في المقالين السابقين .. أوضحت كيف أن البرلمان القادم سوف يكون منزوع الصلاحيات بموجب الإعلان الدستوري الذي يكرس كل السلطة في يد المجلس العسكري ولا يترك للبرلمان سوى التنافس مع الدكتور عصام شرف على لقب خيال المآتة .. وأوضحت كيف أن المعطيات الفعلية للعملية الإنتخابية لا يمكن أن تؤدي إلى أن توصف الإنتخابات القادمة بالنزاهة والشفافية .. ولكن إذا كان البرلمان بدون سلطات على الإطلاق .. فمن المستفيد من وجوده ومن الذي سيقوم بعملية التزوير ولصالح من في الواقع فإن المستفيد الواضح والوحيد من العملية الإنتخابية برمتها في الوقت الحالي هو المجلس العسكري .. فهو الذي يصر على استمرار حالة السيولة السياسية وإطالة المرحلة "الإنتقامية" التي تكرس من سلطاته المطلقة في حكم البلاد .. وفي نفس الوقت فهو يبحث عن أي شرعية حقيقية تستطيع أن تسند ظهره أمام القوى السياسية المتململة والشارع الساخن والمجتمع الدولي الذي يريد خطوات (ولو شكلية) في طريق الديمقراطية .. المجلس العسكري يدرك أنه يحكم البلاد بقوة الأمر الواقع وليس بشرعية دستورية أو إنتخابية مستقرة أو حتى شرعية ثورية طارئة .. ولذلك لن يكون غريبا (على من إعتبر أن التصويت بنعم في الإستفتاء على التعديلات الدستورية هو تصويت لشرعية المجلس) .. لن يكون غريبا أن يعتبر إنتخابات البرلمان تصويتا آخر للمجلس العسكري ولشرعيته .. ولذلك فالمجلس العسكري يسعى لإتمام الإنتخابات بأي شكل وأي صورة مهما بدت معيبة أو "مسلوقة" أو مطعون في صحتها بألف طعن قانوني .. المهم أن تتم .. وسوف تتم .. وأتصور أن التخوف الشعبي من حمامات من الدم سوف تحملها المنافسة الإنتخابية لن يتحقق على أرض الواقع لأن الآلة الأمنية الحكومية بشقيها الشرطي والعسكري قادرة (إذا أرادت) أن تفرض الأمن الصارم طوال فترة الإنتخابات المجلس العسكري لن يستفيد فقط من الشرعية التي سيكتسبها من مجرد إتمام الإنتخابات .. ولكنه استفاد بالفعل فائدة أخرى شديدة الأهمية وهي تشتيت وإنهاك القوى السياسية المعارضة له والمنادية برحيله في معركة إنتخابية طويلة تستمر لشهور .. وجميع القوى السياسية مجبرة على الدخول في هذه المتاهة الإنتخابية ليضيع الزخم الثوري الذي تستند إليه في الشارع ويتنافس أهل الميدان مع بعضهم كما يتنافسوا مع القوى الأخرى في صراع يسحب من رصيدهم ويفرق كلمتهم ويمنعهم من التوحد والضغط المباشر والمستمر نحو حلم الدولة المدنية ورحيل العسكر عن سدة السلطة وهناك فائدة ثالثة شديدة الأهمية للمجلس العسكري سوف يجنيها من الإنتخابات حيث سيعتبر بعدها أن الشرعية قد نزعت عن ميدان التحرير وسوف يتنافس كتاب السلطة ومحللو التوك توك شو في إعتبار أي دعوة للتظاهر بعد الإنتخابات هي عمل فوضوي يجب الوقوف ضده بحسم غاشم .. وسيبدأ الترويج لعمليات قمع حقيقي للناشطين الذين سيظلون حاملين لمطالب الثورة التي تخلى عنها المجلس العسكري والنخبة السياسية التي يصنعها الآن أما عن الطعون والثغرات القانونية الواسعة التي تحيط بعملية إجراء الإنتخابات والتي يمكن أن تلغي نتائجه في أي وقت فهي أيضا فائدة إضافية يجنيها المجلس العسكري وتمنحه الفرصة لإستمرار حالة السيولة السياسية وإطالة المرحلة "الإنتقامية" لأطول مدى ممكن وإذا كنت قد أعربت عن قلقي الشديد في المقالين السابقين من عمليات تزوير واسعة سوف تجرى في الإنتخابات فلا أعتقد أن المجلس العسكري سوف يتورط في هذه العمليات ولكنه في نفس الوقت لن .. فهو لن يتوقف أمام الممارسات التي ستقوم بها أطراف من الفلول والعصبيات والبطجة المنظمة والقوى الدينية لشراء الأصوات أو ترهيب المنافسين أو اللعب على العواطف الدينية .. قد تزيد هذه التجاوزات تجاه ناشطين بعينهم لا يرتاح أهل السلطة العسكرية لوجودهم تحت قبة البرلمان ولكن سوف تبقى هذه حالات محدودة .. فأهل السلطة لا يريدون تلطيخ أيديهم بعمليات تزوير واسعة على الطريقة الغبية التي مارسها أحمد عز وجمال مبارك .. فقد كان عز وجمال يريدان السيطرة بالكامل على البرلمان .. أما العسكر فلا يريدون السيطرة على البرلمان الوهمي منزوع السلطات وهم أصلا ليسوا طرف فيه .. يكفيهم جدا ألا يمتلك أي تيار أو حزب أو كتلة أغلبية واضحة داخل البرلمان .. ويكفيهم جدا أن تبدو القوى السياسية التي قادت الثورة وشاركت فيها وكأنها لا تمتلك الشعبية الحقيقية في مواجهة فلول النظام السابق .. ويكفيهم جدا أن توجد بعض الأصوات العبثية الزاعقة تحت قبة البرلمان بحيث تنشغل برامج التوك توك شو بغرائب من نوعية أن عضو المجلس فلان الفلاني يطالب بتقنين زواج الشواذ أو عضو المجلس علان العلاني يطالب بهدم أبو الهول وباقي الأوثان التي أقامها الفراعنة الكفار .. وطبعا سوف ينشغل الشارع بمثل هذه التفاهات عن القضية الحقيقية الوحيدة الهامة في الحياة السياسية وهي : "متى وكيف سيسلم العسكر السلطة بشكل حقيقي إلى المدنيين"