وظائف وزارة الزراعة 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    الدفاع الروسية تعلن القضاء على 9565 جنديا أوكرانيا خلال أسبوع    حكومة غزة: الرصيف الأمريكي لن يلبي حاجتنا وسيعطي فرصة لتمديد الحرب    كوريا الجنوبية تتهم بيونج يانج بزرع الألغام في المنطقة المنزوعة السلاح بين البلدين    إعلام أمريكي: موقف أوكرانيا أصبح أكثر خطورة    الأزمات تطارد لابورتا.. برشلونة مهدد بدفع 20 مليون يورو بسبب تشافي    الوصل يكتسح النصر برباعية ويتوج بكأس الامارات سنة 2024    حجز تذاكر قطارات عيد الأضحى 2024 ومواعيد التالجو    فيديو.. أحمد السقا: اللي ييجي على رملة من تراب مصر آكل مصارينه    البيت الأبيض: يجب فتح الجانب الفلسطيني من معبر رفح فورًا    واشنطن:"الرصيف العائم" ليس بديلا للممرات البرية..و لانرغب في احتلال غزة    تفاصيل أعلى عائد على شهادات الادخار 2024 في مصر    محافظ الإسكندرية يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي (صور)    «هندسة مايو» يكرم الكاتب الصحفى رفعت فياض    عاجل: موعد نتيجة الشهادة الاعدادية الترم الثاني محافظة القاهرة 2024    التصريح بدفن جثة تلميذ غرق بمياه النيل في سوهاج    تراجع الأسهم الأوروبية بفعل قطاع التكنولوجيا وغموض أسعار الفائدة    «التضامن»: ضم فئات جديدة لمعاش تكافل وكرامة قبل نهاية سبتمبر المقبل    تفاصل الدورة الأولى ل«مهرجان دراما رمضان» وموعد انطلاقه    يسرا تهنئ الزعيم بعيد ميلاده : "أجمل أفلامى معاك"    الاستعدادات الأخيرة ل ريم سامي قبل حفل زفافها الليلة (صور)    في ذكرى ميلاده.. لماذا رفض عادل إمام الحصول على أجره بمسلسل أنتجه العندليب؟    هشام ماجد يكشف عن كواليس جديدة لفيلمه «فاصل من اللحظات اللذيذة»    استمرار تراجع العملة النيجيرية رغم تدخل البنك المركزي    حريق هائل يلتهم محتويات شقة سكنية في إسنا ب الأقصر    وزير الاتصالات يبحث مع سفير التشيك تعزيز التعاون بمجالات التحول الرقمي    بعد غلق دام عامين.. الحياة تعود من جديد لمتحف كفافيس في الإسكندرية (صور)    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    مدير إدارة المستشفيات بالشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى فاقوس    حسام موافي يوضح أعراض الإصابة بانسداد الشريان التاجي    "بسبب سلوكيات تتعارض مع قيم يوفنتوس".. إقالة أليجري من منصبه    توخيل يؤكد تمسكه بالرحيل عن بايرن ميونخ    "بموافقة السعودية والإمارات".. فيفا قد يتخذ قرارا بتعليق عضوية إسرائيل    4 وحدات للمحطة متوقع تنفيذها في 12 عاما.. انتهاء تركيب المستوى الأول لوعاء الاحتواء الداخلي لمفاعل الوحدة الأولى لمحطة الضبعة النووية    علماء الأزهر والأوقاف: أعلى الإسلام من شأن النفع العام    سوليفان يزور السعودية وإسرائيل بعد تعثر مفاوضات الهدنة في غزة    تاتيانا بوكان: سعيدة بالتجديد.. وسنقاتل في الموسم المقبل للتتويج بكل البطولات    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي    رئيس جهاز دمياط الجديدة يستقبل لجنة تقييم مسابقة أفضل مدينة بالهيئة للعام الحالي    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    «جمارك القاهرة» تحبط محاولة تهريب 4 آلاف قرص مخدر    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    مساندة الخطيب تمنح الثقة    فريق قسطرة القلب ب«الإسماعيلية الطبي» يحصد المركز الأول في مؤتمر بألمانيا    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    "حزب الله" يشن هجوما جويا على خيم مبيت جنود الجيش الإسرائيلي في جعتون    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    استشهاد شاب فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي شمال الضفة الغربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر وتركيا .. أي حوار استراتيجي نريد ؟ !
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 20 - 09 - 2011

تتنكب مصر الطريق فوق هذا الجسر الصعب، إذا فقدت ثقتها بذاتها، ويقينها بقدرتها علي أن تفرض إرادتها علي واقعها ومحيطها، وتنهار من تحت أرجلها سلالم ذلك الممر العلوي، الذي صنعته ثورتها العظيمة، نحو سماوات أحلامها، المرصعة بالنجوم، إذا انطفأت
في روحها تلك الشعلة المتأججة إيمانا بالنفس، وإدراكا لمكامن القدرة والقوة، إذ لا شيء في ميزان القوي يتناسب مع الروح المعنوية للشعب، فهي الثقل الأكبر في كفة الميزان، بل في كافة كل الموازين، فانتصار الشعوب كانتصار الجيوش سواء بسواء، لا يتحقق بقبضة السيف، أي القوة المادية، وإنما بحده المصقول، أي القوة المعنوية، وهزيمة الشعوب، كهزيمة الجيوش سواء بسواء، تبدأ جرثومة، تنخر في روحها المعنوية، ثم تنتقل إلي إرادتها فتصيبها بالوهن، ثم الانكسار .
لذلك فالمبارزات التاريخية الكبري، ليست - في النهاية - صداما بين شعوب وشعوب، أو جيوش وجيوش، ولكنها بين إرادات وإرادات، ولهذا لا تتحدد نتائج هذه المبارزات التاريخية في كل معركة، وكل مواجهة، بمقدار ما يضغط به الطرف الأقوي، ولكن بمقدار ما يقاوم به الطرف الأضعف .
غير أن الروح المعنوية ليست نشيدا حماسيا في المذياع، ولا خطابا ورديّا عبر الشاشات، ولا أقراصا للتفاؤل توزعها الحكومات، مع الصحف اليومية وأرغفة الخبز، كما أنها ليست وعودا مبذولة بالاستقرار والرخاء، وإنما هي منسوب نهر الرضا العام، الذي يجري طليقا في الشوارع والحارات والحقول .. وفي هذه الدائرة تحديدا، يتراكم أكثر ما تنتجه هذه الحكومة من سلبيات، وهو إطفاء الروح المعنوية للشعب، فليست المشكلة في أن الضعف بادٍ والقرارات مرتبكة، والفوضي ناشئة، والرؤية محدودة، والفهم منغلق، والاقتصاد مستنزف، والفقر والجوع يتكاثران في الأركان، والنظام الاقتصادي ما زال مرآة للنظام السابق، ولكن في مردود حاصل ضرب ذلك كله علي الناس، والذي لا يخرج عن كونه حقنا منظما للشعب، بجراثيم الإحباط واليأس، وفقدان اليقين .
' 1 '
لقد كان مشهد زيارة السيد الطيب أردوغان لمصر، ناطقا بذلك، فقد تم إخراجه علي نحو قلب دلالاته الحقيقية، واصطبغه بهالة مصنوعة، شكلت منه صورة، أقرب إلي الإيهام منها إلي الحقيقة .
كانت مفردات المشهد الطبيعي، تقول إن رئيس وزراء تركيا اختار أن يضرب موعدا مع مصر، للقاء ثورتها، وهي تصحح مسار التاريخ، وطنيا وإقليميا ودوليا، وتفرض علي الإقليم معادلات استراتيجية جديدة، وتعيد توزيع القوي جيوسياسيا، وتنتج تأثيرات بعيدة المدي، تؤسس لنظام دولي جديد، ولكن المشهد بدا علي عكس ذلك تماما، وكأن الثورة المصرية كانت علي موعد مع رئيس وزراء تركيا، الذي لم يخلف موعدها، وجاءها حاملا معه مشروع ثورة التغيير، التي تفتقدها وتبحث وسط اضطرابها وحيرتها بين الأنقاض عنها .
وكانت مفردات المشهد الطبيعي، تقول إن رئيس الوزراء التركي، قد هبط مصر، في مناخ وطني مشتعل، تتوزع في فضائه الواسع صور حية للبطولة، ووجوه مشرقة لأبطال عظام، تستحق الانحناء أمامها، والاقتباس من نورها، ولكن المشهد بدا علي النقيض من ذلك، وكأن الرجل قد جاء مصر، ليقدم صورة البطل، الذي تفتقده مصر وتفتش عنه، دون أن تجده في صفوفها أو بين جوانحها .
وكان المشهد الطبيعي، يقول إن رئيس الوزراء التركي، قد جاء إلي مصر، في إطار استراتيجية تركية، ليست خافية ولا مبهمة، وهي موصولة بالمصلحة التركية العليا دون شك، مستهدفا توظيف الحالة المصرية، استراتيجيا وسياسيا واقتصاديا، كطاقة مضافة إلي الدور الإقليمي التركي، الذي تسعي تركيا إلي تعميقه وإبرازه، بتخطيط واع، ودأب شديد، لكن المشهد بدا وكأن تركيا، تريد أن تضيف من رصيدها مجانا، إلي رصيد مصر الإقليمي، ومن طاقتها دون حساب، إلي طاقة حضور مصر في الإقليم .
وكان المشهد الطبيعي، يقول إن رئيس وزراء تركيا، قد جاء إلي بلد، قدم للفلسطينيين وللقضية الفلسطينية، ما اقتطعه من لحمه ودمه، ولقمة عيشه، علي امتداد التاريخ، بحرا من العطاء، وصفوفا ممتدة من الشهداء، وهو درس حيّ، علمه المصريون للتاريخ، لكن المشهد بدا علي العكس من ذلك، أن لدي تركيا في علاقتها الموصولة بإسرائيل، دروسا جديدة تستحق أن يتعلم منها المصريون .
ساعد في ذلك كله دون شك، وهن حكومي، يعكس إرادة ناقصة مستضعفة، بغياب رؤية استراتيجية، وإعلام يتوزع بين سوء القصد، وسوء الفهم، ودوائر قوي سياسية، واقتصادية، تجد في تضخيم الصورة التركية، تضخيما لصورتها، وفي تعميم النموذج التركي، تعميما لسطوتها، ما يؤكد أنها لا تستطيع أن تخرج عن إطار صورة التابع الأليف .
وهكذا تحول الاتصال، وبالتالي الاستقبال، من قبل البعض، إما إلي التعبير عن حفاوة أيديولوجية، وهي حفاوة للأسف الشديد، لا تري في التجربة التركية كلها، إلا بعدا واحدا، يثقل موازينها، وإما إلي حفاوة مالية، بحكم ما يمكن أن تحمله اتفاقيات التجارة، من زخات انتعاش، تمطر في جيوب بعض المصريين، والمستوردين، وإما حفاوة نفسية، من أولئك الذين صدّرت إليهم الحكومة يأسا، وصدّر إليهم الإعلام أملا، بأن البديل المطلوب قائم، في تجربة أخري، لم يعنهم أحد علي فهمها علي نحو صحيح .
' 2 '
لقد أصدر أحمد داوود أوغلو، كتابه الشهير ' العمق الاستراتيجي ' ، والذي يكاد يمثل الخلفية الأيديولوجية، وأسس التوجه الاستراتيجي لتركيا، تحت حكم حزب العدالة والتنمية، عام 2002 ، ولكنه أضاف إليه، في طبعته السادسة والأربعين، قبل أقل من عامين، فصلا جديدا من أربعين صفحة، حمل عنوانا مشبعا بالدلالة، وهو :
' ما بعد العمق الاستراتيجي : تركيا دولة مركز ' ، واصفا دولة المركز، بأنها لا تنحصر في منطقة بعينها، وأن لها سمات معينة، أهمها الاستراتيجية التاريخية، العمق الجغرافي، التأثير الثقافي المتبادل، الترابط الاقتصادي المتبادل، وهي سمات لا علاقة لها بتعبير ' الدولة المحورية، الذي صاغه ' بول كنيدي ،ولم يصنف تركيا تحت تعريفه، ومع أن ' أوغلو ' أضاف عددا قليلا من الدول، ينطبق عليها التعبير الوظيفي ذاته، من بينها روسيا وألمانيا وإيطاليا، ومصر وإيران في الإقليم، إلا أن بعض السمات التي حددها، قد تكون محل جدل في الحالة التركية، خاصة ما يتعلق بالاستمرارية التاريخية علي جانب، وبطبيعة التأثير الثقافي، علي الجانب الآخر، وهما ظاهرتان محسومتان تماما في الخصوصية المصرية .
لكن الأمر هنا ليس أمر مقارنة في التاريخ، وإنما أمر توازن في المصالح، وهذا بالضبط هو ما يستهدفه، أي حوار استراتيجي صحيح ومنتج بين طرفين، فغاية الحوار الاستراتيجي المحددة والواضحة، هي تعظيم قوة الدولة، أي القوة الاستراتيجية، علي الجانبين، لا تعظيم الأرباح السياسية لبعض القوي، أو الأرباح المالية لبعض الشرائح الاجتماعية، أو لبعض الأشخاص .
لكن حسابات قوة الدولة، والعوامل الأساسية الداخلة في تشكيلها، ظلت مشكلة ملحة، لا يمكن قياسها بوحدات القياس الكمي أو الطولي، ولذلك صدرت عن مفكرين استراتيجيين عديدين، معادلات مختلفة ومتباينة لحساب قوة الدولة، والقوة الاستراتيجية لها، من بينها - مثلا - معادلة ثلاثية المستويات، تبدأ بالأرض ' الموقع الجغرافي - المساحة - القوة البحرية ' وتنتهي بالموارد ' القوة البشرية كما ونوعا، والموارد المادية ' وانتهاء بقدرة العمل الجماعي، علي تحويل الموارد إلي ثروات سياسية وعسكرية، ومن بينها - مثلا - أن قوة الدولة = حاصل تكعيب المنتج القومي للدولة، مضروبا في الجذر التربيعي لعدد سكانها .
لكن ' أحمد داود أوغلو ' أسس معادلة جديدة لقوة الدولة، يمكن القبول بوضعها رمانة ميزان، للحوار الاستراتيجي بين دولتين بالفعل، لتتبين كل منهما، الرصيد الذي يمكن أن يشكل إضافة إلي قوتها الاستراتيجية، أو استقطاعا منها .
وإذا وضعنا معادلة ' أوغلو ' لقوة الدولة أو القوة الاستراتيجية، في معادلة من الرموز، فقوة الدولة '' ق ' = ' م ث + م ت ' x ذسx خ س x رس '
حيث ' ق ' أي قوة الدولة = معطيات القوة الثابتة المكونة من التاريخ ' ت ' والجغرافيا ' ح ' وعدد السكان ' غ ' والثقافة ' ف ' مضافة إلي معطيات القوة المتغيرة ' م ت ' التي تمثل الاقتصاد، التكنولوجيا، القدرة العسكرية، مضروبة في العقلية الاستراتيجية ' ذ س ' ، ومضروبة في التخطيط الاستراتيجي ' ر س ' ، ومضروبة في الإرادة السياسية ' ر س '.
أي أن قوة الدولة = حاصل جمع التاريخ والجغرافيا والسكان والثقافة، مع الاقتصاد والتكنولوجيا والقوة العسكرية، مضروبة في العقلية الاستراتيجية، والتخطيط الاستراتيجي، والإرادة السياسية .
حيث يمثل الجانب الأول من المعادلة القوة الكامنة، بينما يمثل الجانب الآخر منها القوة الفاعلة، فالذي يضاعف تأثير عوامل القوة الكامنة، ويحولها إلي قوة فاعلة، هو الإرادة السياسية، والعقل الاستراتيجي، والتخطيط الاستراتيجي .
لذلك فإن مصر، في معادلة هذه القوة الاستراتيجية، لديها رصيد هائل لا ينازع، من معطيات القوة الثابتة ' التاريخ - االجغرافيا - عدد السكان - الثقافة ' ولديها - أيضا - معطيات كبيرة، في عنصر أساسي، من عناصر القوة المتغيرة، وهو القوة العسكرية، التي تمتلك القدرة علي البناء فوقها، والإضافة التي يمكن ان تشكل رصيدا لقوتها كدولة، تتوزع بين عنصرين متغيرين، الاقتصاد والتكنولوجيا، وكلاهما مرتبط بالآخر، فالاقتصاد، لا يصح تلخيصه في التجارة . والتكنولوجيا، لا يجوز وضعها في إطار، إنشاء المصانع بنظام تسليم المفتاح، أما بقية العوامل المسئولة عن تحويل القوة الكامنة إلي قوة فاعلة، كالعقل الاستراتيجي، والإرادة السياسية، والتخطيط الاستراتيجي، فلا شك عندي، أن مصر لديها غني غير مسبوق، في العقل الاستراتيجي، القادر والمؤهل لإبداع تخطيط استراتيجي، وإذا كانت الإرادة السياسية، قد تعطلت قبل الثورة، بحكم زيادة المكون الأجنبي في قرارها، فقد انتهت هذه المرحلة، وسوف تتلاشي آثارها خطوة بعد أخري .
جوهر الحوار الاستراتيجي - إذن - ومقياس نجاحه بالنسبة لمصر، يدخل في صميم الاقتصاد بالمعني الشامل، لا التجارة بمعناها الجزئي، ويدخل في صميم نقل التكنولوجيا، بمعناها المتطور الحديث، وفي بعض الحلقات، التي تمثل حاجة ملحة لمصر، في المرحلة الراهنة، أما الضغط علي مسائل تخفيض الشروط علي الاستثمارات التركية في مصر، أو زيادة معدلات التبادل التجاري، أو إطلاق حرية انتقال الأفراد، أو فتح الباب أمام المرضي المصريين، لتلقي العلاج في تركيا، أو أمام المقاولين المصريين، للحصول علي عقود عمل في البيئة التركية، واعتمادها محاور أساسية للحوار، ومنتوجا حقيقيا له، فهي تجرد الحوار الاستراتيجي، من استراتيجيته، لأن عائدها لا يمثل إضافة ذات قيمة، إلي القوة الاستراتيجية للدولة، والتي هي غاية وهدف، كل حوار استراتيجي .
' 3'
لقد بدأت حديثي بالكلام عن أهمية الإبقاء علي الروح المعنوية للشعب، لأسباب عديدة، من بينها أنها تنصب في مجري القدرة التفاوضية، فهي تشحذ إدراك مصر لذاتها، وتصقل وعيها التاريخي بدورها ورسالتها، ومفتاح ذلك هو بلوغها اليقين، بأن حاجة الآخرين إليها، أكثر بكثير من حاجتها هي إلي الآخرين، يستوي في ذلك، من يطل برأسه للتحاور معها، في بيئة الإقليم، أو من خارج حدوده، في أقصي الغرب أو الشرق .
لقد استوعبت تركيا بفطنة عملية، أن صعودها إلي مصاف القوي المؤثرة في النظام الدولي، مرتبط تماما، بتعاظم دورها الإقليمي، وأدركت صحة هذه المعادلة التاريخية المختبرة، التي تقول إن الدور الإقليمي، هو المفتاح الوحيد، للمكانة الدولية، واستوعبت - أيضا - بفطنة الممارسة الحية في التاريخ المعاصر، أن مصر وحدها، هي التي يمكن أن تضفي علي أدوار غيرها في الإقليم، ما تحتاج إليه، من مكانة ومشروعية، فلم يكن العبور علي الجسور المصرية، شرطا لأن تحتل دولة إقليمية، دورا مؤثرا وفاعلا، في حدود الإقليم، وإنما ظل شرطا لازما، لأن تحتل أي قوة دولية موقفا حاكما، علي قمة النظام الدولي، ولقد كان هذا بالفعل والتجربة، هو ما أدركته كل إمبراطورية مهيمنة أو صاعدة، عبر فصول التاريخ القديم والحديث والمعاصر .
لكن الحواس الاستراتيجية التركية، التي تتفتح في أنحاء الإقليم، يتحتم في أي حوار استراتيجي، أن يُرشّد دورها ليكون إضافة إلي مجمل القوة الذاتية للإقليم، لا انتقاصا منها، وأن يكون ذلك متلازما مع عدد من الشروط، التي يستحيل تجاوزها، وفي مقدمتها :
أولا : ألا يكون الدور التركي، هو مجرد جسر لفتح ممرات آمنة، ينفذ من خلالها حلف الأطلنطي، استكمالا لخطط توسيع دوره ووظيفته، جنوب وشرق المتوسط، سواء في الوحدات السياسية للإقليم، أو في ممراته الاستراتيجية الحاكمة، ولذلك فإن الدور الإقليمي لتركيا، لا يمكن أن يكون محل ترحيب أو توافق، إذا كان شكلا جديدا لحصان طروادة، يحتوي حلف الأطلنطي في جوفه .
لقد عقد أول مؤتمر للحلف في الإقليم، بمدينة اسطنبول عام 4002 وشاركت فيه كل دول الخليج العربي، ثم انتهي المؤتمر بقبول كل دول الخليج، الانخراط في هيكل الحلف كأعضاء مراقبين، باستثناء دولتين، أصرتا علي الرفض، وهما السعودية، وعُمان، وقد لعب نظام حزب العدالة والتنمية، دورا مشهودا في تحقيق ذلك، ولهذا كان طبيعيا أن يعقد المؤتمر التالي للحلف في عام 2005، في دولة خليجية هي قطر، وهو ما تواصلت تفاعلاته بعد ذلك، لتصب نيران حلف الأطلنطي مؤخرا في ليبيا، ورغم أن تفويض الأمم المتحدة لحماية المدنيين، لم يكن موجها إليه أو مقيدا به، لكن هناك اتفاقية غير معلنة، موقعة بين الحلف وأمين عام الأمم المتحدة الحالي ' بان كي مون ' تمنح الحلف مشروعية التدخل العسكري، تحت لافتة المشاركة الفعلية في مسئولية الحفاظ علي السلم العالمي، وهو ما خلق مخاوف، من أن يحلّ الحلف نفسه مكان مجلس الأمن، خاصة أن تركيا تلعب دورا ليس هامشيا، في سياق وظيفة الحلف الجديدة، وفي خروج عمله العسكري من الدائرة الأوروبية، إلي دائرتي الشرق والجنوب، والشاهد في ذلك أن تركيا وافقت قبل عدة أسابيع، علي وضع محطة إنذار للحلف فوق أراضيها، وهي محطة إنذار مربوطة بالمنظومة العالمية للإنذار المبكر الأمريكي ' قاعدة سلاح الجو الأمريكي في بتولا بجرين لاند - قاعدة سلاح الجو الأمريكي كلير في ألاسكا - المنشآت الإنذارية التابعة لسلاح الجو البريطاني في شمال بريطانيا - محطة الإنذار المبكر الأمريكية الإسرائيلية في صحراء النقب '.
وهو ما استبقته بالموافقة علي نشر درع صاروخية علي الأراضي التركية، لكنها ربطت موافقتها بثلاثة شروط، استمرار الأعمال العسكرية الأمريكية، في قاعدة أزمير علي بحر ايجة للحصول علي عائدها، وقيام الإدارة الأمريكية، بسحب طلب كانت قد قدمته لإغلاقها ترشيدا للإنفاق الأمريكي، وتخفيض أسعار صفقة صواريخ باترويت، بمقدار مليار دولار، وأن يذكر أن نشر الدرع الصاروخية الأمريكية علي أراضيها، هدفه حماية اليونان وبلغاريا ورومانيا، وألا يذكر اسم سوريا أو إيران نصا، فيما يتعلق بمهمته .
الغريب أن تركيا، كانت قد اعترضت علنا في مؤتمر حلف الأطلنطي الأخير، علي انتخاب ' راسموسين ' وهو دانماركي الجنسية، لموقع أمين عام الحلف، وفسرت اعتراضها علي أساس أنه ينتمي إلي دولة، صدرت عنها الرسوم المسيئة للرسول الكريم، ثم تبين أن السبب المعلن للاعتراض، لم يكن غير غطاء لسبب آخر، هو سماح الدانمارك لحزب العمل الكردستاني بقناة تليفزيونية، تبث من هناك .
ثانيا : ألا يكون الدور الإقليمي التركي، مقدمة لبناء نظام إقليمي جديد، بديلا للنظام الإقليمي العربي .
إن السعي إلي استبدال النظام الإقليمي العربي، بنظام إقليمي بديل، هو سعي قديم، لكن عوامل تجديده تجري في الإقليم علي قدم وساق، ولقد وجهت إلي النظام الإقليمي العربي من خارجه، ومن داخله، كل عوامل إضعافه، وتفككه، واندثاره، ولكنه ظل يقاوم هذه العوامل، محافظا في الحدود الدنيا علي بقاء إطاره علي قيد الحياة .
والحقيقة أن مسألة تمدد حلف الأطلنطي في إطار الإقليم، أو تفكيك النظام الإقليمي العربي، مترابطان إلي حد كبير، والسماح لإحداهما بالتحقق، هو سماح للثانية بالخروج إلي حيز الوجود .
والحقيقة - أيضا - أن النجاح في تفكيك النظام الإقليمي العربي، يشكل ضربة قوية إلي الدور المصري، ذلك أنه لا تركيا ولا غيرها تملك في إطار هذا النظام، دورا يمكن أن يرتكز علي قواعد راسخة في التاريخ، أو الجغرافيا، اتساقا مع الثقافة، واللغة، والدور، والوظيفة، فمكانة مصر في الإقليم، تتحدد أولا بمكانتها في إطار النظام الإقليمي العربي، قبل أن تتحدد بطبيعة علاقتها، مع أي من دول الجوار الإقليمية، ولذلك فإن قبول مصر بنظام إقليمي جديد، مشروط بأن يكون النظام الإقليمي العربي بجامعته العربية، التي هي التعبير المؤسسّي عنه، هو النواة المركزية الصلبة، أي التي تشكل قلب الإقليم، علي نحو مستقل ومنفصل، عن أي إطار إقليمي أوسع، يمكن أن يتسع لدول الجوار، ويوظف نفسه في بناء معادلات متوازنة، تضمن الأمن، والاستقرار، وتحقيق المصالح المشتركة .
ثالثا : ألا يكون الاعتراف بدور إقليمي تركي بارز في الإقليم، علي حساب الدور المصري، أو افتئاتا علي خصوصيته، كما يتحتم ألا يكون بديلا، أو علي حساب، أي من الأدوار المنوطة بالوحدات السياسية الرئيسية في النظام الإقليمي العربي .
لقد نجحت تركيا في بناء مناخ أكثر جاذبية، وحضّا علي التعاون مع دول الثورات العربية، لأنها اختارت أن تأخذ مبكرا موقفا صحيحا من هذه الثورات، فقد اختارت - علي حد تعبير كاتب ألماني - أن تنحاز، وإن كان علي نحو برجماتي خالص، إلي الجزء الصاعد والصحيح في التاريخ، ولذلك فإن الذين تنكبوا الطريق، وما زالوا ينحازون ويدعمون، الجزء الهابط والخاطئ في التاريخ، يطوقون أدوارهم الإقليمية بأيديهم، فالاصطفاف - عمليا - إلي جانب الظلم والاستبداد والاستغلال، ومحاولة إعاقة التغيير، بالجلوس علي مقعد قيادة الثورة المضادة في الإقليم، ليس نفيا للدور الإقليمي فحسب، ولكنه نفي للشرعية، وتبديد للمكانة، وتحجيم للمكان .
رابعا : ألا تكون نظرية ' بيرت ' عن وحدة البحر الأبيض المتوسط، هي المنهج الجديد للعلاقة بين شاطئيه الشمالي والجنوبي، لأنها تعني - أولا - فصل إفريقيا، جنوب الصحراء، عن قارة إفريقيا، والنظر إليها علي أنها امتداد طبيعي لأوروبا، ولأنها تعني - ثانيا - العودة إلي منطق الاستعمار الإغريقي الروماني، اللذين حققا هذه الوحدة باستخدام القوة، ولأنها تعني - ثالثا - طرح المتوسطية، التي تبدأ بشرق المتوسط، علي أنها البديل الطبيعي للانتماء العربي .
إن المسافة بين ضفتي المتوسط، تزداد اتساعا باطراد، وهي لن تضيق بأدوات القوة المسلحة، أو بوسائل الإكراه المادي والمعنوي، فضلا عن أن الوحدة الأوروبية ذاتها، تعاني زلزالا عنيفا، حيث إن انهيار اليورو كمنتوج لتلك الأزمة الاقتصادية الهيكلية المتصاعدة، يمكن أن يؤدي إلي زعزعة أركانها، وفصم عراها .
' 4 '
يوصّف ' أوغلو ' موقع تركيا وتوجهها - بالتالي - علي أنها دولة أوروبية آسيوية، بلقانية - قوقازية - شرق أوسطية - متوسطية، وتوصّف مصر موقعها، الذي لم تغب عنه الشمس، بأنها دولة عربية، إفريقية، آسيوية، شرق أوسطية، متوسطية، ولهذا فإن هناك تداخلا كبيرا، بين دوائر الأمن القومي، من منظور تركيا، ومن منظور مصر، خاصة إذا كانت إحداثيات الأمن القومي المصري، تمتد من منابع النيل، والقرن الإفريقي، حتي مضيق ملجا بين إندونيسيا وماليزيا، وهذا التداخل في دوائر الأمن القومي المصري، والتركي، يمثل سلاحا ذا حدين، فهو علي جانب، يغذي جانبا من الاهتمامات الأمنية المشتركة، وبالتالي يمثل عاملا مشجعا علي التعاون، وهو علي الجانب الآخر، يطرح إشكاليات متباينة، وبالتالي قد يخلق صيغا مختلفة للتنافس، وهو أمر لابد أن يخضع لحسابات دقيقة من طرفيه، إذا قدر للحوار الاستراتيجي بينهما، أن يلتئم علي نحو صحيح .
لكن ' أوغلو ' يبدو أكثر وضوحا، في اعتراضه علي فصل تركيا عن المجال الجغرافي التاريخي العثماني، وفي أن تقصر مجال تخطيطها وتفكيرها الدفاعي - بألفاظه - داخل حدودها القانونية، وعندما تقول التخطيط والتفكير الدفاعي، خارج الحدود القانونية، فإن الحديث يبدو أكثر اتصالا بالقوة العسكرية، منه بالقوة الناعمة، بل يبدو أبعد مدي من حدود نظرية الردع .
وهو يبدو - أيضا - أكثر وضوحا، في إبداء أسباب اعتراضه علي انفصال تركيا، عن هذا المجال، فابتعادها - في رأيه - عن بيئة الجغرافيا الثقافية لهذه المنطقة - العربية تحديدا - والتحاقها بمحيط حضارة أخري، أفقدها التأثير الكافي في بيئة الجغرافيا الاقتصادية للمنطقة، قبل أن ينتهي إلي معادلة بالغة الوضوح، والشفافية، والدلالة، تحدد الهدف بعد تحديد الوسيلة، يقول منطوقها، إن الجغرافيا الثقافية، هي المدخل إلي بيئة الجغرافيا الاقتصادية الغنية في المنطقة، أما المعادلة الثانية الأكثر وضوحا، فهي توظيف الروابط الشرقية، كسند لتعزيز التوجه الغربي .
إن الأمر أشبه بنظرية مجال حيوي جديد، لا تخلو من نزوع إمبريالي، يوظف الثقافة، بما فيها الحضارة الإسلامية - بل الإسلام نفسه - لاستثمار البيئة الاقتصادية الغنية، في إطار هذا المجال الحيوي، ويوظف الثقافة بما فيها المفردات السابقة، في تعزيز التوجه التركي للالتحاق بالغرب، في الوقت نفسه .
ولهذا يشتد دفاع ' أوغلو ' عن الهيمنة العثمانية، فهو يري أنها ' لم تكن بنية استعمارية، تحول دون تطور العالم العربي، بل كانت درعا واقية له، فلولا الإدارة العثمانية، لاضطر العالم العربي لمواجهة الحركات الاستعمارية الغربية الهدامة، أبكر بعدة قرون '.
والحقيقة أن هذا دفاع، قد يبدو ملتبسا، لكنه مجرد من زبدة الحقائق، فالحضارة العربية الإسلامية، هي التي أجلت الغزو الاستعماري للمنطقة، والذي كان آخر مراحل الظاهرة الاستعمارية، كما كان العالم العربي نفسه، هو مكان هزيمتها، فقد تواصلت لمدة 500 عام، لكنها سقطت تحت ضرباته خلال عشرين عاما، ليصبح معدل انهيارها علي يد العرب، يساوي 1 : 24 من معدل صعودها .
أما الحديث عن تاريخ المظلة العثمانية، التي شكلت درعا، حين دخل العرب تحتها باسم الوحدة الإسلامية، فلم يمثل غير عصر الانحطاط الطويل، فقد أدي الوجود التركي، إلي تمييع القومية العربية، والوطنيات العربية معا، ورسخ الحق الإلهي في الحكم، وقضي علي العدل الاجتماعي، وحول الحكام العرب، إلي جلادين لرعاياهم، وجباة ضرائب للباب العالي .
بل لحقت أكثر آثاره سوءا بالفكر العربي ذاته، الذي تحول من العقل إلي النقل، ومن الشروح إلي المتون .
' 5 '
إننا لا نريد أن ننسج الحاضر والمستقبل، من خيوط الماضي، ولكن واجبنا أن نري غيرنا بعيوننا، لا كما يرغب أن يعكس صورته فيها .
مرحبا - إذن - بالحوار الاستراتيجي، مع دولة مهمة وأساسية هي تركيا، شرط أن يكون الحوار استراتيجيا حقا، تصب نتائجه قوة، في قوة الدولة، أو القوة الاستراتيجية، ولا تكون أهدافه، تعظيم الأرباح السياسية، لبعض القوي، أو الأرباح المالية، لبعض الشرائح والأفراد .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.