافتئات عليها


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.