سميحة شتا رغم العقوبات الأمريكية المشددة التى تخنق الاقتصاد الإيرانى وتشلّ مفاصل تمويله الخارجي، كشفت تقارير حديثة وتصريحات رسمية عن تحويل طهران نحو مليار دولار إلى حزب الله اللبنانى خلال عام 2025، فى خطوة تعكس إصرارها على الإبقاء على ذراعها العسكرية والسياسية الأقوى فى المشرق، رغم الضغوط المتزايدة التى تحاول واشنطن استغلالها لقطع هذا الشريان المالى الحاسم هذا الكشف الذى جاء على لسان وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لشئون الإرهاب والاستخبارات المالية جون هيرلي، خلال جولة إقليمية شملت تركياولبنان، يعيد تسليط الضوء على المعركة المالية الدائرة حول حزب الله، والتى أصبحت اليوم إحدى أهم أدوات المواجهة بين الولاياتالمتحدةوإيران فى المنطقة. ففى مقابلة مع وكالة «رويترز» نُشرت فى التاسع من نوفمبر الجاري، أكد هيرلى أن إيران «تمكنت من تحويل نحو مليار دولار إلى حزب الله هذا العام رغم العقوبات الغربية التى أضرت باقتصادها»، مشيرًا إلى أن واشنطن ترى فى الظرف اللبنانى الراهن «فرصة سانحة» يمكن من خلالها قطع التمويل الإيرانى عن الحزب والضغط عليه لإلقاء سلاحه. اقرأ أيضًا | طهران تحذر من تداعيات التحركات العسكرية الأمريكية في منطقة الكاريبي وأضاف المسئول الأمريكى أن المفتاح لتحقيق هذا الهدف يكمن فى «التخلص من النفوذ والسيطرة الإيرانية التى تبدأ بالأموال التى يضخونها لحزب الله». هذه التصريحات جاءت متزامنة مع إعلان واشنطن عن حزمة جديدة من العقوبات ضد أفراد وشبكات مالية متهمة بتسهيل نقل الأموال من طهران إلى بيروت. وتأتى هذه التطورات بعد أشهر من انهيار المحادثات النووية بين إيران والدول الغربية فى سبتمبر الماضي، مما أعاد عقوبات الأممالمتحدة إلى الواجهة وأجبر طهران على تعميق علاقاتها الاقتصادية مع روسيا والصين وبعض الدول الإقليمية. غير أن هذه المناورة لم تخفِ حقيقة تراجع الاقتصاد الإيرانى الذى يرزح تحت التضخم المفرط والركود الحاد، وهو ما لم يمنعها، كما يقول هيرلي، من «ضخ أموال ضخمة إلى وكلائها الإرهابيين»، فى إشارة إلى حزب الله وجماعات أخرى تدور فى فلكها. الملف اللبنانى بدا فى صميم هذه الحملة الجديدة فبعد أيام فقط من المقابلة، وصل وفد أمريكى رفيع إلى بيروت، برئاسة نائب مساعد الرئيس الأمريكى لشئون مكافحة الإرهاب سيباستيان جوركا، وضم هيرلى نفسه، لحث السلطات اللبنانية على اتخاذ «إجراءات حقيقية قبل نهاية العام»، وفق ما نقلت قناة فرانس24 فى تقريرها الصادر فى 11 نوفمبر 2025. وأوضح هيرلي، فى لقاء مع ثلاث وسائل إعلام لبنانية داخل مقر السفارة الأمريكية، أن واشنطن «جادة للغاية فى قطع قنوات تمويل الحزب من داعمته طهران»، وأنها أوصلت رسالة واضحة إلى كبار المسئولين اللبنانيين، بمن فيهم الرئيس جوزاف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، حول ضرورة «إنهاء النفوذ الإيرانى عبر حزب الله». وبحسب فرانس24، شدد الوفد الأمريكى على إغلاق مؤسسة «القرض الحسن»، الذراع المالية غير الرسمية لحزب الله، والمشمولة بالعقوبات الأمريكية، معتبراً أنها تمثل «كياناً مثيراً للقلق» يتيح للحزب الالتفاف على النظام المصرفى اللبنانى والعقوبات الدولية. وطالب هيرلى السلطات اللبنانية ب«أفعال ملموسة تشمل مكافحة الاقتصاد القائم على النقد ووقف تهريب الأموال والذهب عبر المطار والمعابر الحدودية»، مؤكداً أن هناك تقدماً جزئياً تحقق فى هذا المجال، لكنه غير كافٍ بعد لإقناع واشنطن بجدية بيروت فى كبح نفوذ الحزب المالي. ويكشف التقرير الأمريكى أن جزءًا كبيرًا من الأموال الإيرانية التى تصل إلى حزب الله يتم نقلها نقدًا أو على شكل ذهب، إضافة إلى استخدام العملات المشفرة، وهى قنوات يصعب رصدها أو ضبطها بالكامل. كما أشار هيرلى إلى أن الوفد أجرى مباحثات فى الإماراتوتركيا قبل وصوله إلى بيروت، تناولت كيفية وضع استراتيجيات مشتركة لوقف تدفقات مالية مصدرها الحرس الثورى الإيرانى وتنتهى لدى حزب الله وقد أكد أن هناك تدفقات ضخمة خرجت من هذين البلدين باتجاه لبنان فى الأشهر الماضية، فى إطار ما وصفه ب»شبكة مالية متشعبة تعمل تحت غطاء التجارة والتحويلات الشرعية». هذا الضغط المالى المتصاعد يأتى فى وقت حساس بالنسبة للحزب، الذى خرج منهكاً من الحرب الأخيرة مع إسرائيل (2023-2024)، والتى أضعفت قدراته العسكرية واللوجستية بشكل كبير. ورغم أن الحزب يحاول، وفق تقديرات إسرائيلية نقلتها رويترز، إعادة بناء منظومته العسكرية فى الجنوباللبناني، فإن الضربات الجوية الإسرائيلية لا تزال تستهدف مخازن أسلحته ومراكزه بشكل شبه يومي، وسط التزام رسمى لبنانى بنزع سلاح جميع الجماعات غير التابعة للدولة، بما فيها حزب الله الذى أسسه الحرس الثورى الإيرانى عام 1982. ويبدو أن واشنطن تراهن على تآكل البنية المالية للحزب كمدخل لإضعافه سياسياً وعسكرياً. فمع تقلص الدعم النقدى الإيرانى وتراجع شبكات التمويل البديلة فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية بفعل العقوبات، يجد الحزب نفسه أمام أزمة تمويل خانقة تهدد قدرته على دفع رواتب مقاتليه وتمويل مؤسساته الاجتماعية التى شكلت على مدى عقود ركيزة حضوره الشعبى فى البيئة الشيعية اللبنانية. وبحسب تقديرات دبلوماسية نقلتها الشرق الأوسط، فإن الحزب خسر خلال العامين الماضيين أكثر من نصف مصادره التمويلية، فيما ارتفعت كلفة العمليات العسكرية والسياسية التى يخوضها، سواء فى لبنان أو على جبهات سوريا واليمن والعراق. لكن على الرغم من هذه الضغوط، لا تبدو إيران فى وارد التخلى عن حزب الله أو خفض دعمها له فبالنسبة لطهران، يمثل الحزب أحد أعمدة «محور المقاومة» وأداة ردع استراتيجية فى مواجهة إسرائيل والولاياتالمتحدة غير أن هذا الإصرار الإيرانى يأتى بثمن باهظ داخلياً، إذ يفاقم من استنزاف العملة الأجنبية ويزيد من عزلة النظام الذى يواجه اضطرابات اقتصادية واجتماعية متصاعدة. وفى لبنان، تتقاطع الأزمة المالية للحزب مع حالة الانهيار الاقتصادى العامة، ما يجعل البيئة المحلية أقل قدرة على تحمّل أعباء تمويل أو تغطية نفوذ حزب الله. فمع شحّ الدولار وتراجع التحويلات الخارجية، أصبحت أى تدفقات مالية غير شرعية هدفاً مباشراً للمراقبة والضغط الدولي. وفى هذا السياق، ترى مصادر دبلوماسية غربية، نقلت عنها فرانس24، أن «الأشهر المقبلة ستكون حاسمة»، إذ تتطلع واشنطن إلى تحقيق «تقدّم ملموس» قبل الانتخابات النيابية المقررة العام المقبل، على أمل أن يترجم ذلك فى تراجع نفوذ الحزب فى البرلمان والحكومة. وفى المقابل، يحاول حزب الله التقليل من أهمية التحركات الأمريكية، مؤكداً عبر قنواته الإعلامية أن «المال الإيرانى لم يتوقف يوماً»، وأن محاولات «تجفيف المنابع» لن تنجح فى كسر ما يسميه «معادلة الردع» مع إسرائيل غير أن المعطيات الاقتصادية على الأرض توحى بعكس ذلك؛ فالتقارير تشير إلى تأخر فى دفع رواتب المقاتلين وتراجع واضح فى أنشطة المؤسسات الخيرية والاجتماعية التابعة له، فضلاً عن تقليص ميزانيات الدعم اللوجستى داخل سوريا. وبينما تكثف واشنطن ضغوطها على بيروت لإغلاق القنوات المالية المتبقية أمام الحزب، تواصل إسرائيل عملياتها العسكرية فى الجنوباللبناني، مبررة إياها بأنها تستهدف «محاولات الحزب إعادة بناء قدراته العسكرية». وأعلن الجيش الإسرائيلى الأسبوع الماضي، وفق فرانس24، أنه قتل 15 عنصراً من الحزب فى غارات استهدفت مواقع ومخازن أسلحة جنوبلبنان وشرقه. بهذا المشهد المتشابك، يبدو أن المعركة المقبلة لن تكون ميدانية بقدر ما هى مالية. فإضعاف الحزب من خلال خنق موارده أصبح هدفاً معلناً للولايات المتحدة، فى حين تراهن إيران على قدرتها على الصمود المالي، ولو جزئياً، للحفاظ على نفوذها الإقليمي لكن المؤكد أن الكشف عن تحويل مليار دولار لحزب الله فى عام واحد، رغم العقوبات والركود والتضخم فى إيران، سيزيد من تشدد واشنطن وحلفائها، وسيجعل الحزب فى قلب مواجهة اقتصادية ضارية تهدد بتقويض ركائزه الأيديولوجية والسياسية فى لبنان.