د.أشرف الصباغ يكتب: العصيان المدني والشعوذة و«الفودَىَ الخلاكة» اشرف الصباغ سنوات طويلة من العمل الخيري لمثقفي وسط البلد مع ما يطلقون عليهم "أولاد الشوارع". هناك مكاسب وخسائر وفشل ونجاح. ومثقفو وسط البلد في مصر "بالهم طويل" ويعملون "على نار هادية"، سواء في الإبداع أو في مشاريعهم الخيرية والإنسانية، لدرجة أنهم أصبحوا جزء واحدا مع "أولاد الشوارع". مثقفو وسط البلد يعرفون أولاد الشوارع والعكس. هناك قدر من الثقة والحب والاحترام المتبادل. ولكن خلال عام واحد فقط رأيت أن أصدقاءنا أصبحوا متفوقين علينا بمراحل.. فمخارج الألفاظ صارت طبيعية وقريبة من مخارج ألفاظنا، وبات قاموسهم اللغوي يتضمن كلمات جديدة صادقة تتضمن كل الدلالات المتوقعة. وأصبح قاموسهم الذهني وتصرفاتهم أقرب إلى العقل والمنطق والانتماء الاجتماعي – الطبقي. وهم دوما في المقدمة.. مقدمة المعارك.. هذا ليس إطلاقا تطهير للثورة، ولكنه رصد هام لقدرة الواقع على التغيير. وتزامنا مع ذلك لاحظنا أن هناك برنامجا يوميا يوزع على وسائل الإعلام التابعة للنظام بشقيه العسكري والديني، ثم ينتقل هذا البرنامج إلى سائقي التاكسي بالذات ومعهم المخبرين المندسين بين المتظاهرين. وأكثر ما لفت نظري هو تناول سائقي التاكسي والمخبرين ل "الفودى الخلاكة". فكل الحوارات معهم تنتهي بأن: "يا بيه، العيال دي شغالة تبع موجة الفودى الخلاكة بتاعة أمريكا والبرادعي. أصلهم عاوزين يدربكوها ويهدموا النزام والكوات المسلحة. إحنا عارفينهم كويس". هذا الكلام ليس له علاقة إطلاقا بالسخرية من سائقي التاكسي والمخبرين. ولكنه مرتبط بكيفية عمل وسائل الإعلام الحكومية التي تفرغ المصطلحات من مضمونها ثم توجهها في اتجاهات أخرى، وتسلمها إلى فئات بعينها ليحدث تناغم مثير للسخرية بحق. ففي الوقت الذي يتحدث فيه العاملون في وسائل الإعلام تلك عبر الصحف والشاشات عن "الفوضى الخلاقة" وأضرارها بصحة العسكر والإخوان ومن ثم هدم الدولة، نرى المخبرين وسائقي التاكسي يظهرون "سكافة" واسعة في تفسير "الفودى الخلاكة وهدم النزام والكوات المسلحة". ما يحدث أعلاه يترافق بدرجات مع أكبر موجة للشعوذة في تاريخ مصر، لا يضاهيها إلا الشعوذة السياسية والدينية في المرحلة الفاصلة بين الخلافتين الأموية والعباسية، وفي أوقات بعينها أثناء وجود الأخيرة. وكذلك في عصور الظلام في أوروبا. مصر تعيش عاما كاملا من الشعوذة العسكرية والسياسية والأمنية والتشريعية والدينية والروحية. ولأن اللغة العربية هي لغة شعوذة أصلا، فمن الطبيعي أن تتشيطن هذه اللغة عندما يستخدمها المشعوذون سواء كانوا من العسكر أو الإخوان والسلفيين أو من العاملين في وسائل الإعلام الحكومية التابعة لهم. كما أن العقل الجامد – المحافظ والرجعي مهيأ تماما لاستقبال خطاب الشعوذة ليتم شيطنة وعفرتة كل ما يجري في أرض مصر. وبالتالي اخترع المصريون لغتهم الخاصة لعرقلة تيارات الشعوذة. وهو ما يتجلى حاليا في لغة الخطاب بين الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، وبينهم أثناء مواجهة قوات الأمن والقنابل المسيلة للدموع وطلقات الخرطوش، وفي التعليقات والنكات والقفشات. لدرجة أن الكتابة الأدبية تحاول اللحاق بذلك ولكن دون جدوى إلى الآن. لكن إذا أمعنا النظر والتأمل قليلا فيما يحدث، سنكتشف ببساطة أن الشعوذة تأخذ أشكالا مختلفة من جانب العسكر والإخوان والسلفيين ووسائل الإعلام الحكومية والمخبرين وأصحابهم وإخوانهم، بينما المتلقي يبدي استجابة ظاهرية لهذه الشعوذة، لأنه لا ينسى، كما نتصور نحن أن المصريين ينسون بسرعة، كل ما قاله المشعوذون في السابق. بل ويقارن في خبث بين المواقف السابقة والحالية ويتوقع بشكل أكثر خبثا ما سيفعلونه. هؤلاء هم المصريون.. المصريون الذين يقولون للمشعوذين: "هه وبعدين. هاتوا من الآخر!". وفجأة بدأ التنسيق للعصيان المدني أو الإضراب العام، ثم الإعلان عنه والتمهيد له. وبدأ المؤذن يؤذن للصلاة في مجلس الشعب، وأعادت قوات المجلس العسكري انتشارها في المدن، ومليشيات الإخوان مستعدة للدفاع عن إخوانها ضد المصريين المخربين الذين يريدون هدم "النزام ونشر الفودى الخلاكة". بينما الدعاية بكل الوسائل تجري من جانب وسائل الإعلام الحكومية للعصيان المدني وإن كان ذلك بالتحريض ضده وضد المصريين الذين سيبدأوه وسيواصلونه بطرقهم الإبداعية المتطورة يوما بعد آخر. وشرع العسكر والإخوان والأزهر والكنيسة يحذرون وينذرون في هلع وشعوذة غير مسبوقين. وبعيدا عن كل ذلك بدأت بالفعل الاستجابة الفورية منعكسة في خفة الظل لمحصلي فواتير الغاز والكهرباء وتبادل النكات والتعليقات مع مواطنيهم المصريين في البيوت والمحلات التجارية. إذن، الإضراب العام يبدأ على الطريقة المصرية، وهو ما سيقابله وابل من الشعوذة والعنف اللغوي والجسدي والاتهامات والتكفير. لقد قلنا في السابق إن الإخوان المسلمين والسلفيين ومن لف لفهم لم ولن يكونوا الإسلام. وقلنا إن المجلس العسكري لم ولن يكون هو جيش مصر. وقلنا إن المصريين يتوخون الدقة في أمرين هامين ورئيسيين، ألا وهما سلمية الثورة والتغيير الجذري والوقوف بشكل مطلق في مواجهة أي تدخل أجنبي على أرض الكنانة. انتهت الرسالة، ومن لا يفهم فعليه أن يتمعن قليلا في تصرفات العسكر وتيار الإسلام السياسي التي تخيرنا: "إما نحن أو الحرب الأهلية ثم التدخل الأجنبي" بعد أن خيرنا رئيسهم السابق – الحالي: "إما أنا أو الفوضى". في هذه الحالة سيكون العسكر والإخوان جزء لا يتجزأ من أي عدوان خارجي على شعب مصر وأرض الكنانة، لأنهم هم تحديدا الذين يستفزون الأحداث ويدفعون بها في هذا الاتجاه بالذات. وهم بالذات الذين سمحوا بدخول فلول أفغانستان وكوسوفو بالآلاف بعد 25 يناير 2011 إلى مصر. وهم الذين يغمضون عيونهم عن نشطاء السلفية الجهادية وحزب التحري الإسلامي الذين يعملون بنشاط منقطع النظير الآن. كما أن ردود أفعالهم العنيفة التي تتسم فعلا بالشعوذة والمجون والاستهتار تأتي متأخرة أو خرقاء أو كلا الأمرين، متصورين أنهم يلعبون الورق أو يمارسون مناورات سياسية وأمنية. وكل ما في الأمر أنهم يلعبون بمصير البلاد والعباد، وبمصائرهم. والأخيرة لا تهمنا في أي حال من الأحوال. ورغم كل ذلك، فلا أحد يصادر، على من تبقى لديه ذرة من ضمير، أن ينضم إلى الفريق الرابح المتأني طويل البال. وعلينا أن نكون حذرين قليلا في التصنيفات وردود الأفعال المتعجلة والتعميم. فإذا كنا سنعمم محاكماتنا على شعوب بأكملها (معنا أو ضدنا) سنقع في فخ نعاني نحن منه. فقد ظللنا سنوات طويلة نوضح للعالم، كل من موقعه، أن شعب مصر ليس بهاليل ومشعوذين يسيرون في جلابيب بلحي وذقون ومسابح.. قلنا إن مصر فيها كل الأطياف السياسية والفكرية والدينية من الليبراليين والوطنيين والقوميين واليساريين والفوضويين والإخوان والسلفين والجهاديين والمشعوذين والانتهازيين.. مصر مثل أي دولة أخرى فيها كل شئ. ولكن مجتمعات كثيرة أخطأت في حقنا وكان الهدف هو تأطيرنا في شكل إبل وماعز وخرفان وذقون وإرهابيين بالجنازير والأسلحة البيضاء.. فإذا عممنا ضد الآخر، سيعمم هو بدوره ضدنا، وسنقع في فخ لسنا بحاجة إليه وليس هو أصلا هدف من أهدافنا. هذا الكلام موجه لنا نحن في المرتبة الأولى لكي نعي الدرس قبل فوات الأوان. أعرف أن طلقة الرصاص والخرطوش والمشاركة الرائعة للمتظاهرين في كل معاركهم قد تميز هذا عن ذاك، ولكن يجب ألا تفرق بينهما أو تكون نوعا من أنواع المزايدة وتضخم الذات. فأهلا بكَ أو بكِ بطلقات الخرطوش في جسدِكَ أو جسدِكِ، فنحن نفخر بشهدائنا وجرحانا ومصابينا، لأنهم جسرنا إلى الحرية والمستقبل. ولكن إذا تصورتَ أو تصورتِ، في لحظة تضخم ذات ما، أن الثورة ملك لكَ أو لكِ فسنقع جميعا في الفخ. فتضخم الذات في الثورات أخطر بكثير من المنطقة الرمادية التي يحاول أعداء الثورة توريطنا جميعا فيها. وسائل الإعلام من كل حدب وصوب تتنسم أخباركم وأخباركن وتفاصيل بطولاتكم وبطولاتكن، فلا داعي للتعميم أو التشكيك وردود الأفعال السريعة، لأننا سنكون في هذه اللحظة أشبه بسائقي التاكسي والمخبرين وهم يتحدثون عن "الفودى الخلاكة". والمسألة مسألة مواقف بالضبط مثل مواقف العسكر وتيار الإسلام السياسي وأجهزة الإعلام الحكومية والساسة المخرفين من كبارالسن الواضحة والمفهومة والمتطرفة ضد الثورة والثوار، لا معاداة وسائل إعلام تابعة لهذه الدولة أو تلك من الدول التي لا تعجبكَ أو تعجبكِ مواقفها.