لا أعتقد أننا في انتظار مفاجأة كبري في نتائج المرحلتين التاليتين من الانتخابات البرلمانية، تطيح بالقاعدة الأساسية التي انبثّقت منها نتائج المرحلة الأولي، بل إن أوضاع مصر الداخلية التي تموج بالمتناقضات، ذاهبة في كل الأحوال إلي ولادة برلمان يشبه الأطفال المبتسرين، الذين يخرجون إلي الحياة في غير زمن الولادة الطبيعي، وربما في غير بيئتها الصحية، ورغم ذلك يبقي حقهم في الحياة كاملا، ولكنه مشروط بأن يتكيفوا علي نحو صحيح مع شروط الطبيعة والواقع؛ لأن عليهم أن يدركوا بالغريزة أنهم لا يقدرون علي أن يفرضوا شروطهم بالقوة الجبرية عليها. '1' إن أوضاع مصر الراهنة تعاني خللا مركّبا في جميع التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ومن الطبيعي أن يعكس هذا البرلمان كالعدسة اللامة خيوط هذا الخلل، فيأتي تمثيلا ضيقًا لخريطة سياسية واجتماعية وفكرية ضيقة، لا تعكس بأي مستوي أو معني، خرائط المجتمع المصري بطبقاته وفئاته، ومدارسه السياسية، وقواه الاجتماعية، وأرصدته الثقافية والفكرية والمعرفية. لقد فرضت الظروف علي الشعب المصري في أعقاب ثورته العظيمة، صنفًا من الديمقراطية المقيّدة، وهي مقيّدة بأوضاع المجتمع، وبأوضاع النخبة، وبتلال متتالية من الأزمات، ولقد اختار الشعب مجلسًا بإرادة ناقصة، فقد كانت تذكرة الانتخاب الحر -رغم أي تجاوزات- متاحة ومبذولة دون شك، ولكن رغيف الخبز لم يكن متاحًا، ولم يكن مبذولا باليقين، ولذلك لابد أن يسري النبض من جديد في تلك الحقيقة الغائبة، التي قبّرت وأهيل عليها التراب، والتي تؤكد أن حرية رغيف الخبز هي الضمانة الحقيقية لحرية تذكرة الانتخاب. ذلك أنه سيكون ضربًا من الجموح والتطرف، إذا ما تصور أحد، أن مصر بمركّبها الحضاري والتاريخي، يمكن أن تُختزل في تيار ديني، إخوانيًا كان أو سلفيًا، أو في تيار ليبرالي غدت بضاعته تمثّل محنة وأزمة حقيقية، تهزّ قواعد الاستقرار، علي المستوي الدولي كله، وسوف يكون سوء القصد سابقًا علي سوء الفهم، إذا ما تم تلخيص المعركة السياسية في مصر، علي أنها معركة بين الدينيين والعلمانيين، أو بين تيار الإسلام السياسي، وتيار الليبرالية الغربية، أو بين المسجد والكنيسة، أو بين فريقين أحدهما يمثّل جموحاً نحو الماضي، والآخر يمثّل جنوحًا نحو الآخر، فليس في شخصية مصر، ما يمثّل قطيعة معرفيّة مع الماضي، وليس في مكونها الحضاري ما يمثّل نفيًا منهجيًا للآخر، فقد انفتحت مصر عبر تاريخها الطويل علي كل جديد في الدنيا، وأخذت منه ما ينفعها ويتوافق معها، أما زبّده فقد ذهب جفاء عند شواطئها، وأما رصيدها الأصولي التاريخي، فقد ظل في مكانه متواصلا مع زمانها في زمانه، لا تأخذ منه عاديات الزمن، ولا تقدر عليه عوامل التعرية. فقد ظلت مصر عبر تاريخها، نموذجًا للتوازن الإنساني والحضاري والثقافي: صلابة بغير انغلاق، وانفتاح بغير انفراط، وإيمان بغير تطرف، وتجديد دون تفريط، وإبداع دون تقليد، وحكمة دون استعلاء. '2' لذلك يبقي هذا الصراع المستورد، بين مصر الإسلامية، ومصر المدنية، عارضاً من عوارض هذا الزمن، ولحن نشاز في معزوفة الروح المصرية، تتساءل متعجبًا قبل أن تكون مستنكرًا: وهل مصر ليست دولة إسلامية، بالقدر الذي يتوافق مع جوهر الإسلام، وتتساءل متعجبًا قبل أن تكون مستنكرًا؟ وهل مصر ليست دولة مدنية بالقدر الذي يتواءم مع مفهوم الدولة الحديثة؟ وفي الحالتين وأياً تكن الإجابة، نكرر السؤالين بصيغ أخري، هل كانت إعاقة مصر علي امتداد عقدين أخيرين، مردّها إلي انتقاص من جوهر الإسلام فيها، أو في حياتها ورسالتها، أم كانت نتيجة لمدنية ضامرة في دولتها التاريخية؟ والحقيقة أن إعاقة مصر، لم تنشأ لا علي قاعدة اغتراب عن الدين، الذي ابتكرته حد أنه تخلل روحها الحية، قبل أن يهبط وحيًا من السماء، ولا علي قاعدة غياب المدنية، في أصول دولتها الحديثة، وقد أحاطت بها قبل أي دولة سواها. إن تلك المعركة الوهمية -في ظني- هي جزء من مسرح الإيهام الواسع، الذي حشدت له كل القوي، كي يتمدد في الساحة المصرية، وهي معركة سعت منذ البداية للتغطية علي الميدان الحقيقي للمواجهة، وعلي الأسباب الحقيقية التي تضافرت من الداخل والخارج، لإعاقة مصر عن أداء دورها ورسالتها، فضلا عن تحويلها ذاتها إلي كائن معاق. معركة مصر الحقيقية، ليست من أجل الدين، لأنه يتنفس في كريات دمّها، ولا من أجل المدنية الحديثة؛ لأنها أنتجتها وعاشتها وتمثّلتها، ولكن معركتها الحقيقية في استخلاص إرادتها، وإعادة بناء توازناتها.. سياسيًا واقتصادياً واجتماعيًا، والتشبث بصخرة وحدتها الوطنية، وتصفية آثار الاستبداد السياسي، وإنهاء الظلم الاجتماعي، علي قاعدة من التوافق الوطني، فمصر المتوافقة، هي مصر الإسلامية، وهي مصر المدنية، ومصر المتفرقة، لن تكون إسلامية قلبًا، ولا مدنية عقلا. '3' فوق مسرح الإيهام، الذي يمتد في قلب الساحة السياسية والإعلامية، تتمدد أكثر من لعبة من ألعاب خداع النظر. وأولي ألعاب خداع النظر، تترتب علي حصاد ما يسمّي بالسلفيين، لمّا يقترب من ربع مقاعد البرلمان، تاليين في الترتيب علي الإخوان المسلمين، وتحويل النظر إلي السلفيين، علي أنهم ممثّلو التشدد، الذين يريدون أن يفرضوا علي المجتمع، ما لا يتوافق مع صفاته الطبيعية التي عاش بفطرته عليها، هي رؤية يترتب عليها بالتالي تحريك موقع الإخوان المسلمين، من أقصي اليمين إلي الوسط، ليصبحوا في المنظور العام الممثّلين الشرعيين للوسط المصري، طالما كان اليمين فوق المسرح، مسكونًا بقوي تبدو ظاهريًا أكثر تشددًا، حيث يصبح للإخوان بالتالي امتيازين إضافيين، أنهم -أولاً- يمثّلون زورًا وبهتانًا موقع الوسط في الحياة السياسية المصرية، وأنهم -ثانياً- يمثّلون زورًا وبهتانًا -أيضا- الكتلة الوحيدة القادرة علي احتواء السلفيين، والعمل علي إعادة ضمّهم إلي موقع الاعتدال والوسطية. وفي الحالتين، فنحن أمام لعبة نظر، لماذا؟ أولا: لأن الإخوان ليسوا وسطًا اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، ولا حتّي وسطاً إسلامياً، وكلمة الوسط في القرآن الكريم، أتت بمعني مخالف للفهم الشائع للوسطية الدينية، فالتفسير اللغوي الدقيق للآية الكريمة: 'أمة وسطا' إنما تعني أمة عدلا، أي أن ميزانها العدل، وهو تعبير اجتماعي باتساعه، وليس دينيًا بحتاً حتي بانغلاقه، والحقيقة أن برامج الإخوان المسلمين، اقتصادياً واجتماعيًا، لا تخرج عن توجّه الحزب الوطني، ولا عن فلسفة النظام السابق، ولهذا فإن تصنيفها الحقيقي سياسيًا، يضعها في موقع اليمين، وفي أفضل الأحوال بينه وبين يمين الوسط. ثانيًا: لأن العلاقة بين الإخوان والسلفيين، ظلّت طوال الوقت، وباتساع الحركة في ميدان الدعوة، قريبة الشبه بالعلاقة بين المشاة والمدفعية في ميدان الحرب، حيث يمثّل السلفيون المدفعية، والإخوان المشاة. وإذا كان علي المدفعية أن تقصف دفاعات الخصم، فإن علي المشاة في أعقاب القصف المكثّف، أن يحتلّوا الأرض، وأن يتمسكوا بها. وهذا التقسيم الوظيفي، بغض النظر عن حديث قيادات الإخوان، عن التعهد بالامتناع عن التحالف مع السلفيين، سيظل هو القانون العام، الذي يحكم العلاقة بينهما. ثالثًا: لأن السلفيين قد حصلوا علي أعداد من المقاعد، تملأ صدورهم وعقولهم بحاسة التميّز عن غيرهم، بمن فيهم الإخوان، ولذلك فإن وجود السلفيين بهذه النسب العالية، وفي إطار مشروعهم ذي الصبغة الدينية، المختزلة في شكل العلاقات الاجتماعية والإنسانية وطبيعة التفكير، ومنطق التكفير، سيخلق مناخًا داخل المجلس والمجتمع، يفرض علي الإخوان البحث عن صيّغ للتواؤم والتوافق معهم، وليس العكس؛ لأن ادعاء القيادة في هذه الحالة، لن يكون متوافقًا مع الاعتدال، وإنما مترافقًا مع المزايدة. رابعًا: لقد بدا واضحًا، أن مبدأ الاستحلال مازال قائمًا في سلوك هذا التيار، فاستحلال الصوت الانتخابي، تزويرًا أو دفعًا للتزوير، أو تحايلا علي كسبه أو استحقاقه، يعكس بقاء مبدأ الاستحلال مرجعية عامة، فكل شيء قابل للاستحلال باسم تمكين شرع الله في الأرض، ولا يختلف استحلال الصوت الانتخابي، عن استحلال ما عداه، ما دام يجري في الاتجاه ذاته، ووفق المبدأ نفسه، التمكين للتيار في الأرض، كمعادل موضوعي للتمكين لشرع الله في الأرض، رغم اختلال طرفي المعادلة بالتأكيد. '4' في الخطاب الراهن، الذي يتم الترويج له عبر قنوات الإعلام المختلفة، ثمّة خلط مبهم بين السعي إلي نشر التفاؤل، تغنيًا بالديمقراطية البازغة، وبين السعي إلي إشاعة طمأنينة كاذبة، يقوم بها بعض من يريدون أن يلحقوا كالعادة بركب المنتصرين، عارضين عليهم خدماتهم مبذولة، وبطريقة التوصيل إلي المنازل، وقد لا تستطيع أن تفصل الأمرين، لكن هناك في النهاية في بعض خطوط الخطاب ما يستحق التوقف. إن أول هذه الخطوط أو الأصوات، يبذل جهدًا لضخ قناعة عامة في المجتمع، بأن تيار الإسلام السياسي، يأخذ مكانه في صفوف مجلس الشعب، بعد حرمان من التواجد الطبيعي في أطر الدولة، حرمته بدوره من الاحتكاك الطبيعي بالواقع، وهو في موقع المسئولية، وتحت ضوء النهار، وأن هذا الاحتكاك بالواقع، من شأنه أن يغير في التكوين، وأن يرشد الخطاب، وأن يطرد من ساحته الغلواء والتشدد. وظني أن ذلك صحيح جدًا، فقد أُجبر هذا التيار، أو أُجبرت بعض فصائله، علي العمل السرّي، وعلي التخندُّق تحت الأرض، وللعمل السرّي والتخندق أمراضهما دون شك، والخروج إلي السطح من شأنه أن يكون عنصرًا مهمًا في الشفاء منها، لكن ذلك مرهون بالمشاركة لا المغالبة، وفي توازن صيغ التواجد، لا في اختلالها، وفي وجود قوي للوسط، ويسار الوسط، واليسار، لها القدرة علي المنازلة والمواجهة والحوار، لخلق حالة تفاعلية، تعلي من شأن التوافق الوطني حول القضايا الأساسية، أما إذا كان الحضور منفردًا، والساحة خالية، والصوت واحدًا، والاختلال هائلا، فإن الصوت الواحد يزداد طربًا بذاته، ولا يعيد إنتاج إلا نفسه. وثاني هذه الخطوط أو الأصوات، يبذل بدوره جهدًا ببث قناعة، بأن التجربة ولو بمنطق الصواب والخطأ، تنطوي علي فائدة لا تنكر، فقد أعطينا فرصة لغير تيار الإسلام السياسي، أعطينا فرصة للعسكريين، وفرصة أخري للليبراليين، وفرصة ثالثة للقوميين، ولم تكن النتائج بقدر المأمول أو المتوقع، فلماذا لا نعطي الفرصة لهذا التيار، لكي يكون الحكم عليه كاملا وراشدًا، وإذا لم يجد الناس في حكمهم ما يثقل موازين مصالحهم، ويصلح أحوال حياتهم، فإنهم سيشكّلون القوة الانتخابية في المرة المقبلة للإطاحة بهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فضلا عن أن ميدان التحرير مازال في مكانه، وطاقة التغيير والثورة لاتزال محتفظة بعنفوانها، وقادرة وقابلة للحركة صوبه دون تأخير. وظني أن بعضًا من ذلك القول يبدو صحيحًا، ولكن مجمله لا يبدو كذلك؛ لسببين: أولاً: أن مصر تعبر في مفصل تحول في أوضاع الإقليم والدنيا، وهي واقعة تحت أشكال مستجدة من التهديدات والتحديات، تصوّب نفسها إلي الداخل الوطني، وعبر حدودها شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وسوف يكون من قبيل الترف الوطني، في وقت شدة وعوز، أن ترمي مصر بنفسها في أتون تجربة قابلة للصواب والخطأ، فالمصير الوطني في هذه الظروف الدقيقة، لا يحتمل توجهًا بغير توافق وطني، كما أنه لا يحتمل انقلابًا مفاجئًا في القواعد الأساسية، التي يصطف فوقها الأمن القومي، فوق أنه لا يحتمل انفصاما بين وظيفة الجيش الدائمة، ودور البرلمان المؤقت. ثانيًا: أن ثمة قانوناً عاماً في السياسة يقول منطوقه، إن الصعود إلي السلطة والاستحواذ عليها، يؤسس تلقائيا للبقاء فيها، والإبقاء عليها ولذلك سيكون أول عمل لتيار الإسلام السياسي كما هو بادٍ، هو تحصين وجوده وبقائه، بشتي الصور والوسائل، قانونية أو غير قانونية فما بعد التمكين هو تمكين التمكين، وتحصينه، ومنحه القدرة علي البقاء والاستمرار، عن طريق تقييد الخصوم وإلقائهم خارج الساحة. وهناك في بنية هذا التيار خاصية أخري، فوق احتكار التمثيل الذي أتت به نتائج الانتخابات، وهو الظن باحتكار الحقيقة، وهو ما يدفع للمباشرة في الحفاظ عليها، فإذا كنت ممثلا للحقيقة، فهي تمثّل قي حد ذاتها وبذاتها مشروعية نفسها، وإذا كان الإخوان علي امتداد تاريخهم، ينطقون سلوكًا وممارسة بأنهم أصحاب المشروعية في المجتمع، بحكم أن هذه المشروعية لا تتنزل من الشعب، وإنما من العقيدة المنزلة من السماء، فما بالك لو خيّل إليهم أنهم حصلوا علي المشروعية من طرفيها، مشروعية صاعدة إليهم بالاختيار من الشعب، وأخري نازلة إليهم من السماء. '5' لقد كنا نريد برلمانًا متوازنًا، يعكس الخرائط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لدولة قديمة بعمق التاريخ الإنساني، ولكننا سننتهي إلي برلمان لا يمثّل إلا جانبًا محدودًا من هذه الخرائط، وهذا جانب من المشكلة. لكن الأكبر فيها هو ما يترتب علي هذا الاحتكار السياسي، لتيار الإسلام السياسي، ليس داخل ساحة البرلمان، وإنما في ساحة المجتمع الواسعة، وقد بدت ظواهره في الانتشار كالنار في الهشيم، وأهمها وأوضحها، بل أخطرها.. سيادة مناخ سلفي عام يفرض سطوته، علي الحياة الاجتماعية المصرية، في أدق وأخص تفاصيلها اليومية. فأينما ولّيت وجهك الآن إلي أحد مواقف ركوب الميكروباصات، وهي أداة النقل الأساسية، سوف تجد نداء مكررًا علي شاكلة النداء التالي: 'الجيزة رجال' أو 'الجيزة حريم'، فقد بدأ الفصل عمليًا بين الرجال والنساء، في وسائل النقل الشعبية، وحتّي في قطارات المترو، سوف تجد من يصعد ويرفع يديه إلي أعلي، ليفصل بين الرجال والنساء، درءًا للفتنة، وإذا استمر الحال علي هذا المنوال، ودون تدخل قوي وحاسم من الدولة، فإن ذلك سيعني أن هناك من يدفع الدولة عامدًا، إلي حتفها دون رد فعل منها. '6' علي الدولة المصرية أن تنهض، لتصوغ دستورًا بالتوافق لا بالاغتصاب، ولتواجه فتنة تسري، بمنطق ضارٍ، باسم الحلال والحرام، بدلا من منطق نافع، تحت عنوان المفيد والضار، فمصر مكانة ومكان، راسخة لا مهتزة، هي الأقوي ونحن الأضعف، وهي الأبقي ونحن المؤقت، وهي الأغني ونحن الأفقر، وهي المطلق ونحن النسبي فيها، ومن حولها، في الأمس واليوم والغد.