لأول مرة منذ سنوات طويلة سيطل العمود الأخير في الصفحة الأخيرة في الأهرام شاغرا على قراء الجريدة العتيقة، فقد رحل أمس الكاتب الكبير أنيس منصور، بعد آلاف الأعمدة، وآلاف المواقف، والاشتباكات، والاقتراب من السياسة والاحتراق بنارها، وعشرات الكتب والمقولات الساخرة حول المرأة والحياة. "مواقف" أنيس منصور السياسية تستوجب الخلاف حولها، لكن "مواقف" عموده اليومي في الأهرام كان يستحق القراءة، خاصة مع سيل الحكايات المترابطة والمتشابكة الذي كان ينهال يوميا بشكل ثابت في نفس المكان، والذي كان يترك أحيانا في نفس القارئ سؤالا ما الذي كان يريد أن يقوله، خاصة أنه يبدأ بحكاية وينتهي بأخرى، دون رابط أحيانا، لكن ربما يبدو الأمر تدفقا كبيرا للأفكار من ذهن الكاتب الذي كان يكتب يوميا أكثر من عمود في أكثر من صحيفة مصرية وعربية. ولد أنيس محمد منصور يوم 18 أغسطس 1924 ، في إحدى قرى مدينة المنصورة، حفظ القرآن الكريم في سن صغيرة في كُتّاب القرية وكان له في ذلك الكُتّاب حكايات عديدة حكى عن بعضها في كتابه عاشوا في حياتي، وفي دراسته الثانوية كان الأول على كل طلبة مصر حينها، ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة برغبته الشخصية، دخل قسم الفلسفة الذي تفوق فيه، وحصل على ليسانس آداب عام 1947، وعمل أستاذا في القسم ذاته، لكن في جامعة عين شمس لفترة، ثم تفرغ للكتابة والعمل الصحفي في مؤسسة أخبار اليوم والإبداع الأدبي في شتى صوره. بدايته الصحفية كانت في مؤسسة أخبار اليوم، ثم مالبث أن تركها وتوجه إلى مؤسسة الأهرام في مايو عام 1950 حتى عام 1952، ثم سافر إلى أوروبا، وفي ذلك الوقت قامت ثورة 23 يوليو 1952، ظل يعمل في أخبار اليوم حتى تركها في عام 1976 ليكون رئيسا لمجلس إدارة دار المعارف، عمل رئيسا لتحرير العديد من المجلات منها: الجيل، هي، آخر ساعة، أكتوبر، العروة الوثقى، مايو، كاريكاتير، الكاتب. كانت حياته الصحافية حافلة، وهي التي أدخلته جنة السياسة، فقد كان قريبا من الرئيس الراحل أنور السادات، وظل أنيس منصور يروي حكاياته مع السادات في عموده في الأهرام طوال الوقت، لكن ربما كان قربه من السادات، هو السبب في أنه أصبح واحدا من أشهر المطبعين في مصر، يتحدث دائما عن أصدقائه اليهود، ويدافع عن اتفاقية السلام، ويروي ذكرياته في كامب ديفيد، لكن يبدو أن لعنة السادات ظلت تطارده حتى قرر أن يطلقها تماما، ففي السنوات التي كانت مصر تمر فيها بأيام حاسمة، كان يخرج في عموده في الأهرام أو الشرق الأوسط، ليتحدث عن حكاياته، وذكرياته، ولعنة الفراعنة. ظل أنيس منصور في كتاباته صديقا للسادات يدافع عنه، بنفس القدر الذي يهاجم به الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، في حين ظل صامتا تماما على نظام مبارك، وربما يبرر هذا أنه حصل على العديد من الجوائز أيام مبارك، لكن بعد سقوط النظام السابق، خرج أنيس منصور في حوار على جريدة أخبار اليوم وفتح "صندوقه الأسود"، ليصرف مبارك بأنه "حرامي وطني" ، معتبرا أن مبارك لم يكن زعيما وورث ثروة مصر بدون أي مجهود مثله مثل واحد يجلس بجوار سائق تاكسي وفجأة ضرب هذا السائق بالنار فأخذ مكانه، لقد تسلم مصر جاهزة فلم يقل شيئا ولم يفعل شيئا فقط رفع العلم على طابا، وعن سوزان ثابت قال إنه جلس معها 17 جلسة باحثا عن جوانب تستحق الكتابة عنها فاكتشفت إنها "فاضية" و"ماعجبتنيش". وربما لهذا السبب عرف أنيس منصور بفيلسوف الصحافة، ومقولاته عن المرأة والحياة، التي كان ينشرها كل جمعة في عموده الأهرامي، لكن ربما كان الحدث الأكبر في حياته الفلسفية هي التي نجمت عن علاقته بالكاتب الكبير عباس العقاد، والذي حكى عنه، في كتابه "في صالون العقاد كانت لنا أيام"، لكن أنيس منصور لم يكتب في الفلسفة فقط، فقد اشتهر أيضا بكتابته في أدب الرحلات، وله في هذا المجال العديد من الكتب، منها " حول العالم في 200 يوم، بلاد الله لخلق الله غريب في بلاد غريبة، اليمن ذلك المجهول، أنت في اليابان وبلاد أخرى، أطيب تحياتى من موسكو، أعجب الرحلات في التاريخ". اشتهر أيضا أنيس منصور بالكتابة في الغيبيات والخرافات والقوى الخارقة، وله العديد من الكتب فيها مثل أرواح وأشباح، و الذين هبطوا من السماء، والذين عادوا إلى السماء، ولعنة الفراعنة. كان أنيس منصور من الكتاب ذوي العادات الغريبة، فهو لم يكن ينام إلا لماما، ويحكي دائما أنه إذا نام نصف ساعة في اليوم فهو أعظم ما يمكن فعله، كما أنه كان يقوم ليكتب في الرابعة صباحاً، ومن عاداته أيضا أن يكون حافى القدمين ومرتديا البيجاما وهو يكتب. أشهر أعماله، الكبار يضحكون أيضا، نحن أولاد الغجر، الوجودية، يسقط الحائط الرابع، كرسي على الشمال، وشارع التنهدات، والرئيس قال لي وقلت أيضا، لعل الموت ينسانا، وعبدالناصر المفترى عليه والمفترى علينا، إلا فاطمة، ووجع في قلب إسرائيل، كما ترجم أكثر من 9 مسرحيات بلغات مختلفة وحوالى 5 روايات، و 12 كتاب لفلاسفة أوروبيين.