أحيانا يصادفك مريض نفسي يلبس ملابس ممزقة، رثة.. يمسك صفارة، أو عصا وينظم المرور في الشارع. تجده يتحرك بنشاط وحيوية ويصرخ في المارة: 'عدي يا أستاذ'، 'اطلع ع الرصيف يا بيه'، ويعنف السائقين: 'خُش يا تاكس'، 'اتحرك يا هيئة'.. عندما تنظر إليه، تجد ملامحه جادة، نظراته حادة، فهو مقتنع تمامًا بأنه يقدم خدمة عظيمة لمصر، وعندما تلتزم بتعليماته في المرور أو الوقوف تجده يبتسم ابتسامة رضا، فأخيرًا وجد من يؤمن بدوره!!. أسباب عديدة تصل بالشخص إلي هذه الحالة المَرَضية المعقدة، لكن من بينها في تقديري شعوره المبالغ فيه بأنه يمتلك قدرات وإمكانيات عظيمة، لا تتناسب مع وضعه الاجتماعي أو المادي.. فهو يري في نفسه ما لا يراه الآخرون حتي أقرب الناس إليه. وكثيرًا ما نتعرض نحن الصحفيين بحكم عملنا إلي مفارقات ومواقف عديدة مع أمثال هؤلاء ممن يعانون هذه الحالة المَرَضية بدرجات متفاوتة، فقد تجد من يستوقفك في إحدي الندوات أو بعد مؤتمر من المؤتمرات أو يزورك في مكتبك، ويقدم نفسه لك قائلا: فلان الفلاني كاتب وشاعر وقاص وروائي وأديب وفنان تشكيلي.. أو مُفكر ومُخترع.. أو ناشط حقوقي وباحث سياسي ومناضل وبعد ثورة 25 يناير هناك من يضيف إلي سيرته الذاتية المرشح المحتمل للرئاسة ثم يقدم لك أفكارًا من عينة: 'إغلاق المدارس والجامعات وتعليم العيال صنعة تنفعهم'. أمثال هؤلاء يعتقدون في البداية أنهم يفهمون في كل شيء، ويمتلكون حلولا لكافة المشكلات، ويومًا بعد الآخر تتطور المسألة، وتتحول إلي مرض نفسي، ومع الوقت تتفاقم الحالة حتي يعتقد المريض في مرحلة متقدمة أنه عبقري زمانه، وأهم واحد في الكون.. ونتيجة تجاهل الناس وعدم تقديرهم أو اعترافهم بهذه 'الإمكانات الجبارة والقدرات العقلية العظيمة!' تتعقد الأمور وتصل في النهاية إلي المشهد الذي بدأت به.. تنظيم المرور في الشارع. ومن يتابع تصريحات ولقاءات وحوارات وتدوينات د.محمد الجوادي يدرك أنه قاب قوسين أو أدني من 'الصفارة والعصا وتنظيم المرور'، ولكن في شوارع الدوحة.. خصوصًا بعد ما أعلن مؤخرًا عن تشكيل حكومة في المنفي تحت رئاسته!!. ومحمد الجوادي لمن لا يعرفه طبيب بشري له بعض الاجتهادات السياسية والمقالات، وله العديد من الكتب، لمع نجمه بعد ثورة 25 يناير وأصبح ضيفًا علي الفضائيات، خاصة أنه يعتقد أنه يفهم في كل شيء، وهو ما يجعله يتكلم بثقة شديدة، بما يوحي لمن يستمع إليه أنه عالم ببواطن الأمور.. لكنه شأن كثيرين هذه الأيام، يتحدث كثيرًا ولا يقول شيئًا، ويكتب كثيرًا ولا يقدم شيئًا.. ويكفيك أن تستمع إليه مرة واحدة لتكتشف حالته. أول مرة استمعت فيها إلي الجوادي، كان ضيفًا علي الإعلامية مني الشاذلي وبرنامجها 'جملة مفيدة'، وراح يتحدث عن حكمة وذكاء ودهاء محمد مرسي وحنكته السياسية، ففوجئت به يقول: الرئيس محمد مرسي يتمتع بدهاء لم يتمتع به رؤساء مصر الأربعة الذين سبقوه.. واستشهد علي ذلك بقوله: مرسي في الإعلان الدستوري المكمل أعطي اللجنة المكلفة بصياغة الدستور مهلة شهرين إضافيين ليوحي للناس أنها مستمرة في عملها، في حين أنها أنجزت عملها في الستة شهور المقررة ولم تحتج إلي وقت إضافي!!!. كلام فارغ أشبه بالنكتة الشهيرة: 'واحد بيسأل البقال عندك زيتون، فقاله ما عنديش.. وهو عنده جوه'.. لكنه مفيد جدًا، يجعلك تضحك من قلبك وتنسي الدنيا وهمومها. وبعد ثورة 30 يونية وهجرة الجوادي إلي قطر، لمع نجمه أكثر فأكثر، وأصبح ضيفًا دائمًا، وربما بشكل يومي علي الجزيرة، ووجدتني من وقت لآخر أبحث عن 'الجزيرة مباشر مصر' لعلني أجد الجوادي يتحدث، فمع دوامة العمل وضغوط الحياة يجد الإنسان نفسه في حاجة للجلوس أمام التليفزيون لمشاهدة مسرحية أو فيلم كوميدي أو الاستماع إلي تحليلات الجوادي ومن هم علي شاكلته.. فالمواطن الغلبان اللي زي حالاتي متعته الوحيدة في الفرجة علي البرامج الكوميدية. لكن مؤخرًا بدأت حالة الجوادي تزداد سوءًا، وبدت عليه أعراض المرض النفسي أكثر وضوحًا.. وبدأ خياله يصوِّر له أشياء غريبة، فقد فوجئت به يقول أثناء ندوة حوارية بثتها قناة 'الجزيرة' الأسبوع الماضي: الإجرام العسكري المصري كان السبب في موت عبد الناصر، وراح يهذي قائلا: 'أنا هحكي لكم قصة لم يذكرها أحد من قبل!!.. عبد الناصر كان يحقد علي الفلسطينيين وحرَّض الملك حسين ملك الأردن علي التخلص منهم وقتلهم، وهو ما حدث في مذبحة أيلول الأسود.. وأثناء انعقاد مؤتمر القمة العربية سنة 1970 أذاع الملك حسين تسجيلا بصوت عبد الناصر وهو يطلب منه قتل الفلسطينيين'. يا سلام.. الملك حسين أذاع التسجيل وفضح مؤامرة عبد الناصر، وفضح نفسه أيضًا فهو من نفذ المؤامرة وكل ذلك جري أمام المشاركين في القمة، وهم الرؤساء العرب والوزراء والسفراء بالجامعة العربية، ورغم ذلك لم يعرف أحد هذا السر 'العظيم!' منذ ذلك التاريخ، حتي كشفه الجوادي في 'ندوة الجزيرة' منذ أيام!!. ومضي الجوادي في هذيانه: 'عبد الناصر حاول الانتقام من الملك حسين فوضع له السم في فنجان القهوة.. لكن يشاء السميع العليم أن يشرب جمال عبد الناصر القهوة عن طريق الخطأ ليموت'. المسألة لم تتوقف عند تخيل أشياء غريبة، فقد نشرت الصحف منذ أيام أخبارًا عن تشكيل الجوادي لحكومة مصر في المنفي، وراح يعلن هنا وهناك وعلي صفحاته علي مواقع التواصل الاجتماعي عن الحكومة الجديدة التي تتكون من 25 عضوًا من برلمان الثورة يقصد مجلس شعب الإخوان المنحل وقال إنه سيتم تشكيلها بالتنسيق مع محمد مرسي، وسيكون مقرها باريس.. ومهمتها التجهيز لتسلم مصر بعد خروج الانقلابيين. وقد رشح الجوادي لحكومته حاتم عزام، وإيهاب شيحة، وأسامة رشدي، والشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، وأبو العلا ماضي، وعصام سلطان، وسعد الكتاتني، وباسم عودة، ومحمد البلتاجي. ورغم أن مصدرًا دبلوماسيًا فرنسيًا أكد أن بلاده لا تدعم الحكومات التي يتم تشكيلها في المنفي.. وقال إن فرنسا تنتظر إجراء الانتخابات في مصر وفقًا لخارطة الطريق التي يتم تطبيقها حاليًا.. ورغم إعلان جماعة الإخوان علي لسان د.محمد علي بشر أنهم لا يعرفون أي شيء عن هذه الحكومة ولا يسعون إلي تشكيل حكومة في المنفي، إلا أن الجوادي لا يمل من الحديث عن حكومته الجديدة.. بل ومستمر في تشكيلها. وأنا أقترح عليه إذا تخلي عنه الإخوان أو صدَّروه في المشهد وباعوه، وإذا رفضت فرنسا استضافة الحكومة أن يتخذ من الدوحة مقرًا لها أو أن يقوم بتشكيلها علي قناة 'الجزيرة أطفال'، ويا حبذا لو اختار أسماء مشهورة تحظي بالقبول، أمثال: يوليوس قيصر وقيس بن الملوح وعنترة بن شداد، ولِمَ لا يضم لحكومته رموزًا سياسية معروفة بدمويتها ويختار نيرون، وهتلر وموسوليني، ليبث الرعب في قلوب الانقلابيين!!. بالمناسبة.. وأنا أتابع أخبار 'حكومة الجوادي' الجديدة علي صفحته الشخصية علي 'الفيس بوك' وجدته يصف نفسه ب'المؤرخ والأديب والمفكر.. أبوالتاريخ'.. ووجدت تدوينات وتصريحات تؤكد أنه في طريقه إلي 'العصا والصفارة وتنظيم المرور في شوارع الدوحة' وربما يرتدي قريبًا 'قميص الأكتاف'.. عمومًا لا أملك إلا أن أقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلي به غيري. النور.. والدستور نشرت العديد من الصحف خبرًا عن اجتماع سري بين قيادات سلفية ووفد بريطاني يضم 12 عضوًا برئاسة نائب السفير الإنجليزي بالقاهرة، وقال الخبر إن اللقاء الذي استمر 3 ساعات عُقد في 'كازينو' بطنطا. وأشار الخبر أيضًا إلي أن أعضاء الوفد البريطاني زاروا قيادات من حزب الدستور بالغربية، واجتمعوا بهم لأكثر من ساعتين. وأضاف الخبر أن قيادات من حزب النور هم من قاموا بحجز غرف إقامة الوفد في أحد الفنادق الخاصة بطنطا. بينما قال اللواء أسعد زكير، مدير المباحث الجنائية بالغربية، إنه لم يتم إبلاغ مديرية أمن الغربية بهذه الزيارة، مما يعني سريتها. المثير أن حزبَيْ النور والدستور لم ينفيا الخبر، ولم يعلنا عن تفاصيل وأسباب اللقاء.. السؤال: إذا كان حزب الدستور الذي أسسه د.محمد البرادعي لا يري مشكلة في أن يلتقي بوفد إنجليزي في طنطا بعيدًا عن الأعين، وفي إطار السرية، فهل يري حزب النور ذلك أيضًا؟!!. في الماضي كان من يقوم بمثل هذه اللقاءات بعيدًا عن أعين الدولة يُتهم باتهامات غير لطيفة ولن أقول يُتهم بالخيانة فهل تغير الأمر الآن؟!!. سؤال أخير.. هل النص الدستوري المعروف بالمادة 219 الذي يصر حزب النور علي تضمينه في الدستور الجديد، يسمح لهم بمثل هذه اللقاءات؟!!.