الخديو سعيد نموذج للحاكم الفرد الذي يتخذ القرارت المصيرية دون خوف من برلمان يحاسبه، أو رأي عام يعترض عليه، ودون استشارة المختصين. إنه نموذج لرجل يقود أمته لكارثة دون أن يعي. وإصداره لامتياز القناة لديليسبس يعتبر تجسيداً لهذه المعاني. لم يكن سعيد صاحب نظرة استراتيجية مثل والده محمد علي باشا، ولذلك لم يلتزم بفكرة أن تكون ملكية القناة مصرية خالصة، ووافق علي أن تكون ملكيتها لشركة عالمية يرأسها صديقه ديليسبس، دون أن يخطر بباله أن ديليسبس يبحث عن مصلحته أولاً، وعن مصالح فرنسا ثانياً باعتباره مواطنا فرنسياً. أصدر سعيد الامتياز الأول لديليسبس عام 1854، وتنازل في هذا الامتياز جزئياً عن سيادة مصرلشركة القناة، فهو يمنحها الأرض التي ستحفر فيها القناة مجاناً، ويمنحها مساحات مفتوحة من أراضي مصر دون مقابل. جاء في البند الرابع من الامتياز : « تُمنَح الشركة دون مقابل جميع مايلزمها من الأراضي التي ليست ملكاً للأفراد « ويقول في البند السابع « تتنازل الحكومة للشركة عن الأراضي أو الأملاك العامة مما لايزرع اليوم لتقوم بريها وزراعتها علي نفقتها أو تحت إشرافها. وتنتفع الشركة بالأراضي المذكورة مع إعفائها من الضرائب مدة عشر سنوات من يوم افتتاح القناة « والأغرب أن يعطي الامتياز للشركة حق بيع ماء الري للفلاحين الذين سيروون أراضيهم من الترعة العذبة، أي أن الشركة ستبيع للمصريين ماء النيل الذي هو ملكهم. وزاد الطين بلة ماجاء بالبند التاسع الذي يقول : « تُمنح الشركة الملتزمة الحق في أن تستخرج من المناجم والمحاجر الداخلة في الأملاك العامة جميع المواد اللازمة لأعمال القناة والمباني التابعة لها مع إعفائها من الرسوم «. لم يكتفِ ديليسبس بهذا، طلب تعديل الامتياز، فأصدر له سعيد باشا امتيازاً جديداً في يناير 1856 يضيف مزيداً من الحقوق للشركة، ولعل أخطر هذه الحقوق يتمثل في البند القائل إنه يجب أن يكون أربعة أخماس العمال المستخدمين في هذه الأعمال - علي أقل تقدير - من المصريين، فبناءً علي هذا البند ألزمت الشركة الحكومة المصرية أن تقدم لها العمال الذين يقومون بحفر القناة سخرة، دون مقابل. أضف لهذا أن ديليسبس ألزم مصر بشراء 44% من أسهم القناة، ولكي يدبر سعيد باشا ثمنها اضطر إلي الاستدانة من البنوك الأوربية فكانت هذه بداية استدانة مصر التي أودت باستقلال البلاد بعد حين. باختصار قدمت مصر الأرض مجاناً، والعمال سخرةً، ودفعت حوالي نصف رأس مال الشركة، فماذا بقي كي تدفعه الشركة ؟ لكن أخطر مافي الموضوع أن مصر تنازلت للشركة عن جزء من سيادتها. المهم أن سعيداً كان يري أن ديليسبس صديقه الوفي، ولم يفق من هذا الوهم إلا حين لطمه ديليسبس بقسوة المرة بعد المرة. كانت اللطمة الأولي عام 1859 عند بدء الحفر، فقد اتفق الطرفان علي ألا يبدأ الحفر إلا بعد موافقة السلطان العثماني، لكن ديليسبس لم ينتظر هذه الموافقة، فأرسل إليه سعيد يطلب وقف الحفر التزاماً بالاتفاق المبرم بينهما، إلا أن ديليسبس تحدي سعيداً، وأعلن أنه سيثير العالم كله ضده، فابتلع سعيد الإهانة في صمت. أما اللطمة الثانية فكانت حين أرسلت إنجلترا أسطولها إلي الإسكندرية في العام نفسه، وخشي سعيد من احتلال الإنجليز لمصر، وطلب من صديقه وقف الحفر، لكن ديليسبس رفض، وعرض مصر وصديقه المخدوع للخطر بلا مبالاة غريبة. والسؤال : هل كان ديليسبس يجرؤ علي التصرف مع محمد علي، الحاكم القوي، ذي النظرة الاستراتيجية، كما تصرف مع سعيد ؟ إن فترة حكم سعيد تؤكد لنا أن الغرب ينتظر الفرصة دائماً لينقض علي مصر إذا أحس فيها بضعف، فتحية للسيسي الذي أدرك ضرورة أن تكون مصر قوية كي لا تأكلها الذئاب وأن تكون القناة الجديدة ملكاً لها وحدها.