شباب الجامعات الذي انضم للجماعة في السبعينيات حمل أفكارا جديدة رفضها رجال التنظيم السري التلمساني حاول أكثر من مرة تأسيس حزب سياسي كواجهة علنية للجماعة ولكن المعارضة الداخلية وأدت الفكرة السبعينيات وما بعدها: عقب عودة الإخوان المسلمين للعمل العلني أو شبه العلني بعد إفراج الرئيس الراحل السادات(1972) عن كوادرها المعتقلين والشروع في إعادة تشكيل الهيكل التنظيمي القديم للجماعة والذي كان علي حال من التردي والضعف الشديدين وهو ما أدركه المرشد العام وقتها حسن الهضيبي ولكن القدر لم يمهله لبناء تنظيم الإخوان علي المستوي المحليداخل مصر وإن كان قد انصرف بجهده لبناء حركة الاخوان المسلمين العامة أي التنظيمات القطرية للإخوان في محاولة لرأب صدع الانقسامات التي عرفت الطريق للكثير من التنظيمات القطرية للإخوان في الدول العربية ولإخضاعها لسلطة مكتب الإرشاد العام وتفعيل تبعيتها للمرشد العام. التلمساني يفتح الباب للدماء الجديدة: عقب وفاة الهضيبي(1973) لجأ رجال النظام الخاص في الجماعة( الحرس القديم) إلي خطة تهدف إلي ضم شباب الجماعات الدينية التي بدأت تنتشر في الجامعات المصرية عقب هزيمة1967 في محاولة جادة لإعادة بعث جماعة الإخوان من جديد, علي ضوء المناخ المواتي الذي وفره لهم السادات.. وكان الحرس القديم في جماعة الإخوان قد نجح( خاصة الدور الذي قام به مصطفي مشهور رمز الحرس القديم وصقر الجماعة) في إزاحة عدد من القيادات التاريخية للإخوان التي كانت توصف بالاعتدال والواقعية مثل محمد فريد عبدالخالق النائب الأول للمرشد وصالح أبو رفيق النائب الثاني وصالح عشماوي وكيل الجماعة بل وسعي لمحاصرة التلمساني( المرشد العام الثالث والذي خلف المرشد العام الثاني حسن الهضيبي). وبالفعل وبفضل الإمكانات التي وفرها السادات بشكل مباشر للإخوان أو تلك التي سعي الإخوان بشكل غير مباشر لاستغلالها بدأت الدماء الجديدة والأجيال الجديدة, خاصة من شباب الجامعات تعرف الطريق للبناء التنظيمي للإخوان.. ولم تكن هذه العناصر الشابة مجرد رقم يضاف للقدرات التنظيمية للإخوان.. بل حملت معها أفكارا جديدة.. وأحيانا رؤي مغايرة لتلك التي اعتادت الجماعة ترويجها والعيش في كنفها عقودا طويلة. ونجح المرشد العام الثالث عمر التلمساني داهية الإخوان, الذكي, البسيط, المتواضع, طويل النفس, لدرجة أنه رسم خطة لمدة خمسين سنة أطلق عليها خطة المشي في خطوات متوازية للتسلل إلي الأنشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنقابات والمدارس والجامعات.. إنها خطة تحاشي الاصطدام مع النظام لأن الإخوان سيعدون أنفسهم بعد اليوبيل الذهبي 50 عاما لمقاعد الحكم( المرجع السابق, ص12). وإلي حد كبير, نجح التلمساني في اعمال أفكاره واستطاع جذب عناصر شبابية لجماعة الإخوان, سرعان ما لعبت أدوار البطولة في مسلسل مسيرة تطور وتنامي الإخوان في عقود السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي..وضخت أفكارا وصنعت تجارب وممارسات مثلت رصيدا متميزا للجماعة علي مستوي الكم والنوع علي السواء..وهذا يستدعي أن نسلط الضوء سريعا علي هذه التجربة..تجربة تيار الإخوان السبعيني وعلاقته التنظيمية والفكرية مع تيار الحرس القديم من قيادات الإخوان التاريخية..إنها حقبة التفاعل الذي وصل في أحيان منه لحد الصراع بين تيارين تيار الحرس القديم والتيار السبعيني..أو بعبارة أخري المحافضون والمجددون داخل جماعة الإخوان المسلمين. الديني والسياسي..وأفكار جيل إخواني جديد: لم يكف الإخوان قط عن المطالبة بإلغاء قرار حل الجماعة الصادر عام1945, فتقدموا في مارس1976 مع ظهور المنابر داخل الاتحاد الاشتراكي بطلب لإعادة الجماعة إلي العمل رسميا, ثم أقاموا دعوي قضائية تطالب بإلغاء قرار الحل, إلا أن القضاء رفض البت في هذه الدعوي. وعلي أثر صدور قرار تنظيم الأحزاب عام1979 أصرت الجماعة علي استعادة شرعيتها القانونية كحزب سياسي, إلا أن السادات أحال الأمر إلي وزيرة الشئون الاجتماعية, وطلب من المرشد العام للجماعة التواصل معها. إلا أن التلمساني لسبب مالم يقم بهذا الاتصال, وعوضا عن ذلك الاتصال الذي كان من الممكن أن ينهي المسألة دخل قانونيو الجماعة في جدل حقوقي, ولكنه في جوهره سياسي, مؤكدين أن قرار حل الجماعة عام1945 لم يكن خاصا بها, بل تطبيقا لقانون حل الأحزاب السياسية, ومن هنا فإن من حق الجماعة أن تستعيد شرعيتها بعد إلغاء ذلك القانون, والنص في الدستور( الذي تم تعديله أكثر من مرة في السبعينيات) علي أن الحياة السياسية تقوم علي أساس التعددية الحزبية. كان عمر التلمساني المرشد العام الثالث أول من طرح علي الجماعة فكرة تكوين حزب سياسي في ظل قرار الدولة باستمرار سريان قرار حل الجماعة, وقد تخطي التلمساني بفكرته تلك مبدأ إخوانيا تقليديا رسخه البنا يقوم علي رفض الحزبية. ولم يكن ماطرحه التلمساني تقية أو أسلوبا أدواتيا لإعادة الجماعة إلي الشرعية( كما يؤكد المهندس أبو العلا ماضي) وإنما رؤية سياسية جديدة تؤمن بإمكانية بل ضرورة اندماج الجماعة في النسق التعددي التنافسي المعلن. لقد كان التلمساني في الماضي وفديا وإخوانيا في آن واحد, فكان الوفد يرشحه في قوائمه الانتخابية دون اعتراض من البنا رغم خصومة البنا الحادة مع قيادة الوفد. كان التلمساني يعرف مزايا التعددية السياسية ويقدرها, ويؤمن بآلياتها علي نحو ما في خدمة الدعوة الإخوانية وإتاحة فضاءات فاعلة لها. من هنا جاء طرح التلمساني في عام1984 لفكرة الحزبية لأول مرة بشكل فاجأ الإخوان التقليديين. لم يطرح التلمساني الفكرة انطلاقا من لغط أيديولوجي, بل من مصلحة عملية بحتة, فقد كان قانون الانتخابات وقتها ينص علي أن المرشح لمجلس( انتخابات1984) يجب أن يكون خزبيا أو أن يرشح نفسه علي إحدي القوائم الحزبية. من هنا طرح التلمساني علي الجماعة ضرورة التكيف مع القانون وتشكيل حزب سياسي يمثل واجهة لها. وقد واجه التلمساني معارضة مزدوجة من الحكومة والإخوان معا, غير أنه واصل طرحه, مبررا عداء البنا للحزبية بظروف وأوضاع أحزاب تلك الفترة وليس من حيث المبدأ. كان التلمساني يعرف أنه يراوغ قادة الجماعة, ولكنه استخدم تلك الحيلة في محاولة لإقناعهم, بيد أنها باءت بالفشل. (أبو العلا ماضي: رؤية الوسط في السياسة والمجتمع, ص119). جدد التلمساني طرحه حول تحول الجماعة إلي حزب سياسي قبيل وفاته عام1986. ولم يقف هذه المرة عند مستوي الطرح والمناقشة, وإنما بادر بمساعدة قوة من أبناء جيل السبعينيات التجديدي في كتابة برنامج سياسي تحت اسم حزب الشوري وبعد وفاته كرر أبناء هذا الجيل المحاولة مرتين باسم مختلف حزب الإصلاح ولم تحظ محاولتهم في المرتين برضا قادة الحرس القديم, الأمر الذي أدي إلي وأد التجربة للمرة الثانية. كان الدكتور عبد المنعم أبوالفتوح هو الذي قاد التجربة الثالثة عام1995 الخاصة بحزب الإصلاح, ثم قاد عضو الإخوان البارز في نقابة المهندسين محمد السمان تجربة رابعة في نفس العام1995 تحت اسم حزب الأمل وأخيرا جاء دور مجموعة حزب الوسط وأبو العلا ماضي لتكتمل مأساة هذا التيار, برفض تيار الحرس القديم لهم للمرة الخامسة, ولتبدأ فصول مأساة جيل الوسط الذي مازال مشروعهم تنظره محكمة القضاء الإداري للمرة الثالثة حتي الآن. لقد أثارت مبادرة شباب الإخوان التقدم بحزب جدلا كبيرا في صفوف الجماعة, سرعان ما تطور إلي صراع مازالت فصوله تتهادي حتي لحظة كتابة هذه السطور. حزب الوسط:( وجوب الفصل بين الوظيفة الدعوية الإصلاحية والوظيفة السياسية التنافسية) المرجع السابق ص88). بوفاة الشيخ عمر التلمساني المرشد العام للإخوان الذي نجح إلي حد كبير في إقامة جسور من التواصل والثقة والمودة مع جيل الشباب في تنظيم الإخوان منذ استطاع جذب قيادات ونجوم الجماعة الإسلامية التي نشطت في صفوف الشباب, وبخاصة طلاب الجامعات للعمل والانضواء تحت لواء الإخوان المسلمين.. ومكن الشيخ لبعض القيادات الشابة من أن تكون صاحبة نفوذ داخل الجماعة, وأن تقدم بعضا من رؤاها الفكرية الجديدة خاصة ما يتعلق بكيفية العمل السياسي وسط قطاعات الجماهير المختلفة.. ووصل بعضهم إلي مستويات تنظيمية رفيعة داخل الجماعة( عضوية مكتب الإرشاد), وبالطبع لم تخل تلك المرحلة من صراعات مكتومة أحيانا.. ومتفجرة في أحيان أخري بين رؤي هذا التيار الذي مثله جيل السبعينيات وبين قيادات الحرس القديم في الجماعة.. لكن ظل وجود التلمساني بقدراته ومهاراته القيادية رمانة الميزان في حالة الشد والجذب بين رؤي هذا التيار ورؤي الحرس القديم وبرحيل التلمساني(1986).. انتهت مرحلة وبدأت مرحلة جديدة.. كانت تجلياتها الأولي اختيار الحرس القديم لرجل ضعيف ليتولي منصب المرشد العام خلفا للتلمساني حتي يتسني لهم العودة إلي صدارة الحدث من جديد, وبالفعل تم لهم ما أرادوا, وجاء حامد أبو النصر مرشدا عاما ومعه مصطفي مشهور أحد أبرز نجوم الحرس القديم( والجهاز الخاص) للجماعة نائبا له, كان مشهور وقتها خارج مصر وعاد فور سماعه بموت التلمساني. نجح رجال الحرس القديم صقور الإخوان في استعادة نفوذهم ورؤيتهم داخل الجماعة, ومنذ ذلك الحين فيما نعتقد وشعر تيار السبعينيات التجديدي الذي كان يقوده ويحركه التلمساني بأنهم باتوا يتامي, فالنفوذ أخذ يتزايد يوما بعد يوم لرموز الحرس القديم ومريديهم من جيل الشباب أمثال خيرت الشاطر( النائب الثاني للمرشد العام حاليا) ومحمود عزت( عضو مكتب الإرشاد بالجماعة وأحد مجموعة1965 القطبية). أحس تيار السبعينيات منذ وفاة التلمساني بأن فرص الأخذ برؤيتهم في تطوير المناهج والأساليب التاريخية للجماعة قد تقلصت وهو ما أدي إلي تصاعد طرح الملاحظات النقدية تجاه الفكر المحافظ للقيادة التلقيدية للجماعة( عبد الرحيم علي: مرجع سابق, ص121). وبدأت فكرة البحث عن مخارج تنظيمية وبرمجية في إطار حركي مختلف, تعتمل في عقول بعض القيادات الإخوانية الشابة.. ولعلها كانت المدخل لمحاولات بعض قيادات هذا الجيل السعي لتأسيس حزب سياسي. إنها قصة حزب الوسط التي لم تبدأ في عام1996, وإنما بدأت في حياة المرشد التلمساني عام1984. تعبر قصة حزب الوسط عن الصراع المحتدم بين رؤية تيار السبعينيات من شباب الحركة الإسلامية الذين انضموا إلي الجماعة في منتصف سبعينيات القرن الماضي وبين رؤية تاريخية تقليدية محافظة حكمت سلوك ومفاهيم جماعة الإخوان في الأغلب الأعم من مسيرة الجماعة الفكرية والحركية. هذا الصراع الذي تراوح في ثمانينيات القرن الماضي بين الشد والجذب, وبين الحدة والخفوت, وبين التصريح به من جانب, وإنكار وجوده من جانب آخر, خرج إلي العلن عندما تقدم المهندس أبو العلا ماضي في بدايات عام1996 إلي لجنة الأحزاب بمجلس الشوري طالبا التصريح بإنشاء حزب الوسط, انفجر الصراع علنيا بين بعض شباب الإخوان من جانب وبين قادة الجماعة من جانب آخر... حتي وصل إلي ساحات المحاكم! وكانت هذه نهاية التقارب الذي حدث بين بعض أفكار ورؤي جيل شباب الجماعات الاسلامية في تجديد وتطوير أفكار وأساليب عمل تنظيم الإخوان في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي مع طموحات وتصورات المرشد الراحل عمر التلمساني صاحب سياسة النفس الطويل وتجنب الصدام المباشر مع السلطة, واستبداله سياسة التسلل بها وفقا للمثل الإنجليزي الشهيرببطء لكن بثقة لجميع أنشطة المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. مع التركيز علي النقابات المهنية والمدارس والجامعات.. واستقطاب أوسع الشرائح من الطبقات الوسطي مركز الثقل في صناعة الرأي العام في أي مجتمع, هذا التسلل التدريجي المحسوب, الذي كان رأس الحربة فيه قيادات شابة تنتمي إلي جيل السبعينيات في الجماعة, حققوا وتحققوا, حققوا الكثير من المكاسب والنجاحات علي هذا الدرب وتحققوا كقادة ونجوم ورموز للتيار الإسلامي..خاصة في الاتحادات الطلابية, ومجالس أغلب النقابات المهنية. كان رجال النظام الخاص يحكمون من وراء ستار في عهد المرشد الرابع حامد أبو النصر, ولكن جاءت بيعة المقابر التي اختير علي أساسها مصطفي مشهور أحد أهم رجال النظام الخاص مرشدا عاما, لتضع هؤلاء الرجال في واجهة الحدث, في وقت كانت الجماعة تعيش أصعب أوقاتها في صراعها مع الدولة, مما زاد الأمور تعقيدا في هذا السياق. جاء مشهور ومعه رجاله أصحاب منهج التصعيد والمجابهة علي صعيد التعامل مع السلطة والمخالفين في المجتمع, وأصحاب الرؤي المحافظة التقليدية,حيث إعلاء مفاهيم السمع والطاعة والتشدد والتنظيم الفكري والصلاحيات الضخمة الممنوحة للمرشد العام فضلا عن تقديسه, والتحايل علي مبدأ الشوري..(فالشوري غير ملزمة..والأخذ بها من باب الاستئناس لا أكثر) فكان لابد من أن تتوتر الأجواء, سواء في علاقات الإخوان بالغير أو علي الصعيد الداخلي.. وهو مادفع بفكرة حزب الوسط للظهور علي مسرح الأحداث السياسية. كرس تولي مشهور والطريقة التي تم اختياره بها أجواء التوتر بين جيل القيادات التاريخية المحافظة لجماعة الإخوان, وجيل الشباب السبعيني التجديدي, خاصة بعد نجاح التيار المحافظ التقليدي في الإمساك بزمام الأمور تنظيميا وحركيا بعد مجيء مشهور. في محضر نقاش أجريناه مع عصام سلطان المحامي, وأحد رموز تيار التجديد من شباب الإخوان..تحدث عن الصدمة والدهشة التي لفت الكثيرين من داخل الجماعة, خاصة شبابها, للطريقة التي تم بها اختيار المرشد العام مصطفي مشهور..خلفا للمرحوم حامد أبو النصر, وكيف أن قيادات كبيرة ووسطي بالجماعة لم تكن علي علم بتخطيط وتدبير تيار المحافظين من القيادات التاريخية لهذه البيعة المباغتة التي حدت بعصام سلطان تقديم استقالته من التنظيم, احتجاجا ورفضا لهذا الأسلوب. ونواصل [email protected]