تواصلا مع ما جاء في مقالي السابق حول تداعيات سد النهضة فإنني أتمني ألا يكون هدف اثيوبيا من وراء مسلسل توقيع الاتفاقات مع كل من مصر والسودان هو مواصلة عملية التسويف والمماطلة لتضييع الوقت. لم يعد مطلوبا عقد المزيد من اتفاقات المبادئ ومذكرات التفاهم لانهاء أزمة إقامة سد النهضة دون الالتزام الواضح بحقوق دول المصب «مصر والسودان». المهم هو توافر المصداقية من الجانب الاثيوبي وأن يكون أمينا في عدم الاخلال بما يتم الاتفاق عليه. اقرار هذا الأمر يبني الثقة القائمة علي ايمان حقيقي بالحفاظ علي مصالح جميع الأطراف. كما هو معروف فقد سبق لرئيسي كل من مصر والسودان ورئيس وزراء اثيوبيا التوقيع علي اتفاق للمبادئ. حدد هذا الاتفاق خطوات التحرك لإزالة ما يشوب تنفيذ مشروع سد النهضة علي النيل الازرق داخل الاراضي الاثيوبية من تهديدات لحقوق مصر المائية التي كفلتها اتفاقات دولية كان آخرها عام 1959. رغم مرور عدة شهور علي التوصل إلي هذا الاتفاق إلا أن ما تم تسجيله تمثل في ممارسة الجانب الاثيوبي لسياسة اللف والدوران لتعطيل تفعيل ما جاء في هذه المبادئ . عمدت أديس أبابا إلي تضييع الوقت علي أمل أن يتم انهاء الاعمال دون مراعاة لمصالح دولتي المصب خاصة مصر التي تعتمد اعتمادا كليا علي مياه النيل. بالطبع فإن هذا السلوك يتناقض وما تقضي به المعاهدات والاتفاقات الدولية وحقوق الجيرة وما تفرضه العلاقات التاريخية التي تربط دول المنبع والمصب لحوض النيل. هذا الموقف المكشوف من جانب اثيوبيا والذي لا يتفق مع ما جاء في اتفاق المبادئ الثلاثي كان مبررا لأن يثير قلق دولة المصب الرئيسية لنهر النيل. كان دافعها إلي ذلك احساسها بأن هناك استخفافا اثيوبيا يمكن يلحق الضرر بالمصالح المصرية وهو مايمثل خطورة بالغة. لم يتم تقدير ما سبق وأعلنته مصر بأن المساس بحقوقها المائية خط أحمر ومسألة حياة أو موت. لم يكن أمام الدولة المصرية سوي تأكيد جديتها في مواجهة هذا الخطر بكل السبل والوسائل. عملت علي توصيل هذه الرسالة إلي أديس ابابا سواء بالطرق المباشرة أو غير المباشرة. لطمأنة الشعب المصري حرص الرئيس السيسي علي أن يؤكد أن لا تفريط في حقوقنا المائية مؤكدا ثقته في احترام اثيوبيا لهذه الحقوق. من المؤكد أن الإصرار المصري علي الدفاع عن الحقوق القانونية والتاريخية التي تكفلها المشاركة العادلة في مياه النيل.. جعل الجانب الاثيوبي يدرك أنه لا يمكن المضي في تبني سياسات التسويف والمماطلة. نتيجة لذلك جاء التحرك - الذي أرجو أن يكون صادقا - بعد ان أصبح واضحا وجليا أن مصر بدأت تفقد صبرها. كان من الطبيعي أن يسيطر عليها هذا الشعور خاصة بعد أن قامت بكل ما هو مطلوب منها لاستنفاد كل الوسائل السلمية للاتفاق والتوافق. علي ضوء هذا الفهم لحقيقة ما يمكن أن تنبئ به الأمور جري الاتفاق علي عقد اجتماعات تضم إلي جانب وزراء الري المعنيين بالجوانب الفنية للمشكلة وزراء الخارجية للدول الثلاث. كان ذلك بمثابة تجسيد لدخول المفاوضات إلي مرحلة المستوي السياسي بما تعنيه من أهمية وخطورة لما يجري تناوله وما يجب التوصل إليه من نتائج فاعلة. لا جدال انها كانت خطوة موفقة .. التحول من اجتماع ثلاثي يتسم بالصبغة الفنية إلي اجتماع سداسي تغلب عليه المسحة السياسية وما يمكن أن يرتبط بها من اجراءات مستقبلية. كان لابد ان يكون هناك ادراك من جانب ممثلي الدول الثلاث.. مصر واثيوبيا والسودان .. في هذه الاجتماعات حجم المسئولية. لم يكن هناك مفر من توافر الفهم والتفاهم الذي ينهي أي خلاف حول ما يحيط بمشروع سد النهضة من غموض ولبس فيما يتعلق بحقوق دول المنبع والمصب. علي ضوء هذه المسئولية تم تسمية المكاتب الاستشارية التي ستتولي إعداد الدراسات اللازمة عن المشروع وحدد كحد اقصي لانهاء مهمتها بثمانية شهور. كما اتفق ولاثبات حسن النوايا ألا يتم اتخاذ أي اجراء بشأن تخزين المياه دون أن تكون هناك مشاورات وزيارات ميدانية لموقع السد. إن تفعيل بنود ما تم الاتفاق عليه في مذكرة التفاهم لاجتماعات الخرطوم السداسية سوف يعد هذه المرة بمثابة اختبار حقيقي لحسن النوايا خاصة من جانب اثيوبيا. حول هذا الشأن فإنه لابد من الاشادة بالجهود التي بذلها سامح شكري وزير الخارجية من أجل ألا تنتهي مفاوضات الخرطوم السداسية دون نتائج ايجابية تحمل الاطمئنان إلي الرأي العام المصري الذي أصبح يشعر بنفاد الصبر. ليس خافيا أن هذه المشاعر القلقة كانت جديرة بأن تتحول إلي ضغوط شديدة علي القيادة السياسية المصرية وهو ما دفعها إلي نقلها إلي عمق مفاوضات الخرطوم حتي تضح الرؤي في اتجاه إجلاء المواقف مما يؤدي إلي انهاء جذري للأزمة.