عضو "قيم البرلمان": الحوار الوطني فكرة ناجحة .. وتفعيل توصياته انتصار للديمقراطية    رئيس جامعة الأقصر يشارك باجتماع المجلس الأعلى للجامعات بالجامعة المصرية اليابانية للعلوم    متظاهرون إسرائيليون يغلقون شارع «أيالون» ويشعلون النار وسط الطريق    وزير الرياضة يهنئ الخماسي الحديث بالنتائج المتميزة بكأس العالم    اليوم عيد.. وزير الرياضة يشهد قرعة نهائيات دوري توتال انرجيز النسخة العاشرة    ضبط دقيق مهرب وسلع غير صالحة وسجائر مجهولة فى حملة تموينية بالإسكندرية    في ثالث أيام مهرجان الإسكندرية.. تفاعل كبير مع «شدة ممتدة» و «النداء الأخير»    التمساح سابقا.. مدينة الإسماعيلية تحتفل ب162 عاما على وضع حجر أساس إنشائها    لميس الحديدي: رئيسة جامعة كولومبيا المصرية تواجه مصيرا صعبا    قطارات السكة الحديد تغطي سيناء من القنطرة إلى بئر العبد.. خريطة المحطات    شرايين الحياة إلى سيناء    محافظ القاهرة: استمرار حملات إزالة التعديات والإشغالات بأحياء العاصمة    "مستحملش كلام أبوه".. تفاصيل سقوط شاب من أعلى منزل بالطالبية    مصر تواصل الجسر الجوى لإسقاط المساعدات على شمال غزة    تعليق ناري من أحمد موسى على مشاهد اعتقالات الطلاب في أمريكا    رامي جمال يحتفل بتصدر أغنية «بيكلموني» التريند في 3 دول عربية    عزيز الشافعي عن «أنا غلطان»: قصتها مبنية على تجربتي الشخصية (فيديو)    جامعة كفر الشيخ تنظم احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة    أمين صندوق «الأطباء» يعلن تفاصيل جهود تطوير أندية النقابة (تفاصيل)    افتتاح المدينة الطبية بجامعة عين شمس 2025    ما هي مواعيد غلق المحال والكافيهات بعد تطبيق التوقيت الصيفي؟    سمير فرج: مصر خاضت 4 معارك لتحرير سيناء.. آخرها من عامين    سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    «الحياة اليوم» يرصد حفل «حياة كريمة» لدعم الأسر الأولى بالرعاية في الغربية    حبست زوجها وقدّمت تنازلات للفن وتصدرت التريند.. ما لا تعرفة عن ميار الببلاوي    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    80 شاحنة من المساعدات الإنسانية تعبر من رفح إلى فلسطين (فيديو)    غدا.. إعادة إجراءات محاكمة متهم في قضية "رشوة آثار إمبابة"    أمل السيد.. حكاية مؤسِّسة أول مبادرة نسائية لتمكين المرأة البدوية في مطروح    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    طاقة نارية.. خبيرة أبراج تحذر أصحاب برج الأسد من هذا القرار    أنس جابر تواصل تألقها وتتأهل لثمن نهائي بطولة مدريد للتنس    بالصور.. مجموعة لأبرز السيارات النادرة بمئوية نادى السيارات والرحلات المصري    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    عاجل.. وزير الخارجية الأميركي يتوجه إلى السعودية والأردن وإسرائيل مطلع الأسبوع    بطولة إفريقيا للكرة الطائرة| الأنابيب الكيني يفوز على مايو كاني الكاميروني    ليفربول يُعوّض فينورد الهولندي 11 مليون يورو بعد اتفاقه مع المدرب الجديد    النيابة تطلب تحريات إصابة سيدة إثر احتراق مسكنها في الإسكندرية    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    بلينكن في الصين.. ملفات شائكة تعكر صفو العلاقات بين واشنطن وبكين    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    ضبط عاطل يُنقب عن الآثار في الزيتون    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خالد بيبو: لست ناظر مدرسة «غرفة ملابس الأهلي محكومة لوحدها»    عمرو صبحي يكتب: نصائح لتفادي خوف المطبات الجوية اثناء السفر    أستاذ «اقتصاديات الصحة»: مصر خالية من شلل الأطفال بفضل حملات التطعيمات المستمرة    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عرابي باشا‏..‏ مائة عام من الرحيل
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 09 - 2011

انتقل إلي رحمة الرحمن‏,‏الواحد‏,‏العادل‏,‏القاهر‏,‏المحيي‏,‏المميت‏,‏الديان‏,‏أحمد عرابي الشهير الذي قلب بثورته وجه المسألة الشرقية وغير توازن القوات الاوروبية وجر علي مصر الاحتلال وعلي السودان الشركة الانجليزية . وجعل شرقي أفريقيا ووسطها نهبا بين الدول والامم بعد أن كان خالصا لمصر وينظر اليه إسماعيل العظيم نظر الملك الجبار الي أكبر مستقبل يركز وأعظم ملك يؤسس من مصب النيل وحافة العريش وأطراف برقة وسواحل الصومال الي خط الاستواء,بل الي سواحل الباسفيك,فأضاعت ثورة عرابي هذا الملك المترامي الاطراف وهدمت أوروبا هذه السلطنة الافريقية التي لو تم بنيانها علي ما أسس محمد علي وعلي ما بني أسماعيل لفاقت مصر اليابان وكانت سلطنتها العربية الافريقية أكبر سلطنة في هذا الزمان,ولكنه لم يقدر لاسماعيل أن يتم بناء جده ولم يقدر لخلفه توفيق أن يحتفظ بالجزء الاصغر من أرث أبيه ولم يقدر للمصريين أن يطفأوا جذوة العرابيين بل زادوها ضراما وجعلوا استقلالهم الخاص فوق استقلال ملكهم البعيد أكلا لها, وذهب العرابيون وذهب اليوم عرابي تاركين لامتهم الحسرة والغصة ولجميع الامم أيضا العظة والعبرة
بهذه اللغة العدائية والكلمات الصادمة أطلت صحيفة الاهرام علي قرائها يوم الخميس الموافق21 سبتمبر عام1911 أي منذ مائة عام كاملة لتنقل للشعب المصري نبأ وفاة الزعيم أحمد عرابي باشا صاحب أول وأكبر محاولة ثورية لاستعادة مصر للشعب المصري وأقامة حياة سياسية وبرلمانية سليمة,لم تقدم الأهرام التعازي أو المواساة للشعب المصري في رحيل عرابي بل صبت عليه اللعنات وحملته مسئولية ما حل بالبلاد والعباد من احتلال وتدهور الي حد التخلف عن اليابان التي سبقتنا في الحداثة برغم بدايتنا معها أو بدايتها معنا, والطريف في الامر أننا مازلنا حتي يومنا هذا وبعد مرور100 عام نسوق هذا المثال والنموذج للتدليل علي تخلفنا برغم تقدم أمم أخري كانت تمر بنفس ظروفنا!
كانت مصر تتأهب لاستقبال عيد الفطر المبارك عندما انتقل عرابي باشا زعيم الثورة العرابية في نهايات القرن التاسع عشر الي رحمة الله,وكانت أخباره تقريبا قد أختفت من الصحافة المصرية منذ عودته من منفاه في سيلان(سريلانكا حاليا)آواخر سبتمبر عام1901 وكأن سبتمبر قد أصبح شهر الثورة العرابية بأمتياز, ففيه وتحديدا يوم التاسع من سبتمبر عام1882 وقعت أهم فصول الثورة العرابية متمثلة في المواجهة الشهيرة بميدان عابدين بين عرابي باشا والخديوي محمد توفيق حاكم مصر آنذاك,وفيه أيضا عاد عرابي من سيلان عام1901 بعد19 عاما قضاها منفيا بقرار من الخديوي,وفي الشهر ذاته رحل عرابي عام1911, وكأن القدر بذلك قد رسم رحلة معاناته الكبري في ثلاثة محاور أو فصول أساسية, الاولي ما بين الثورة والمنفي,والثاني ما بين العودة والعزلة,والثالث ما بين الموت والانصاف غيابيا, والحقيقة أن كل فصل من تلك الفصول مفعم بالتفاصيل والتطورات التي أزيح عنها الستار وكشفت عنها السرية عبر السنوات الماضية,واليوم وبمناسبة مرور مائة عام علي رحيل الزعيم عرابي لا غضاضة في أنعاش ذاكرة الامة بألقاء مزيد من الضوء علي تلك الرحلة الدرامية المثيرة خاصة في ظل تلك الحالة الثورية التي تعيشها مصر حاليا وتكشف بوضوح كيف أن الحالة الثورية التي بدأها عرابي كانت هي ذاتها الباعث لثورات أخري متعاقبة بشهادة حتي أولئك الذين وقفوا مناهضين للثورة العرابية ومن بينهم صحيفة الاهرام التي أختارت منذ بداية الثورة وحتي يوم رحيل عرابي خطا مواليا للسلطة الحاكمة ضد الثورة وزعيمها.
وليس أدل علي ذلك من المقال الذي نشرته يوم رحيل عرابي تحت عنوان مات عرابي ونشرت مقدمته في بداية هذا الموضوع, وهو أستمرار لنهج أختارته الاهرام لنفسها منذ تفجر أحداث الثورة عام1882 حيث أعتبرت عرابي باشا ورفاقه ومؤيديه من العصاة الخارجين علي الشرعية وحملتهم مسئولية ما حل بالبلاد من خراب,وفي المقال ذاته تطرقت الصحيفة الي السيرة الذاتية لزعيم الثورة العرابية بمعلومات تبدو صحيحة ولكنها موجهة تحريريا بحيث تنتهي بأدانة الرجل,قالت: ولد أحمد عرابي في قرية هرية رزنة من أعمال مديرية الشرقية من أبوين عربيين كان قد أقطعهما محمد علي باشا ستة أفدنة فيها ولا تعرف سنة مولده ولكنه كان يقدر أنها حوالي1248 هجرية(1841 ميلادية) وتلقي القراءة والكتابة علي المعلم ميخائيل غطاس صراف تلك الجهة مدة خمس سنين ثم دخل المدرسة العسكرية وبعد سنتين طرد منها لسوء سلوكه فدخل الازهر فمكث فيه أربع سنين, وكان والي مصر سعيد باشا يبحث عن أبناء الفلاحين ليعلمهم ويوليهم الوظائف والمناصب فدخل عرابي العسكرية ثانية ولذلافة لسانه ولفصاحته ترقي سريعا وفي خلال خمس سنين وصل الي رتبة بكباشي علي أول عهد أسماعيل باشا ولكنه اختلف مع رئيسه خسرو باشا فحكم عليه بالتوقيف8 أيام فلم يمتثل لأن الضباط الوطنيين كانوا قد تشبعوا بالكره للجراكسة والترك بحجة أنه ما كان واحد منهم يرقي الي أكثر من أميرالاي فأنضم عرابي الي جمعية سرية ألفها علي الروبي لمعاكسة الجراكسة ولما أرسل اسماعيل باشا الحملة الي الحبشة عين عرابي مديرا للنقل في مصوع فنقص المال الذي كان بعهدته400 جنيه فعد الضباط المصريون اتهامه وشاية من الجركس فعزله اسماعيل باشا من الجيش فأنصرف الي خدمة الجمعية السرية بين العساكر وفي الازهر فخشي علي مبارك العاقبة فأشار علي أسماعيل باشا بأن يستميل عرابي ورفاقه باللين ففعل ورقي70 ضابطا منهم عرابي الي رتبة قائمقام, ولما تولي توفيق باشا( ولاية مصر) أنعم عليه برتبة اميرالاي وبعد قليل أختصم مع ناظر الجهادية عثمان رفقي باشا علي قانون القرعة بحجة أنه يحول دون تقدم الوطنيين وأخذ مع علي فهمي وعبد العال حلمي بالسعي ضد الجركس والترك حتي أستمالوا اليهم الجيش ولما وثقوا من ذلك قدموا عريضتهم المشهورة الي رياض باشا رئيس النظار, فطردهم
وتلك كانت الارهاصات الحقيقية للثورة العرابية, فوسط مواجهات متوالية بين السلطة والعرابيين نجحوا في فرض الشاعر الكبير محمود سامي البارودي ناظرا للجهادية( الحربية) وعلي حد وصف الاهرام في المقال ذاته كان ذلك فاتحة كل الشرورزاد هياج العرابيين وأعدوا العرائض يطلبون فيها الاصلاح وقدموها للخديوي وهو مع القناصل في عابدين فوعد بالنظر فيها ثم زار ثكنات العساكر ولما وصل الي ثكنة عرابي بالعباسية لم يجده فيها وعاد الي عابدين فاذا بعرابي صاف الجيش في الساحة وهو مستل سيفه يهدد السراي فأطل عليه الخديو وطلب منه أن يتقدم فوصل الي باب السراي علي جواده وسيفه مسلول والضباط محيطون به فأمره الخديوي بأغماد سيفه ففعل ونزل عن جواده فسأله الخديوي لماذا تفعل ذلك فأجابه لانال خمسة أمور الاول أسقاط الوزارة والثاني تأليف مجلس نواب والثالث زيادة عدد الجيش والرابع انفاذ قانون العسكرية الجديد والخامس عزل شيخ الازهر,فطلب القناصل من الخديوي أن يعود الي قصره وقال قنصل الانجليز لعرابي بأن أسقاط الوزارة من خصائص الخديوي وزيادة الجيش لاتسمح به الميزانية وعزل شيخ الازهر لايمكن أن يكون بلا سبب وأنفاذ قانون العسكرية ينظر فيه مجلس النظار وتأليف مجلس النواب من خصائص الامة لا الجيش فرد عرابي أنه يطلب ذلك كله بالنيابة عن الامة وهذا الجيش أولادها وأنه لايبرح مكانه حتي ينال مطالبه فقال القنصل ماذا تفعل اذا لم تجب مطالبك فقال عندي مليون شاب وليس لأحد أن يتداخل بشئوننا الداخلية فعاد القنصل وتقرر بعد ثلاث ساعات من التباحث اجابة المطالب تدريجيا
ولكن المواجهات بين الطرفين تطورت بسرعة وبلغت حد الصدام مع فرض تعيين محمود سامي البارودي رئيسا للوزراء وعرابي وزيرا للحربية, ومع تزايد المواجهة بين العرابيين والخديوي أرسلت بريطانيا وفرنسا أسطوليهما الي مياه الاسكندرية حماية للخديوي وبينما أصبح مطلبهما الاساسي عزل عرابي ورفاقه بدأ عرابي يعمل علي خلع الخديوي توفيق باشا وتولية حليم باشا وغرقت البلاد في أزمة سياسية وأمنية عميقة, وفي11 يونيو1882 اختصم حمار ومالطي في الشارع الابراهيمي بالاسكندرية( المشاجرة الشهيرة بين سيد العجان عربجي الحنطور ومواطن من مالطالخلافهما علي الاجرة) فنجمت عن ذلك فتنة شديدة عقبتها مذبحة وتمارض قومندان الضابطة السيد قنديل وطلب المحافظ عمر باشا لطفي من اميرالاي الجند سليمان داود ليرسل العساكر لاخماد الفتنه فاجاب انه لايفعل الا اذا تلقي امرا من عرابي,وبلغ عدد الجثث التي ألتقطت من شوارع الاسكندرية600 جثة وهاجر في ذلك الاسبوع نحو200 ألف
ووصلت الازمة الي ذروتها وكان واضحا أن الانجليز قد بيتوا النية علي غزو مصربغض النظر عن أية ظروف أو ملابسات قائمة فصعدوا ضغوطهم عالميا بزعم حماية الاجانب والسلطة الشرعية في البلاد ودكت أساطيل الجنرال سيمور الاسكندرية وأتجه الي القاهرة بعد معارك كبري في كفر الدوار والقصاصين والتل الكبير وبعد سلسلة من الخيانات من دلسيبس المتحكم وقتها في قناة السويس والاعراب تعرض الجيش المصري للهزيمة ودخل الانجليز مصر في14 سبتمبر1882 وحوكم عرابي ورفاقه بتهمة كبري وهي العصيان وصدر حكم باعدامهم ثم خفف الخديوي الحكم الي النفي خارج البلاد, ولكن يلاحظ من سرد مقال الاهرام لسيرة عرابي الذاتية في يوم وفاته أنه لم يتحدث مطلقا عن تلك الملاسنة النارية التي جرت بين عرابي والخديوي الذي قالما أنتم الا عبيد أحساناتنا فرد عرابي بقوله الشهير الذي توارثناه نحن أبا عن جد:لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا وأننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليومهذا الحوار لم تسجله الاهرام في حديثها عن عرابي يوم وقوع المواجهة في سبتمبر الاول ويوم عودته للوطن من المنفي في سبتمير الثاني ولايوم الرحيل في سبتمبر الثالث,والواقع أن هناك دراسات أكاديمية وبحثية عديدة أكدت عدم حدوث هذا الحوار من أساسه وأن رواية الاهرام هي الصحيحة خاصة وأن عرابي وحده هو الذي أنفرد بنشر هذا الحوار في مذكراته الذاتية التي نشرتها له دار الهلال ابان عودته من المنفي وسرد فيها كل تفاصيل حياته بما فيها وقائع الثورة وما سبقها وما لحقها وأيضا حياته في المنفي, ولكن السؤال: هل يقلل عدم حدوث هذا الحوار من مكانة عرابي وثورته علي الخديوي؟ الواقع أنه لايقلل من قيمتها علي الاطلاق,فحتي لو لم ينطق عرابي بتلك الكلمات بلسانه فأنه قالها عمليا من خلال المطالب التي رفعها للخديوي بأسم الشعب وفي المحصلة النهائية تعني أن الشعب يرفض واقعه المتردي ويطالب بحقوقه ويأبي توريثه أو أستعباده.
ماذا تبقي من العرابية؟
لم تكد تمر24 ساعة علي نشر الاهرامهذا المقال العدائي يوم وفاة عرابي حتي أتبعته بمقال آخر يؤكد أنه من الصعوبة بمكان الاعتماد علي الصحف وحدها في أي زمان أو آوان كمصدر أساسي ووحيد للتأريخ وذلك لما لطبيعة العمل الصحفي من سرعة تجعل احتمالات الخطأ فرضية كبري بما يرتبط بذلك من أهواء شخصية أو اخفاء حقائق علي حساب أخري فضلا عن التناقض الذي قد تقع في الصحف عند تحليل الموقف سواء بقصد أو عن دون قصد,وأغلب الظن أن جريدة الاهراموقعت في شئ من هذا الخلط عند تعاملها مع أحداث الثورة العرابية برغم أنه كان واضحا وضوح الشمس أنها اختارت الانحياز الي جانب سلطة الدولة في مواجهة الثورة العرابية وقادتها,ولكن لم يحل ذلك دون نشر بعض المقالات التحليلية أو التقارير الاخبارية التي تتعامل مع المشهد بصورة أكثر شمولا.وعلي سبيل المثال جاء هذا المقال الذي نشرته الصحيفة يوم الجمعة الموافق22 سبتمبر1911 تحت عنوان من هم العرابيين؟؟وفيه تتكشف حقيقة تواصل الكفاح الوطني ومشروعية المطالب الشعبية التي طرحت خلال الثورة العرابية بل يمكن القول وبدون مبالغة أنها كانت تمهيدا حقيقيا لمطالب الشعب المصري خلال ثورة.1919 ويتضح بذلك أن تاريخ الثورات هو سلسلة متصلة من المراحل, وبشئ من التفاصيل يقول المقال:مات عرابي فتساءل الذين لم يعرفوهم من هم العرابيون وهل للعرابية الآن في مصر من آثر؟ ويمضي المقال في اجابته عن هذا التساؤلفاذا عدنا الي تاريخ العرابيين نجد انهم قد ذهبوا الا قليلا واذا عدنا الي العرابيةنجد اثرها موجودا لأن طلب الدستور كان أهم مطالب العرابيين وهذا الطلب ذاته لايزال مطلب المصريين وأحزابهم والذي تغير انتقال السلطة الفعالة وانتقال القوة المنفذة من أيدي الوطنيين الي أيدي الانجليز,أفلاتري أن الانجليز لا يسلمون بالدستور ورقابة الميزانية كما كان المراقبان الماليان الفرنساوي والانجليزي- لا يسلمان بذلك لمجلس النواب ؟ألاتري أن المناصب العليا في الجيش وسواه حرمت علي المصري علي عهد الانجليز كما كانت محرمة علي الوطني المصري علي عهد الجراكسة؟ فاذا قلنا أن مطالبنا اليوم سلمية, أفلم تكن كذلك علي عهد العرابيين ؟؟ فأنهم لم يؤذوا أحدا ولم يعتدوا علي أحد ولكن الشعب الساذج تحمس وهاج فثار والجماهير لاتعقل, ومغزي ذلك كله أن أمة لا تحكم نفسها لا يمكنها أن تصبر أو تسكت أو ترضي حكم الاجنبي فيها. ويكفي أن يدعوها داع الي ذلك لتلبيه, ولا يمكن أن تحرم داعيا.
الكلمات السابقة تعكس صراحة اعترافا بشرعية مطالب الثورة العرابية وحقوق المصريين في الدستور والاستقلال وهي انصاف للعرابيين علي عكس ما نشرته جريدة الاهرام من قبل بل هناك أشارة صريحة الي سلمية الثورة وأن مطالب العرابيين هي مطالب المصريين رغم مرور كل تلك السنوات,ليس هذا فحسب ولكن الصحيفة تذهب في المقال ذاته الي أبعد من هذا بقولها:نبتت العرابية قبل عرابي أي في وقت صدور الامر العالي في18 نوفمبر عام1876 بتعيين رقيب انجليزي واخر فرنساوي علي مالية مصر ومنحا حق حضور جلسات مجلس النظار وابداء رأيهما وعدم عزلهما بغير رضا حكومتيهما فكانا الحكومة الحقيقية يتصرفان تصرفا مطلقا ويرقبان كل عمل من أعمال الحكومة, وظهور هذه السلطة حمل العلماء والاعيان علي أن يقدموا عريضة للخديوي اسماعيل بأنهم مستعدون لدفع الديون علي شرط زوال هذه السلطةالغربية
مرة أخري هذه كلمات لا تخلو من انصاف للثورة العرابية ومشروعية مطالبها ولكنه تناقض غريب تقع فيه صحيفة الاهرام,وهو ليس الاول من نوعه فقد حدث شئ مشابه قبل عشر سنوات من هذا التاريخ أي عام1901 الذي شهد عودة عرابي من منفاه ويالها من عودة صاخبة كل الصخب مثيرة أشد الاثارة.
من المنفي الي العزلة
أما عرابي فهو بدين ضليع ضخم الجثة عريض الصدر واسع الجبين ذو لحية كثيفة
بيضاء ليس في عينيه حدة أو بريق ولافي ملامح وجهه ماينبيء بالصفات التي يعرف بها رؤساء الأحزاب وذوو الغايات البعيدة ولكن في بعض لمحاته شدة وهيبة وفي وجهه شيء يعيد اليك صورة شيخ الترنسفال وهو يحسن لفظ الثاء والذال ويقول الجيم تارة بلهجة مصرية وتارة بلهجة أهل الشام, ولكنه يلثغ بالسين والصاد وهو اليوم يجتاز الواحدة والستين.( الأهرام الثلاثاء1 أكتوبر1901), السطور السابقة هي جزء من مقال نشرته الأهرام تزامنا مع عودة عرابي إلي أرض الوطن بعد رحلة نفي بدأت في أواخر عام1882 وتحديدا في سيلان, ولم تشغل الأهرام ولا الصحافة المصرية نفسها بعد نفي عرابي ورفاقه بنشر أخباره إلا في أضيق الحدود وعلي فترات متباعدة جدا, علي الرغم من أن حياته هناك هو ورفاقه ومنهم الشاعر الشهير محمود سامي البارودي كانت مأساة إنسانية وسياسية حقيقية, وهو ماكشفت عنه الوثائق البريطانية لاحقا, حيث أكلت الثورة العرابية أبناءها في الغربة وتفشت بينهم الخلافات والقطيعة إضافة إلي شظف العيش وضيق الحال علي الرغم من المكانة المتميزة التي حظي بها عرابي علي وجه الخصوص ودوره في نشر التعليم في تلك البلاد النائية.
إلا أن صدور قرار بالعفو عن عرابي ورفاقه والسماح بعودتهم إلي الديار المصرية بعد أن أكل عليهم الزمن وشرب عبر19 عاما من النفي كان مناسبة مهمة جدا بالتأكيد لم تتخلف الأهرام والصحف المصرية كافة بل والسياسيون والشعراء أيضا عن متابعتها بالخبر والرأي والتحليل وكذلك الانتقاد الحاد والهجاء الشعري الفظيع, وليست هناك مبالغة في القول إن موقف الأهرام السلبي تجاه الثورة العرابية وزعيمها لم يتغير وظل علي حاله, وتناول الأهرام آنذاك أخبار عودة عرابي إلي البلاد لم يمر دون كثير من الانتقادات وتذكير القراء بأنه كان السبب في الكوارث التي نزلت بالبلاد في أواخر القرن التاسع عشر, وهو موقف متسق مع توجهات الأهرام منذ بداية تعاملها صحفيا مع الثورة العرابية وزعيمها, وربما كان من المهم في هذه المناسبة التي نحن بصدد تذكرها أن نلقي الضوء علي كيفية تعامل الأهرام مع عودة عرابي ورفاقه من المنفي في أواخر سبتمبر من عام1901 قبل وفاة عرابي في مصر بنحو عشر سنوات وقد صاحبت هذه العودة حملات مكثفة في معظم الصحف أسرف الكثير منها في انتقاد عرابي وكيل الاتهامات له, بينما احتفي آخرون بعودته أشد الاحتفاء وكانت مناسبة وطنية سعيدة بالنسبة إليهم.
ورغم أن الأهرام كانت منتمية للفريق الأول إلا إنها نشرت مقالا مهما في الأول من اكتوبر عام1901 علي صفحتها الاولي صبيحة عودة عرابي. وتكمن أهمية هذا المقال في درجة العقلانية والتوازن التي اتسم بها ومحاولته الوقوف في دائرة المنتصف بين الذين أسرفوا في اتهام وانتقاد عرابي باشا, والآخرين الذين اسرفوا في مديحه, فقد حاول المقال تقديم رؤية تحليلية للظروف التي واكبت الثورة العرابية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا دون تحميل عرابي المسئولية المطلقة. فهل بدأت الأهرام رحلة انصاف عرابي في الاول من اكتوبر عام1901 ؟
الإجابة عن هذا السؤال ليست هينة بالقطع وتحتاج إلي كثير من الدراسة والتمحيص, ولكننا في السطور التالية نحاول إلقاء الضوء علي الظروف التي صاحبت عودة عرابي من منفاه من خلال الأهرام, وهي المناسبة التي احتاج الرجل إلي نحو نصف القرن بعدها لكي ينظر التاريخ إليه نظرة منصفة وعادلة ترفع عنه الغبن والظلم الذي تعرض له علي مدي سبعين عاما تقريبا, رغم بعض الأصوات التي ذهبت ادراج الرياح خلال تلك الفترة, وربما كان من بينها المقال الذي نشرته الأهرام وأشرنا إليه قبل قليل,
فقد اهتمت الأهرام بعودة عرابي إلي أرض الوطن في ذلك التاريخ وما ارتبط بهذا الحدث من تطورات, فنشرت في13 سبتمبر عام1901 خبرا بعنوان عرابي باشا, والواقع أن التصريحات الواردة في ذلك الخبر جرت علي عرابي الكثيرمن الانتقادات لشكره في ثناياه الحكومة البريطانية علي رعايته, وجاء في الخبر نشرت جريدة تيمس أوف سيلان محصل حديث دار بين أحد محرريها وعرابي باشا حينما كان ضيفا علي إبراهيم ديدي الرئيس السابق لوزارة جزر مالديف, وكان علي فهمي ابن عرابي يترجم له, ويتحدث الخبر عن استعدادات عرابي وعائلته للعودة بحرا الي الوطن, ولكن الجزء الأهم هو ذلك المرتبط بشكر عرابي الانجليز: ثم مال بهما الكلام الي العفو, فقال عرابي لا أدري بأي طريق نلت هذا العفو, ولكني لا أري مندوحة عن ابداء الامتنان لما لقيته من تعطف الدوق دي كرونويل حين قابلته في كاندي, وإذا كنت لم أعرب له عن شكري وامتناني بالكتابة فإني احفظ جميل الملك وحكومته في صميم الفؤاد, ثم أفصح عرابي عن رغبته في زيارة انجلترا بعد اقامته في مصر بقصد أن يرفع شكره لجلالة الملك ادوارد السابع.. وغني عن القول إن تلك التصريحات أثارت ضده زوبعة من الانتقادات داخل مصر, وانبري شوقي بك أمير الشعراء ناقدا بشدة لما فعله عرابي في كل مراحل حياته, لدرجة أنه في عام1904 يكتب قصيدة موجهة الي رياض باشا ينتقده فيها لإثنائه علي الاحتلال البريطاني فيقول:
أفي السبعين والدنيا تولت..
ولايرجي سوي حسن الختام
تكون وأنت رياض مصر..
عرابي اليوم في نظر الأنام
وكان اهتمام الأهرام بعودة عرابي إلي مصر بعد كل هذه السنوات في المنفي قد بدأ مبكرا فنشرت خبرا في صفحاتها الداخلية في24 اغسطس عام1901 بعنوان عرابي باشا تقول فيه في تيمس دي سيلان ان عرابي باشا يغادر كاندي في31 اغسطس قاصدا كولومبو حيث يصرف نحوا من اسبوعين, وفي17 سبتمبر يركب الباخرة مايتانا إلي هذه الديار.. المقصود مصر طبعا.
وفي28 اغسطس عام1901 تنشر الاهرام في سياق اهتمامها بحملة عودة عرابي خبرا بعنوان رفيق عرابي قالت فيه وصل القاهرة امس عائدا علي فهمي باشا أحد رفاق عرابي باشا فاستقبله علي المحطة بعض أقربائه ودهشوا للتغيير الذي طرأ عليه في منفاه, وعلمنا أنه اعرب عن بليغ سروره من مرأي هذا الوطن الذي تركه منذ نحو عشرين عاما, وتعود الصحيفة مرة أخري لتنشر يوم26 سبتمبر خبرا بعنوان وصول عرابي, ورد تلغراف من عرابي إلي أقاربه يخبرهم فيه انه يصل الي مدينة السويس غدا الجمعة علي الباخرة الالمانية عدن, فسافر منهم نحو ثلاثين شخصا لمقابلته ومعهم حضرة الشيخ محمد العسكري المعروف بحادثة العرابيين ومن الطريف والغريب معا أن الخبر لم ينته عند هذا ولكن الصحيفة ألحقت به فقرة أخري تقول هذا ما رواه مكاتبنا في السويس وروي ايضا أنه منذ نيف وسنة زور فرج الفار كمبيالة علي السادات محمد وعلي هاشم واخوانهما بمبلغ1100 جنيه, وقد حكم علي المزور بالحبس سنة واحدة وبإلزامه بالمصاريف, وكأن خبر عرابي يندرج ضمن اخبار الحوادث!
وتصل التغطية الأهرامية لعودة عرابي الي ذروتها يومي30 سبتمبر والأول من اكتوبر عام1901, فتفرد مساحات ليست بالقليلة بمعايير تلك الأيام لنبأ العودة مصحوبا برأي الجريدة الذي لم يكن ايجابيا بطبيعة الحال, واخباريا نشرت في صفحتها الداخلية في عدد30 سبتمبر1901 عمودا بعنوان عرابي في السويس جاء فيه قال مكاتبنا في السويس ارسلت اليكم تلغرافا عن وصول عرابي من سيلان, وماكاد الرجل يستقر في مكانه حتي ذهبت اليه لاقف منه علي مايمكن أن أنقله لقراء الأهرام, فرحب بي كثيرا فأخذت أجاذبة أطراف الحديث عن مدة اقامته في منفاه, فقال لي إني كنت مستريحا في منفاي, قلت وكيف كنت تصرف أوقاتك قال... ويسرد المكاتب أو المراسل تفاصيل حواره السريع مع عرابي باشا لدي وصوله إلي السويس وتفاصيل الوصول والمغادرة.
الا أن الأهم في ذلك اليوم هو مانشرته الاهرام في صدر صفحتها بعنوان عرابي, والواقع أن هذا الموضوع كان بمثابة افتتاحية للأهرام حمل رأيها في عودة عرابي, وهو موضوع مفعم بالانتقادات الحادة, ومن ضمن ما قالته الأهرام في تلك الافتتاحية: يحمل الينا القطار مساء اليوم عرابي وقد ابيضت لحيته وانحنت صعدته وهد منه الخذلان والانكسار والوهن والضعف والتاريخ والمنفي ركنا من الصيت والسمعة والجبروت شاده من اسم هذا الوطن مصر علي ركن الوطنية المصرية فلم يحسن تأسيسه ولم يعرف أن يوثقه لنفسه او لغيره. فزال كما يزول الظل ببسطة من النور, واندك علي رأسه كالجدار علي مؤسسه.. فلم يبق من عرابي إذن غير رجل كل مافيه الاسم وكل ما في اسمه انه ذكري لحوادث مضت, وأضحت ملك التاريخ يمحصها ويعرب جيدها من رديئها, وتمضي افتتاحية الصحيفة في انتقادها لعرابي وتحمله مسئولية احتلال مصر, ولاتنسي انتقاء تصريحاته التي أدلي بها قبل مغادرته سيلان وامتدح فيها بريطانيا وملكها إدوارد السابع وتجدد الأهرام في هذه المناسبة الأخطاء التي تري أن عرابي وقع فيها في الماضي: إن رجلا حكم عليه التاريخ بالتمرد علي سيده وسلطانه وعلي أميره ومولاه وحكم عليه وطنه بأنه علة بلائه وشقائه وحكم عليه القانون والعدالة بالإسقاط من ذروة شرفه وعزه وبالإزالة من عالم الاحياء لولا رحمة ولي أمره لجدير بأن يقابل وهو عائد من منفاه الذي يدلي به من الموت إن لم يكن بالترحيب فبالاغضاء.
وفي هذه الأثناء اشتعلت الصحف المصرية آنذاك وخاصة اللواء والمؤيد بروح عدائية ضد عرابي ووصفته بأبشع الصفات ووجهت اليه انتقادات حادة لدرجة أن جريدة اللواء نشرت في صدر صفحتها الاولي أو بمعني أدق أعادت نشر قصيدة عاد لها عرابي لأمير الشعراء أحمد شوقي, وقدمت للقصيدة بقولها: قام عرابي علي الطائر الاسود من السويس صباح الأمس ووصل إلي القاهرة في مسائه يحفيه الصغار ويلازمه الاحتقار.أما القصيدة فيقول فيها شوقي:
صغار في الذهاب وفي الاياب أهذا كل شأنك يا عرابي
عفا عنك الاباعد والاداني فمن يعفو عن الوطن المصاب
وما سألوا بنيك ولا بنينا ولا التفتوا الي القوم الغضاب
وصولا الي نهاية القصيدة
فماذا يعلم الاحياء عنا اذا ما قيل عاد لها عرابي
وكانت اللواء قد نشرت في29 سبتمبر قصيدة أخري لشوقي من مطلعها تلك الابيات:
أهلا وسهلا بحاميها وفاديها ومرحبا وسلاما يا عرابيها
وبالكرامة يامن راح يفضحها ومقدم الخير يامن جاء يخزيها
وانزل علي الطائر الميمون ساحتها واجلس علي تلها وانعق بواديها
وبض لها بيضة للنصر كاملة ان الدجاج عقيم في نواحيها
بينما يأسف حافظ ابراهيم لما وصلت اليه مصر من هذه الدرجة وللهجوم الشرس الذي شنه الزعيم مصطفي كامل ضد أحمد عرابي فيكتب يقول:
متي أري النيل لاتحلو موارده لغير مرتهب في الله مرتقب
فقد غدت مصر في حال اذا ذكر جاءت جفوني باللؤلؤ الرطب
وفي حين وقفت صحيفة المقطموحدها ترحب بعرابي وتحاول أن تكون صدرا حنونا له,في اطار الصراع الصحفي والسياسي الذي عاشته مصر في تلك الايام, تفاجئ الاهرام قراءها بمقال مطول في صفحتها الاولي بعنوانعرابي أيضا لكاتبه يوسف الخازن,وأتسم هذا المقال بأنه أقل حدة من سابقه وحاول كاتبه أن يكون متوازنا فيقول:بين كلمة العدل وكلمة الرحمة تسعةعشر عاما حالت فيها الاحوال ودارت الادوار وشهدت مصر منها ما كان كجح الغراب الاسفع ينزل سواده في طيات الصدور وأعماق القلوب وما كان أبلج أغر تخضر له أغصان الآمال وتزهر لما فيه من بشائر الهناء وطوالع السعادة الي أن أسفر الامر عما نحن عليه الآن,كل ذلك والرجل الذي كان السبب الادني والعلة الظاهرة في هذا الانقلاب بعيد عن هذه الديار مقصي الي شواطئ المحيط الهندي لا يبلغه من أخبارها الا ما ينقله صديق أو.....ان الرجل لا يستحق ما لقيه من المطاعن الاليمة ولا ما جاءه عفوا من الثناء والاطناب لانه لم يكن كما قلنا الا السبب الادني والعلة الظاهرة وفوقه أسباب أولية وجوهرية أهمها ضعف الحكومة في ذاك الوقت واحجامها عن الاصلاح الذي يقضي به العدل وحسن السياسة وسريان روح الاستياء في صدور المصريين لما لقوه من حكومتهم ثم مطامع الدول الكبري ودسائس رجالها مما أفضي الي الانتفاض والثورة فكان الرجل( عرابي) مدفوعا لا دافعا ومنقادا لا قائدا الي أن كان ما كان, فليس من العدل أن يكون ذلك كله نصيب عرابي وحده بل يجب أن يشرك في الجزاء ان مدحا وان ذما أولو الامر وأنصار الرجل من وطنيين وأجانب سواء كانوا في قيد الحياة يتربعون في المناصب العالية أو تحت الثري يؤدون الحساب بين يدي الخالق الديان
ويمضي كاتب المقال في تقديم صورة قلمية شاملة لعودة عرابي ضمنها لقاءات مع بعض المقربين منه ومع عرابي شخصيا ويستعرض الوضع القانوني لعرابي باعتباره فاقد الاهلية فيقول فتظل هذه الحال حاله الي أن ينال عفو مولاه وهو رحمة ليست علي سمو الامير بعزيزة,ولكن هذه الرحمة لم تتحقق ولم يظهر الرجل كثيرا الا في بعض المناسبات الدينية وفرض علي نفسه العزلة في منزله بمنطقة الناصرية بعدما تعرض لاهانة تركت في نفسه غصة كتلك المرارة التي تجرعها ورفاقه في سنوات المنفي.
الثورة تأكل أبناءها
في عام1983 أصدرت الدولة السريلانكية كتابا تضمن عددا هائلا من البرقيات والوثائق والمكاتبات التي تؤرخ لوجود عرابي باشا ورفاقه المنفيين من قادة الثورة العرابية,وهذا العام تحديدا تم أختياره تحت مسمي عام مصر في سريلانكا تزامنا مع مرور مائة عام علي وصول عرابي باشا ورفاقه الستة الي أرض جزيرة سيلان( سريلانكا لاحقا) في يناير1883, وما بين الوصول علي متن السفينة أس أس ماريوتيس والمغادرة علي متن السفينة الالمانية برنسيس ايرين في طريق العودة الي مصر عام1901 الكثير من التفاصيل المفعمة بالالام والمعاناة والدراما الانسانية,ففي هذه الجزيرة المحاطة بالكامل بمياه المحيط الهندي وتأخذ شكل ثمرة الكمثري دبت الخلافات والشقاقات بين رفاق الثورة وتقطعت بهم السبل وانطبقت عليهم بالفعل مقولة أن الثورة تأكل أبناءها,عاني عدد منهم من الامراض نتيجة الظروف المناخية للجزيرة التي تتسم بطقس حار مع أرتفاع الرطوبة,مما أضطر بعضهم الي مزيد من النفي الي الداخل بحثا عن مناخ أقل رطوبة فأختاروا مدينة كاندي المرتفعة علي بعد نحو150 كيلومترا من العاصمة كولومبو وهي مدينة فائقة الجمال عامرة بالمشاهد الطبيعية البيئية الخلابة, جبالها مرتفعة ومكسوة بالخضرة الداكنة نتيجة كثافة الغابات ومزارع الشاي وبها الكثير من المشاهد التراثية المرتبطة بالثقافة البوذية, وعلي أرضها مات ودفن محمود فهمي باشا ويعقوب سامي باشا,بينما مات عبد العال حلمي باشا في كولومبو عام1891 ودفن أيضا في مقابر المسلمين في كيوبويا واتا.
كانت المتاعب والصعوبات والامراض قد تكالبت عليهم اضافة الي الخلافات الشخصية والمشاكل المالية التي جعلت حياتهم سلسلة من الهموم المتعاقبة,ولكن حقيقة الامر تكشف أن سكان الجزيرة رحبوا أشد الترحيب بزعماء الثورة العرابية لدي وصولهم الي ميناء العاصمة كولومبو خاصة عرابي باشا الذي حرص وجهاء سيلان من المسلمين علي أستقباله, وقد شارك الالاف في الترحيب بهم بالميناء وحاولوا القاء نظرة عليهم خلال أستقبال الحاكم العام البريطاني للجزيرة لهم وكانوا في حقيقة الامر وفدا ضخما( حوالي ستين شخصا) وتم تخصيص منزل خاص لعرابي في قلب كولومبو أسمه ليك هاوسوتوزع الاخرون علي منازل متفرقة,وأقام عرابي علاقات ممتازة مع قادة الجالية الاسلامية هناك وساهم في احداث تنمية ثقافية وتعليمية لديهم من خلال الاهتمام بتدريس اللغتين الانجليزية والعربية وانشاء المدرسة الزاهرة ونقل عنه المسلمون بعض التفاصيل الحياتية حتي في الملبس فأنتشر الطربوش والبنطلون.اضافة الي اذكاء الروح الوطنية لدي عموم الشعب السيلاني.
ومن الحقائق التي يمكن استخلاصها من اقامة عرابي ورفاقه في المنفي أن الحكومة البريطانية تعاملت معهم وخاصة عرابي باشا كما لو كانوا متحفا مفتوحا, فما من وفد أوزائر كبير أو مسئول أجنبي تردد علي الجزيرة الا ورتبت له السلطات البريطانية لقاءات ومقابلات مع عرابي باشا, وليس من المبالغة التأكيد علي أن السلطات البريطانية كانت تسعي لتحقيق فوائد متنوعة من وراء تلك السياسة.وليس أدل علي ذلك من أن مستثمر كبير بحجم توماس ليبتون- ملك الشاي تقرب بشدة من عرابي ورفاقه ودعاهم لمدة أسبوع للاقامة في مزارع الشاي التي يمتلكها علي سبيل الضيافة والتغيير,وهناك تردد أن ملك الشاي عرض علي عرابي باشا ما يشبه الصفقة المالية للاستفادة بأسمه في ترويج منتجاته من الشاي الا أن عرابي باشا رفض الصفقة! ؟
ورغم الترحيب الشعبي الذي حظي به عرابي علي أرض سيلان الا أن المقدمات الصحفية السيلانية لم تكن علي نفس المستوي, فقد نشرت صحيفة ويكلي سيلون اوبزيرفرمقالين,الاول في26 ديسمبر1882 بعنوان مصر في سيلان والثاني في11 يناير1883 بعنوان المنفيون المصريون في سيلان واتسم المقالان بعدوانية شديدة تجاه المصريين القادمين وتصويرهم علي انهم قتلة يتحملون مسئولية مصرع مئات الاجانب في مصر علي حد زعمها ولم تتردد الصحيفة في مهاجمة الاسلام والمسلمين بقسوة,ويمكن القول أن الصحيفة كانت تجاري ما تنشره الصحافة الغربية والامريكية عن أحداث وتطورات الثورة العرابية, وبأثر رجعي قد نكتشف أن الصحافة الغربية تحدثت عن عرابي كما لو كان بن لادنالقرن التاسع عشر الذي يقود تنظيم القاعدةتحت مسمي الثورة العرابية, ولكن علي أية حال هذه الروح العدائية لم تنعكس علي سلوكيات السيلانيين تجاه عرابي ورفاقه,ولم يتردد زعيم الثورة العرابية في الطلب من بريطانيا أكثر من مرة العفو عنه للعودة الي بلاده وتحدث في ذلك أكثر من مرة مع أكثر من ضيف وزائر أجنبي,ولكن قبل صدور قرار العفو عنه والعودة للبلاد عام1901 كان قد انتقل للاقامة في مدينة كاندي وسكن بالفعل في منزل ساحر مفعم بالسكينة والهدوء الي ان رحل مصطحبا معه علي سفينة العودة الي مصرالكثير من خيرات المكان من بقرات وكميات من الثماروالاشجار الاستوائية النادرة في حوالي140 طردا,ولكل من يزور سريلانكا حتي هذا اليوم سيجد بصمات عرابي باشا منتشرة في أرجائها, فالمدرسة الزاهرة لاتزال تمارس دورها التنويري وبداخلها صورة ضخمة لعرابي باشا بأعتباره الرئيس الفخري المؤسس لها وهناك أيضا شارع عرابي باشا في أهم مناطق العاصمة كولومبو وفي أمتداده توجد المدرسة الزاهرة, والي جانب الكتاب الذي أصدرته حكومة سريلانكا ومجموعات الطوابع البريدية ومئات المقالات عن عرابي باشا ورفاقه في سيلان هناك أيضا متحف عرابي باشا في مدينة كاندي وهو منزله الذي كان يعيش فيه آواخر القرن التاسع عشر ولايزال شامخا حتي اليوم يضم الكثير من مقتنياته ومفروشاته وقبل ذلك ذكرياته ورحلة معاناة أمتدت تسعة عشر عاما ولم تتوقف بعودته الي وطنه الام,فكان لابد أن تمر نحو خمسين سنة من يوم عودته وحوالي أربعين سنة من يوم رحيله حتي تبدأ رحلة انصافه الحقيقية مع ثورة يوليو.1952


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.