الحج رحلة مباركة فيها تزكية وتطهير للنفس من الأدران والآثام تمهيدا لولادة جديدة للانسان فالمسلم الذي أدي الفريضة يختلف مسلكه وتتغير حياته بعد العودة من البقاع الطاهرة ويصبح إنسانا جديدا يرتبط في كل أعماله بالله سبحانه وتعالي يراقبه في كل شيء يعيش بين الناس كأنه يري الله من شدة المراقبة والخوف منه سبحانه وتعالي وهو يعلم يقينا ان الله يراه. وللحج مقاصد جليلة، ومعان عظيمة، وآثار كبيرة علي الفرد، وعلي الأمة المسلمة، فالحج مثله مثل الايمان بالله ومثل اعتناق الإسلام يجب ما قبله من ذنوب ويمحو الخطايا وفي ذلك يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمرو بن العاص عند إسلامه: »أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وان الحج يهدم ما كان قبله؟!« ويقول أيضا: »من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه«، ويقول: »الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة«. وإذا كان ثواب الحج بهذا الحجم العظيم فان ذلك يرتب علي الحاج بعد عودته إلي دياره ألا يتخلي عن النور الذي سري في جسده وشمل كل اعضائه من مفرق رأسه إلي اخمص قدميه أو ان يستبدل ذلك بالظلام والجهل وان يغرق في مستنقع الذنوب مرة أخري وأن يكون قدوة لغيره بالصلاح والاستقامة والدعوة إلي الله علي بصيرة والتنمسك بالدين. يجب ان يضع الحاج بعد عودته الدار الآخرة نصب عينيه وألا ينغمس في الدنيا وملذاتها أو ان يتصارع مع الذين يتنافسون من أجل امتلاك كل ما تقع عليه أعينهم كما يجب ان ترتقي معاملاته فلا يتسرب إليه الكذب أو ينخدع بالغش وتطفيف الكيل والميزان أو ينزلق لسانه إلي الغيبة والنميمة والخوض في أعراض الناس أو ان تبطش يده بالضعفاء واصحاب الحقوق أو ان يتطاول علي من ذكره بتقوي الله او حاول ان يفيقه من غفلته وان يتأكد كل من كان يعرفه من قبل انه أصبح إنسانا جديدا له دائرة اهتمامات اخري فقد ادرك حلاوة معية الله وحلاوة طاعته وقيام الليل بين يديه سبحانه وتعالي. ان يدرك الحاج ان الله فرض العبادات للارتقاء بالأخلاق وتهذيب السلوك، فقال سبحانه وتعالي عن الصلاة: »اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون«. وقال تعالي في شأن الزكاة: »خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم« وقال في شأن الصيام »يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون«. قال »صلي الله عليه وسلم«: »من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه«. وقال تعالي في شأن الحج: »الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فان خير الزاد التقوي واتقون يا أولي الألباب«. فالغاية العظمي من تشريع العبادات هي تحقيق كمال العبودية لله عز وجل ولابد ان يظهر هذا في أخلاق المسلم فقد حصر وقصر النبي »صلي الله عليه وسلم« رسالته علي اتمام مكارم الاخلاق فقال »صلي الله عليه وسلم«: »إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق« والإسلام دين شامل لكل نواحي الحياة، لا انفصال فيه بين العبادة والسلوك، ولا بين العلم والعمل. ومن أعظم غابات العبادات التي شرعها الإسلام - هي تزكية النفوس وتهذيبها والترقي بها نحو محاسن الأخلاق ومكارمها بحيث يصير المسلم المقيم لفرائض الله تعالي من أحسن الناس أخلاقا وأنبلهم سلوكا وأكرمهم شيما. وهذه الغاية نلمسها في كل شعيرة من شعائر الإسلام وكل ركن من أركانه. والحج له أثر عجيب في إصلاح الأخلاق وتهذيب السلوك ولو أن المسلمين استلهموا هذه الروح واستشعروا هذه الغاية من عباداتهم في كل أحوالهم لتحسنت الأخلاق كثيرا ولنعم المجتمع المسلم بعلاقات ملؤها الحب والمودة والرحمة. لكن الواقع يكشف ان بعض الناس ربما استفاد وقتيا من أثر عبادته لكن الأثر لم تكن له صفة الدوام والاستمرار، وهذا خلل في التطبيق يحتاج إلي التذكير بان من أعظم غايات تشريع العبادات في الإسلام تزكية النفوس وتقويمها ونهيها من غيها والابتعاد بها من مساوئ الأخلاق وسفاسف الأمور. فالله سبحانه شرع الحج إلي بيته المحرم ليكون في ذلك تزكية للنفوس وتطهير لها من أدران المعاصي والمخالفات، وفي ذلك يقول رسول الله: »من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه« وقوله »من حج هذا البيت« يتضمن الاخلاص في الحج وذلك بان يكون الهدف من الحج بلوغ رضوان الله تعالي، لا مراءاة الناس ولا طلب الدنيا وان يحضر قلبه مع الله تعالي في أداء مناسك الح، فإذا قام بأداء المناسك علي وجهها واجتنب جميع المعاصي والمخالفات كان جديرا بان يحصل علي هذا الوعد الكريم بتطهيره من جميع ذنوبه وتكفير سيئاته، وهذا مقصد عظيم من مقاصد الحج، يجعل قلوب المسلمين تهفو إلي هذا البلد الأمين . كاتب المقال: شيخ مشايخ الطرق الصوفية ورئيس المجلس الصوفي الأعلي