كنت بصدد استكمال حديثي حول رموز التنوير، بعد حديث حول الشيخ علي عبدالرازق وكتابه »الإسلام وأصول الحكم« وبدأت في الكتابة عن »الدكتور زكي نجيب محمود« هذا العقل الجميل، والقلب المضيء كي أستحضر رحلته مع الفكر وخاصة الفلسفي حيث اعتنق الفلسفة »التجريبية العلمية« او الوضعية المنطقية التي تأسست علي يد »تراند راسل« و»جون ستيوارت مل« والتي كانت بمثابة رفض لمصطلحات التيارين الاساسيين في مدارس الفلسفة- التيار المثالي والتيار المادي- وكيف استطاع هذا المفكر المصري العظيم ان يستخلص في نهاية رحلته الفكرية والحياتية تصورا مهما لمسألة »الأصالة والمعاصرة« جمع خلاله بين ايمانه بالعلم وحاجتنا اليه، دون تعارض مع ايمانه بالاسلام الصحيح، معتبرا رؤيته في ذلك طوق نجاة يحتاجه العالم الاسلامي في ظل وحدة التخلف والتخبط كما كان يري.. كنت بهذا المقال مستمرا في رهاني علي ان الشخصية المصرية في جوهرها البعيد الذي قدّم للعالم »فجر الضمير« ليكون له قلب يميز مازالا يصارعان شرور العقل.. كنت مستمرا في هذا الرهان الذي يمكن ان يساعد في ازالة ركام التخلف والتغييب وكل ما يعوق الجماعة المصرية الآن مع المشاركة في حوار بناء.. يعبر بنا من عنق الزجاجة الضيق الذي نواجهه.. وفجأة وأنا ابدأ في الكتابة فوجئت بما يجري في امبابة وتابعت تداعياته.. وعندها احسست ان هناك من يسخر مني.. ومن رهاني علي التمكن من السيطرة علي الظلام والركام.. ورأيت امامي ايضا وجوها خلف القضبان تضحك في شماتة. وتوقف قلمي وعقلي.. ثم بدأ عقلي يتحرك ببطء مستحضرا في عتمة هذا المشهد ما نحاوله.. لأتوقف عند آخر حراك وطني جاد.. المؤتمر الوطني الاول والحلم المصري بين يدي حشد كبير من ابنائه يبدأ اولي خطواته.. ثم تلك الوفود الشعبية تتحرك في دول شتي من اجل ازمتنا مع دول افريقيا والنيل- ارثا ثقيلا من الزمن البغيض- والتحرك هنا وهناك من اجل رأب الصدع الاقتصادي والامني وما نسميه خطأ بالطائفي.. وأتوقف فجأة.. امام تحرك للدكتور عصام شرف وهو متدارك بطبعه ونبله شرورا هنا وهناك.. وكأن الطيبة والنبل سلاح حقيقي في وجه الشر المستطير.. وهنا أفيق.. وأفيق أكثر عندما أعود لنفسي حيث كنت منكبا علي استحضار رموز التنوير من اجل نفض الركام.. وتساءلت: كل منا ماض في انجاز شيء مفترضا ان الوقت سيسمح.. ولكن.. وفي الظلام يكون هناك من يسرع باهداف مضادة.. بما يفوق حركتنا جميعا.. وبما يدمر كل مساعينا قبل ان تكتمل وأحيانا قبل ان تبدأ! عندما نعيش الخطر.. ونكذبه! عند هذه النقطة انصب غضبي علي نفسي اكثر من اي طرف آخر. لماذا لم اظل متمسكا بما حذرت منه اكثر من مرة؟ وبعد ايام فقط من خلع رأس النظام، وتحت عنوان »الخطر« نبهت ان النظام القديم مازال قائما ولا مفر من الاسراع بمواجهته وتطهير جسد الامة منه بحسم وقوة، فمخاطره بلا حدود، وكانت آخر رسالة عاجلة تحت عنوان »كلام معاد لابد منه« وتساءلت وكان عليّ ان اظل عند تساؤلي حتي احصل علي رد »اي وقت سيساعدني او غيري لاحياء العقل المصري هذا؟ او لاستكمال مسيرة الثورة ان كان النظام القديم بهذا القدر من الخسة والشر!؟« كان ذلك بعدما حدث في المباراة مع تونس.. انها نفس الايادي التي رأيناها في موقعة الجمل.. وفي قنا.. وفي امبابة.. وفي الاقسام التي تهاجم والسجون.. وفي اشعال النار في اي تجمع فئوي.. والغريب ان احساسي بالخطر قد زاد بعد الزج برؤوس النظام في السجن رهن التحقيق، وخاصة مع تجمعهم في سجن واحد، وتأكد احساسي بما حدث في اعقاب صدور اول حكم ضد العادلي مباشرة!!.. وحتي هذا الحين كان التصور الرسمي إلا خطر حقيقيا ولا من ثورة مضادة!! وبالمنطق البسيط نسأل ثانية، هل النظام السابق بعد ان مكنه الطغيان من كل شيء في الارض لثلاثة عقود، يمكن ان يستسلم بسهولة حتي ولو من خلف القضبان؟ انه جسد هائل ممتد الاذرع والاذناب، آلاف مؤلفة علي امتداد بر مصر، والمجالس الشعبية المحلية متواجدة في كل المؤسسات، التعليم والصحة والثقافة والاعلام وغيرها مثل رموز مازالت علي رأس مؤسسات وكواليس وزارات بخلاف حشد هائل من المجرمين وآلاف من البلطجية استغل النظام فقرهم وجهلهم ومعاناتهم في الاحياء العشوائية ليستخدمهم في خدمته وفي كل معاركه لتثبيت الواقع الذي أراده هنا، برق امامي المنهج الشيطاني الذي لجأ اليه النظام في معركته معنا الآن.. ليكتمل ما غاب عن الصورة. الشيطان يعمل.. ولا يثرثر انهم ببساطة يستخدمون كل جرائم عصرهم في مواجهة الثورة عليهم. كيف؟؟ بخلاف جرائم كبري في الداخل وبالخارج الذي مازال لهم به صلة- فانهم استعدوا الان في حربهم وبشكل اساسي داخليا علي ثلاث جرائم ارتكبوها وعمقوا جذورها مع الشعب المصري وهي: الفقر، الجهل، الانغلاق والتطرف. فالفقر هم من اوصلوا مساحة عظمي من الشعب الي ما دون خطه المحتمل، وكرسوا الفقر المدقع بحزام مخيف من العشوائيات وصل لدي بعض التقديرات الي 51 مليونا.. وهم من دمروا منظومة التعليم عن تعمد.. واستكملوا ذلك بحصار العقل المصري بعيدا عن العصر وطمسوا علي رصيده الفطري والتاريخي، وهمشوا تماما دور المثقفين سواء داخل مؤسسات الثقافة والاعلام او خارجها ضمانا لتشويه وتسطيح كامل للعقل المصري.. واستنادا الي جرائمهم ضد الاغلبية لصالح تشكيلهم العصابي في مجال السياسة الاقتصادية والاجتماعية- فجروا مع كل ما سبق منابع التطرف او التفسخ لدي شريحة كبيرة من الشباب وجانب من العامة وبالذات في بيئة ما تحت خط الفقر.. ومن وسطهم ايضا اختلقوا كل وسائل الفتنة الطائفية وكرسوا كل اشكال التمييز في هذا المجال.. واجمالا صنعوا بذلك وبغيره متاهة واسعة للغالبية من الشعب، حتي صار المواطن لا يملك لحظة ليفكر فيما هو فيه.. اذ هو في لهاث دائم من اجل لقمة عيش لا تأتي الا بصعوبة تتزايد وسط غلاء متصاعد. من هذا الذي صنعوه وغيره كانت خطتهم.. استغلال جانب ممن اضاعوهم بالفقر المدقع والجهل الغاشم في كل عملياتهم القذرة بدءا بمعركة الجمل وانتهاء بمعركة امبابة.. وتلك ورقة اساسية في ايديهم معدة للانطلاق حين تأتي الاشارة مع العُدة والعتاد والاموال. الورقة الثانية هي استغلال ما وصل اليه الناس من معاناة للظلم والفاقة- وهم الصانعون- وما ترتب علي ذلك من لهفة الي العدل تلك التي خلقت الوقفات الفئوية التي اججوها بأذنابهم.. اذ يعرفون ان وطأة الظلم افقدت الكثيرين الصبر والوعي.. الوعي بحاجتنا الي وقت وتحمل. وللحقيقة فإن كشف حجم النهب الذي تعدي حدود العقل.. افقد الكثيرين العقل وأطاش صوابهم. الاعترف بالثورة مبكرا.. وبالثورة المضادة متأخرا ورغم ذلك كله وما صاحبه من شواهد، ورغم وجود قوي خارجية ايضا لا يمكن ان تقف متفرجة ومصالحها مهددة او هي مهددة نفسها وفي مقدمتها اسرائيل.. وعلي امتداد مائة يوم من تاريخ قيام الثورة.. كان هناك الاصرار الرسمي علي انه لا توجد ثورة مضادة وتكرر التصريح بذلك رغم تكرار الشواهد وتصاعدها.. ولكن واخيرا.. نسمع بوضوح وبلسان رسمي »اننا نواجه ثورة مضادة« و»اننا امة في خطر«. الآن نعلنها بعد طول غياب وانكار؟ فماذا يعني ذلك. ان وطنية المجلس العسكري ليست محل شك وكذلك حرصه علي الثورة، وثقتنا في شخص الدكتور عصام شرف حقيقية ورغم احساسنا بحاجته الي النظر في عمل ونهج وزارته.. فان كان المسئولون موضع ثقة كما نشير فما السبب في تعطل هذا الاعتراف طويلا؟ وفيما حدث؟! الغلط فين؟ العلة في رأيي ومنذ البداية، في اغفال حقيقة ان الثورة لها قانون لا يعرف الوسط.. وان عرف الحلول الوسط او منطق الاصلاح والموازنات عاد بالزمن وبنا إلي الخلف.. وتحول من باب للتغيير الحقيقي الي مقبرة للتغيير وفضاء خاو يضيع فيه الأمل. ان اي ثورة حقيقية تسعي لانتزاع حق الشعب وخاصة من تشكيل عصابي غير مسبق، لا تحتمل اقل من اجراءات انتقالية قاطعة تجاه هذا النظام بهيكله وجذوره كاملة.. بشكل شامل ومتزامن دون مراحل او تدرج وقرارات مؤقتة لواقع الثورة في فترة الانتقال هذه وبما يجعل سياج الثورة محكما وبما يحمي جسد الامة من اي رخاوة في اي وقت منه قد تسمح بالاختراق او الاضراب.. ان تاريخ الثورات يقول شيئا اساسيا ومبدئيا.. انه ما من ثورة حققت نجاحا الا بفترة انتقالية استثنائية، تحكمها شرعية ثورية واضحة لا تبقي ولا تذر شيئا من نظام قامت لاقتلاعه.. وما كان بنظام بقدر ما كان تشكيلا عصابيا مبدؤه الان »قاتل يا مقتول«! والاآ وقد سمعنا ما صدر من قرارات بالحسم والاحكام المشددة تجاه كل من يهدد تلك الثورة.. فإننا والوطن جميعه نقف علي اطراف اصابعنا في انتظار!