أنتمي لجيل يطلق عليه جيل السبعينيات في الجامعات المصرية, وهو جيل يتميز عن أجيال كثيرة بأنه صاحب تجربة سياسيةواقعية مختلفة, فهو الذي قاد الحركة الطلابية في الجامعة منذ أوائل السبعينيات وحتي نهايتها, وكان امتدادا طبيعيا لحركة الرفض الطلابية التي اندلعت في العالم وبدأت تنتشر داخل الأوساط الشبابية في الستينيات في مصر وظهرت ملامحها بوضوح في مظاهراتهم عقب هزيمة يونيو67, والتي عرفت بمظاهرات68, الرافضة والمحتجة علي الاحكام المخففة التي صدرت علي قادة الطيران في حرب يونيو. وربما يكون هذا الجيل بحكم سنوات المولد, قبيل حرب السويس أو العدوان الثلاثي عام1956, قد تلامس خلال سنوات عمره بحروب ومعارك الوطن, فقد قرأ بحكم دراستنا عن حرب48, وكان ميلاده قبل وأثناء وبعد حرب السويس عام56, بسنوات قليلة, وشهد صباه عدوان وهزيمة67, وفي شبابه عاهد أغلبه وشارك البعض منه في حرب أكتوبر1973. يضاف إلي هذا أن بعضا من أبناء هذا الجيل, كان نتاجا بطبيعة الفكر السائد في مصر والعالم, الذي كان يتحدث عن التحرر الوطني والاشتراكية, وتأثر بالتحولات الاجتماعية التي أحدثتها ثورة يوليو52, ولعبت منظمة الشباب الاشتراكي في ذلك الوقت دورا كبيرا في تشكيل التوجه السياسي لهذا الجيل, الذي وجد قطاع مهم وكبير منه في تجارب دولية أخري. نموذجا أفضل من النموذج الناصري العربي, فخرج من التنظيمات الناصرية, التي حملها مع زعيمها مسئولية الهزيمة, وأسس تنظيماته الجديدة التي لعبت دورا أساسيا ومهما في الحركة الطلابية في السبعينيات وفي الحركة السياسية والحزبية فيما بعد, وباعتراف الجميع كان ولايزال هذا الجيل وطنيا بامتياز, فقد كان جيلا يعشق تراب الوطن, يتسلح بالفكر يؤمن بالعمل السياسي وبدور الناس والجماهير, كانت منطلقاته وطنية خالصة, لم يسع للتخريب, ولم يكفر المجتمع ولم يحمل سلاحا ضده, ولم يهدد أحدا, ولم يغتال أو يطلق النار علي المختلفين معه, كان بشكل أو بآخر جيلا ديمقراطيا, حالما, قد يختلف الكثيرون مع أحلامه وأفكاره ولكنهم لا يملكون سوي احترام تجربته ورؤيته, التي يجب أن نضعها في سياق المناخ ا سياسي والاجتماعي السائد في مصر والعالم في ذلك الوقت والحكم عليها باعتبارها رؤية شباب في العشرينيات من عمره, لاتتوافر لديه الحقائق والمعلومات. قد تكون هذه المشاعر هي سبب موقف بعض ابناء جيل السبعينيات من حرب أكتوبر, هؤلاء الذين شككوا فيها, واعتبروها حربا سياسية!! صحيح أن أغلب المصريين ومن بينهم هذا الجيل, سيطرت عليهم حالة اليأس بعد هزيمة يونيو, وبعضهم اعتبر أن هذه الهزيمة قدر محتوم, وأننا لن نستطيع تحرير أرضنا المحتلة, وعندما تحدث الرئيس الراحل أنور السادات عن تأجيل موعد المعركة والذي عرف بعام الضباب, اندلعت المظاهرات في الجامعات, وأعتبرها البعض حجة لعدم خوض الحرب, التي كنا نتحدث عنها كشباب, كنزهة لن تستغرق ساعات, ونتحدث عن حرب تحرير شعبية, وتوزيع السلاح, علي الجماهير, وعن حرب العصابات, كانت رؤية رومانسية, رؤية جيل صادق يغلف رؤيته ضباب حقيقي. كان هذا الجيل المتحمس يريد إعلان الحرب الآن وليس غدا, وتحرير الأرض وكان هذا شعورا وطنيا جميلا, ولكنه يفتقد حسابات الواقع السياسي والاقتصادي ولا يلتفت لطبيعة العلاقات الدولية, ولا أسس إعداد الدولة والجيش للحرب, كنا نردد شعارات وطنية شديدة النقاء والطهر, ولكن مع طهرها ونقائها يمكنها ان تتسبب في كارثة, كان هذا قبل اندلاع شرارة العبور في السادس من أكتوبر, وكان في هذا الإطار مفهوما ويمكن قبوله من شباب يعبر عن أحلامه وحبه وإنتمائه الوطني بطريقته, ويمكن ملاحظة قبول الدولة وتفهمها لما يقال من هذا الجيل, إن الرئيس السادات لم يعامل أبناء هذا الجيل كخونة بل كشباب لم ينضج ولم تتضح رؤيته وأفكاره بشكل كامل, فقد كان يلقي القبض علي قادة هذا التيار ويتم الإفراج عنهم بعد شهور قليلة, وكان يسمح للجميع بأداء امتحاناتهم الدراسية, في لجان خاصة داخل كلياتهم الجامعية, وبعد أكتوبر, وقصص وملاحم العبور, ظل بعض أبناء هذا الجيل علي موقفهم, ووصل الأمر إلي حد توزيع كتيب صغير داخل الجامعة بعنوان حدود أكتوبر أثار جدلا عنيفا وسخطا كبيرا بين أبناء هذا الجيل, وهذا الكتيب تمت طباعته في بيروت, ويتحدث عن العبور بوصفة حرب تحريك وليست حرب تحرير, واعتبرها حربا سياسية, وعاد للحديث القديم حول الحرب الشعبية بعبارات وتحليلات سياسية تفتقد للمصداقية وتصطدم بحقائق الواقع وبمشاعر ملايين المصريين وتضحيات أبناء شعبنا في القوات المسلحة المصرية في هذه الحرب المجيدة, و تسبب هذا الكتيب في خلاف سياسي حاد بين أبناء الجيل, وكنت من الفريق الذي رفض بحسه السياسي والوطني هذه الرؤية الخائبة التي اعتبرت التضحية الضخمة بأرواح شهدائنا في العبور لعبة سياسية, وحاولت أن أشرح يومها لبعض أنصار هذا التحليل وكانوا أقلية, أهمية هذه الحرب وأهمية تحرير جزء من سيناء وحجم الإنجاز الذي تحقق بالعبور وسقوط حائط بارليف والموانع الحصينة للعدو, وخطورة استمرار حالة اللاحرب واللا سلم علينا, وأهمية تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر, وتجاوز هزيمة67, فضلا عن المناخ الدولي الذي لن يسمح بأكثر من هذا, وتحرك الدول الكبري وعلي رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية إلي جانب دعمها المباشر لاسرائيل بإقامة جسر جوي لإنقاذها من الهزيمة, لوقف إطلاق النار علي الجبهة. ويبدو أن أصحاب الكتيب, كانوا وربما لا يزالون حتي اليوم يعيشون في أحلام الصبا والشباب والرؤية الضبابية, ولم يتغيروا, ولكن أغلب جيل السبعينيات, أدرك وفهم معني العبور وقيمة حرب أكتوبر, كحرب تحرير وطنية, استرجعت الأرض والكرامة بتضحيات شعبنا وبطولات قواتنا المسلحة, وأدركت أن الحرب ليست نزهة, بل تحتاج لاعداد وتخطيط وتدريب وخداع وتمويه وجبهة داخلية قوية وإرادة سياسية وحسابات دولية وهذه أشياء غابت عن البعض من جيل السبعينيات, فأصيب بضباب الرؤية ولكن أغلبية هذا الجيل مع شعبنا المصري الأصيل أشرقت عليه شمس العبور وكان سندا لقواته المسلحة في معركة التحرير والنصر. * الأهرام