إثيوبيا تغرق.. سيول وفيضانات عارمة تشرد آلاف الأسر    سعر الريال السعودى اليوم الجمعة 3-10-2025.. المتوسط 12.68 جنيه للشراء    المجلس القومى للمرأة يشارك بجناح متميز في معرض "تراثنا 2025"    وزير البترول يبحث مع بتروناس الماليزية تعزيز الشراكة الاستراتيجية بمجال الغاز الطبيعي    وزيرة التخطيط تلتقى المبعوث الرئاسى الكورى خلال فعالية الاحتفال باليوم الوطنى لكوريا    انطلاق أسطول الحرية نحو غزة بعد "الصمود"    استشهاد 5 فلسطينيين بينهم أطفال في قصف إسرائيلي لخيام النازحين بميناء غزة    "يونيسف": الحديث عن منطقة آمنة فى جنوب غزة "مهزلة"    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025 والقنوات الناقلة    حالة الطقس غدًا السبت 4 أكتوبر 2025 .. أجواء خريفية ودرجات الحرارة المتوقعة    تحريات لكشف ملابسات تورط 3 أشخاص فى سرقة فرع شركة بكرداسة    المخرج عمر عبد العزيز: ليلى علوى حالة خاصة ونسمة فى مواقع التصوير    موعد شهر رمضان 2026 .. تعرف على أول أيام الشهر الكريم    عشان أجمل ابتسامة.. بسمتك دواء مجانى ب 8 فوائد اعرفها فى يومها العالمى    بالصور.. قائمة الخطيب تتقدم رسميا بأوراق ترشحها لانتخابات الأهلي    صلاح يشارك في الترويج لكرة كأس العالم 2026    وزير الرياضة يشيد بتنظيم مونديال اليد.. ويهنئ الخماسي المصري على الأداء المميز    نائب بالشيوخ يشيد بمشروع مستقبل مصر ويؤكد دوره في توفير فرص العمل وتعزيز التنمية المستدامة    ضبط 295 قضية مخدرات و75 قطعة سلاح ناري خلال 24 ساعة    القبض على المتهمين في مشاجرة «أبناء العمومة» بالمنيا    ابنة الملحن محمد رحيم تعاني وعكة صحية وتخضع للرعاية الطبية    خاص| ميمي جمال تكشف تفاصيل شخصيتها في فيلم "فيها إيه يعني"    محمد رمضان ينافس على جائزة Grammy Awards    لاورا ريستريبو: غزة كشفت سوءات القيم الغربية    أسماء محافظات المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    محافظ المنوفية: 87 مليون جنيه جملة مشروعات الخطة الاستثمارية الجديدة بمركزي تلا والشهداء    حزب العدل يعلن استعداده للانتخابات ويحذر من خطورة المال السياسي بانتخابات النواب    تعرف على جهود الأجهزة الأمنية بالقاهرة لمكافحة جرائم السرقات    الأونروا تنتصر قضائيا في أمريكا.. رفض دعوى عائلات الأسرى الإسرائيليين للمطالبة بتعويضات بمليار دولار    إدارة مسار تشدد على ضرورة الفوز أمام الأهلي.. وأنباء حول مصير عبد الرحمن عايد    محمد صلاح على موعد مع التاريخ في قمة ليفربول وتشيلسي بالبريميرليج    طائرة مسيّرة إسرائيلية تلقي قنبلة صوتية قرب صياد لبناني في الناقورة    الليلة.. ختام وإعلان جوائز الدورة ال21 من مهرجان مسرح الهواة بالسامر    وزير الخارجية يلتقي سفراء الدول العربية المعتمدين لدى اليونسكو لدعم ترشيح خالد العنانى    دار الكتب والوثائق القومية تحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة    مجلس الإدارة ينضم لاعتصام صحفيي الوفد    جامعة قناة السويس تواصل دعم الحرف اليدوية بمشاركتها في معرض تراثنا الدولي    إجراءات وقائية تجنب طفلك عدوى القمل في المدارس    نجاح أول جراحة قلب مفتوح بالتدخل المحدود داخل مستشفى النصر في بورسعيد    الداخلية تواصل ضرباتها ضد المخالفات بضبط 4124 قضية كهرباء و1429 بالمواصلات    تكريم 700 حافظ لكتاب الله من بينهم 24 خاتم قاموا بتسميعه فى 12 ساعة بقرية شطورة    حكم البيع الإلكترونى بعد الأذان لصلاة الجمعة.. الإفتاء تجيب    ضبط شبكات تستغل ناديا صحيا وتطبيقات إلكترونية لممارسة أعمال منافية للآداب    سعر بنزين 92 اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025 فى محطات الوقود    اليوم العالمى للابتسامة.. 3 أبراج البسمة مش بتفارق وشهم أبرزهم الجوزاء    «العمل» تحرر 6185 محضرًا بتراخيص عمل الأجانب خلال 22 يومًا    استشاري تغذية علاجية: الأضرار المحتملة من اللبن تنحصر في حالتين فقط    الصين تدعو لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    الزمالك يختتم تدريباته اليوم استعدادًا لمواجهة غزل المحلة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 3-10-2025 في محافظة قنا    الفيضان قادم.. والحكومة تناشد الأهالي بإخلاء هذه المناطق فورا    ترامب يستغل الإغلاق الحكومي لشن عمليات فصل وعقاب سياسي    «كوكا حطه في جيبه».. أحمد بلال ينتقد بيزيرا بعد مباراة القمة (فيديو)    سورة الكهف يوم الجمعة: نور وطمأنينة وحماية من فتنة الدجال    بالصور.. مصرع طفلة وإصابة سيدتين في انهيار سقف منزل بالإسكندرية    مختار نوح: يجب محاسبة محمد حسان على دعواته للجهاد في سوريا    فلسطين.. غارات إسرائيلية على خان يونس وتفجير مدرعات مفخخة    «هيدوب في بوقك».. طريقة سهلة لعمل الليمون المخلل في البيت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنيس منصور...أحب الفلسفة وتزوج الصحافة
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 10 - 2011

لم يكن أنيس منصور كاتبا عاديا‏,‏ ولم يكن إنسانا عاديا ولا صديقا عاديا‏..‏ بقدر ما أحب الناس كتاباته بقدر ما أثارت من الجدل والنقاش‏..‏ وبقدر ما عاش حياته كإنسان عادي بقدر ما حرك الكثير من المياه في بحيرات راكدة‏.. أما أنيس منصور الإنسان فقد جمع في شخصيته كل متناقضات الفنان بما فيها من الدهشة والتساؤل والقلق.كان أنيس منصور من قلة قليلة جدا من الكتاب الذين جمعوا رصيدا غير مسبوق من القراء.. امتدت رحلته في أكثر من مكان وأكثر من جريدة ومجلة وبقي فيها جميعا يحتل الصدارة دون منافس في بساطة أسلوبه وتنوع كتاباته ومواقفه التي اختلف الناس عليها أو اتفقوا ولكنها كانت دائما تحمل الجديد المثير والمبهر.
برغم علاقته الوطيدة بالأستاذ العقاد إلا أنه اختلف تماما عنه في الأسلوب وطريقة التفكير والاقتراب الشديد من الناس اختار العقاد استاذه ان يعيش في برج عاجي يتحدث من خلاله إلا أن أنيس منصور اختار أن يجلس في الشارع بين البسطاء والفقراء والمهمشين.. كان اسلوب العقاد غاية في العمق والرصانة وجاء أسلوب أنيس منصور ليكون نسمة باردة في صحراء قاسية.. وبدأ أنيس منصور حياته في رحاب الفلسفة وانتهت به الرحلة في شوارع الفن..
وبقدر ما أحب العقاد بقدر انبهاره بطه حسين برغم الخلاف الشديد بين العقاد وطه حسين.. كان أنيس معجبا بطه حسين الدور والمكانة ومبهورا بالعقاد العقل والفيسلوف.. واختار أنيس بينهما زمنا طويلا وان بقي علي تقديره للاثنين وان كان إلي العقاد أكثر انتماء وولاء وسكنا.
تنوعت كتابات أنيس منصور وان بقي فارس العمود الصحفي الذي احتل المقدمة دائما في كل موقع كتب فيه.. في عمود أنيس مواقف ظهرت كل قدرات الكاتب المتميز في اسلوبه وعرضه وقضاياه.. كان من الممكن أن تجد في عمود أنيس منصور نسمة جميلة عابرة وربما تجد قضية أقرب للكارثة.
ومع الصحافة في عصرها الذهبي عاش أنيس منصور أزهي مراحل تألقه كصحفي من طراز رفيع.. في مجلة الجيل وآخر ساعة وآخر أبنائه مجلة أكتوبر.. وكان أنيس منصور قادرا علي أن يكتب مجلة كاملة ابتداء بالقصص والنوادر وانتهاء بالأزياء..
وبعيدا عن ساحة صاحبة الجلالة عاش أنيس منصور عاشقا للسفر.. والغريب أنه لم يشعر يوما أنه ضاق من السفر.. كان علي سفر دائم وكانت حياته رحلة امتدت بين قارات العالم شرقا وغربا.. وكان كتابه حول العالم في200 يوم أشهر كتب الرحلات في الأدب العربي المعاصر وقد طبع هذا الكتاب عشرات الطبعات.
وكانت قصص أنيس منصور ذات أسلوب وطابع خاص وكانت لديه طريقة خاصة في رسم شخصياته فلم يكن يعبأ كثيرا برسم الأحداث ولكن كان أكثر إهتماما برسم الأحداث, ولكن كان أكثر اهتماما برسم نزعات البشر الذين لم يكن يثق فيهم كثيرا..
وكان أنيس مترجما بارعا واستطاع أن يقدم أعمالا مسرحية كثيرة لدورنمات وسارتر وان كان الأخير قد ترك بصمة عميقة في مشوار أنيس في فترة من حياته مع الفلسفة الوجودية.
كان من الممكن أن يكون أنيس منصور صاحب نظرية فلسفية عندما تتلمذ علي يد د.عبدالرحمن بدوي ثم سارتر وقبلهما عباس العقاد ولكن أنيس اختار أن يعيش بين الناس وان بقيت الفلسفة مزارا عزيزا لديه..
لم يكن أنيس منصور يحب الصحافة ولا أعتقد أنه تمني يوما أن يحشر مع فرسان صاحبة الجلالة فقد أحب الفلسفة وتمني يوم أن يكون فيلسوفا واختار أن يكون فيلسوف الصحافة لقد أحب الفلسفة وتزوج الصحافة.
عاش أنيس منصور مع جيل الرواد في العمل الصحفي محمد التابعي وعلي أمين ومصطفي أمين ومحمد حسنين هيكل وجلال الدين الحمامصي وشارك معهم في صياغة أزهي عصور الصحافة المصرية..
وفي بلاط السياسة عاش أنيس منصور فترة طويلة من الخوف والقلق والانتصار.. لم تكن تجربته مع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر كما أحب.. وان اقترب كثيرا من الرئيس السادات وأصبح من أقرب الكتاب إليه, خاصة في أهم أحداث حياته وهو انتصار أكتوبر واتفاقية السلام مع إسرائيل واعتقد أن أنيس كتب كل هذه الأحداث في مذكراته.
وفي تقديري أن رحلة أنيس منصور مع السلطة في ظل الرئيس السادات كانت من أزهي وأجمل فترات حياته الشخصية فقد استمتع فيها برحلته مع السادات الذي أحبه كثيرا..
لم يكن أنيس منصور إنسانا عاديا في حياته فقد تأثر كثيرا برحلته مع الحياة ومع الناس وأن بقي طوال الوقت مشغولا ومهموما بشيء واحد هو أنيس منصور نفسه.. لم ينجب أبناء برغم حبه المجنون وعشقه للأطفال وكانت ثقته بالناس قليلة وقليلا ما كان يصدقهم..
كان أنيس إنسانا حزينا برغم كل الضحكات التي كان يطلقها من حوله وقد أخذ الكثير من حزن كامل الشناوي والكثير أيضا من قفشاته وسخريته..
عرفت أنيس سنوات طويلة وكان دائما ودودا مجاملا مع اصدقائه وكانت معارفه كثيرة جدا وما أقل صداقاته الحقيقية.. وكانت حكايات أنيس منصور تملأ أي مكان يجلس فيه.. وكان دائما بشوشا ضاحكا حتي في أشد مراحل حياته ألما.. لقد تألم كثيرا في رحلته مع المرض في السنوات الأخيرة وظل حتي آخر لحظة يمسك بالقلم ومات هو يكتب..
سوف افتقد أنيس منصور صديق العمر الجميل ووحدا من جيل عظيم أعطي لهذا الوطن بريقا وجلالا واعطي لصحافة مصر الدور والريادة..
أطول سطر في الصحافة العربية
سهير حلمي
الدمع يفيض وزفرات الحزن تتعاظم.. كل شيء متشح بالسواد..حمل الناعي نبأ الفاجعة... آه من لوعة الأسي والفراق.. صانع المسرات من له من اسمه نصيب. لا أصدق أن جسدك الآن مسجي في لون النقاء.
هكذا أنت دائما علي عهدك يا أستاذ صادق الحدس عميق الرؤية.. صاحب دمع دفين لاتخفي سرائره عن محبيه.. آثرت أن تنعي نفسك في مقالك يوم الخميس الماضي.
شاهدتك صباح الأحد وقد انسحب الضياء من وجهك وبدا كل شيء خاليا من المعني لكنني منيت النفس بأنك ستتعافي وستقاوم بإرادتك الصلبة طائر الموت الذي كان يحلق في المكان ويغلفه برائحة صمت كئيب.. نعيت نفسك وآثرت ان تستمر تكتب حتي آخر العمر ايمانا منك بان الاشجار تموت واقفة.. وكنت جميزة مصر التي استظل بظلها الكبار والصغار علي الدوام وفي آخر عمرها كان تجود بأطيب الثمار.. آمنت بان نور العلم وضاء يغني النفس ويجعل الانسان سيد نفسه.. فالعالم وصاحب المعرفة والخبرة( عراف) يسبر أعماق الحياة, وزرقاء يمامة يستشرف الغد. تلميذ العمالقة من ورث العلم كابرا عن كابر( العقاد وطه حسين والمازني لويس عوض ومحمود تيمور) كنت متعة للآذان وراحة للعقل وواحة للفكر وواحدا من أبرز أدباء ومفكري مصر في القرن العشرين.. علمتني ان ادحر الصعاب وحين تعرفت عليك كنت نبتة صغيرة لاتلفت العين لكنك لم تستصغرها, وبأبوة واستاذية مفرطة وجهت وارشدت ثم نظرت ما ستصير إليه.. عهدناك دوما فياضا سلسلا رقراقا في كتاباتك.. بيانك دائما ملك بنانك.. لايستعصي عليك أمر.. لم ترتد يوما الا ثياب الناس.. لذلك سميتك( فيلسوف البسطاء) إذا كان في القوم وليس اميرهم كان كأنه اميرهم واذا كان اميرهم كان كأنه رجل منهم.. كان لك قلب شاعر تتراءي فيه الكائنات جميعا.. واذا أعوزتك السعادة فتشت عنها بداخلك, علمتنا ان الشخص يفني والمبدأ باق. والاديب يموت ولكن أدبه لا ينمحي.
كاتب المقال والقصة القصيرة والمسرحية.. جاءت النهاية في اثرها المركز وحسمها مثل الرصاصة التي تطلق من علي بعد قليل فتصيب الهدف في مسرحيات الفصل الواحد.. صاحب النكات والقفشات والمقالب الطريفة والأساطير والقصص وحكايات الشعوب وموضوعات الساعة وأخبار العالم وقصص التراث العربي والاصفهاني والجاحظ وابن طفيل.. ستظل كتاباتك إلي أمد طويل كنزا من الأفكار الفلسفية المبسطة التي تفسر العديد من تعقيدات الحياة وجوانبها الانسانية.. تخففت من الفلسفة وكنت أكثر سخاء في كتاباتك وسيرتك الذاتية التي تحمل طبيعة( الاعترافات) بصورة لم تتكرر كثيرا في أدبنا العربي عمقت موهبتك وزرعتها في أرض خصبة, أرض الصحافة اليومية المتجددة.. لكنك كنت تبذر أحيانا في ميادين شتي علي أوسع نطاق.. سريع الخاطر حاد الذكاء.. شديد البساطة, من كان يعتقد ان البلاغة هي تسامي الفكرة في الثوب البسيط كنت مثل مانعة الصواعق التي لاتسلمنا لليأس وتحمينا من الاحباط. لم نشهد لك سنوات عجاف.. ولكنك كنت أطول سطر في الصحافة العربية.
سألتك لماذا تعيد بعض المعاني, وتكرر بعضها في الكثير من كتاباتك أجبتني ان الحياة قائمة علي التكرار, فأوراق الاشجار متشابهة والفنان أو المفكر مثل البلبل لديه لحن واحد لكنه يعزفه بنغمات مختلفة. وكذلك المفكر وقلت انك تستحضر المعني من زوايا مختلفة.. والأديب في كل مرة يكتب يضيف إلي الفكرة ويطورها ولو بصورة طفيفة.. فالفنان لايقول كلمته ويمضي ولكنه دائما مايعود إليها ويروض أسلوبه ليحتفظ بحيوية العبارة والمعني وكنت دوما متوهجا.. نافذا.. تنتسب لمدرسة التعبيريين في الفن علي حد قولك, فانت تعبر بالنقاط المتجاورة والمنمنمات.. فجملك قصيرة.. ومعظمها يتحول لعبارات مأثورة لاتنسي.. علمتنا ان روح الأشياء تكمن في الصمت احيانا, وقد يكون ارفع انواع الحكمة.. فأصحاب الرسالات لابد ان يعتزلوا الناس بعض الوقت ليروا الدنيا من بعيد إنها( العزلة الملهمة) أستاذي الجليل عشت حياة طويلة وعمرا مديدا.. شاء الله أن تموت مصدورا انه كعب اخيل او نقطة ضعفك وسبحان الله فقد عشت تخشي الانفلونزا والزكام منذ نعومة أظافرك وتتحاشاهما ولكن المرء يدبر والقضاء ماض في شأنه يسلبنا آخر اعمدة الصحافة العربية وأغزرها انتاجا وفكرا.. استاذي لو كنت اعلم آخر عهدكم.. يوم الرحيل لفعلت ما لم افعل ولسألت ما لم أسأل.. صاحب الأرق والقلق.. كنا ننام ملء جفوننا.. وكنا نياما حينما كنت ساهدا.. فاسهدتنا حزنا وامسيت غافيا.. الموسوعي.. الذي اختصني بارشيف صوره الخاص منذ صدور كتاب( فيلسوف البسطاء) الذي شرفت بتحريره واصدره الكاتب الكبير لبيب السباعي حينما كان رئيسا لتحرير مجلة الشباب ونعتك بانك( الاستاذ الموسوعة) احببت الأهرام دوما وعلمتنا أنها الصرح العملاق في الصحافة العربية فكان عمودك مواقف أطول عمود يومي في الصحافة اليومية والعربية لمدة53 عاما بلا إنقطاع سألتك لماذا قلت:
لقد دفنت نفسي في قبور انيقة اشتريتها من مكتبات العالم فهل لديك تصور لعبارة ساخرة تتخيلها علي قبرك؟
أجبت: اذا قررت وضع لافتة مكتوبة علي قبري فلن اكتب إلا هذه العبارة( عاش كذا سنة...( الله اعلم). ولم ينم إلا ليلة واحدة ولن أزيد علي ذلك فلا قيمة لاي شيء يكتب بعد وفاتي.. عظماء الدنيا ماتوا ولايتذكرهم الناس إلا قليلا فالأديب الفرانسي رابليه حينما كان يحتضر قال( انزلوا الستائر لقد انتهت المهزلة).. فلتكتبي انت ما تشاءين.. او يكتب من يريد فالموت راحة من كل شرور الدنيا... فهو نهاية سطر..تغمدك الله برحمته ومغفرته.. ستظل دائما في قلوبنا وعقولنا.. لن ننساك أبدا.
أصداء السيرة الذاتية
السيرة الذاتية لأنيس منصور هي سلسلة من التأويلات متداخلة الحلقات في جميع مراحل حياته, فقد كان دائم الاستدعاء لدعوة الإمام الغزالي( اللهم هبني ايمان العوام) أي ان يريحه الله من نفسه وعلامات استفهامها التي لاتنتهي.. والصوفيون يقولون( الأحوال مواهب.. والمقامات مكاسب) فمقام الصالحين يصل إليه الانسان بعمله الصالح وصومه وصلاته وتسبيحه وذكره... أما الأحوال المواهب.. فيقصد بها حالة الوجد التي لايصل إليها المريد إلا بعد ايمان عميق فتكون هبة من الله.. أنيس منصور في سيرته دائم البحث والرصد عن لحظات الوجد والايمان والالهام بمذهب أو قدوة أو شخصية أو قصة أو فكرة أو أغنية أو أي حيثية يؤمن بها ويتوحد معها في سيرة حياته وأدبه وفنه, فلا سعادة تكتمل دون البحث عن جذورها, والبحث عن السعادة يفضي إلي سرابها في بعض الأحيان.
كتب أنيس منصور سيرته الذاتية أو أروع أعماله الادبية بصورة تضاهي الاعمال الادبية العالمية في عدة كتب, أهمها: البقية في حياتي, وعاشوا في حياتي, وفي صالون العقاد.. كانت لنا أيام.. وإلا قليلا.. شلالات عديدة ساهمت في تكوين الوعي واللاوعي وتشكيل وجدانه تمثلت في النزعة الدينية المتأصلة ومشاعر الخوف والأرق والاغتراب والعزلة وحب الوالدين المفرط وحب الشعر والادب وحفظ القرآن والاحاديث والنوادر والحكايات والمغامرات الغنائية والغجرية.. وحكمة بسطاء الريفيين الفطرية.. وبعض المغامرات العاطفية وتلك السماحة الدينية واختلاط الاجناس والثقافات واستقطار لب الحياة وجمالها من تلال القبح والقسوة من خضم هذا الزخم الاجتماعي والنفسي والادبي والديني.. خرج أنيس منصور( مواليد1924) وأشهر أبناء الدقهلية ليظل الاول دائما علي مستوي القطر المصري في الابتدائية والتوجيهية عام..1943 وليسانس الآداب قسم الفلسفة مع مرتبة الشرف الاولي عام1947, انها قصة كفاح ونبوغ وندرة.. لذا كانت ساخنة شيقة وشائكة.. بدأت في أبي حمص مرورا بالقاهرة وحول العالم وانتهت في القاهرة ايضا.
الموسوعية في كتاباته
أنيس منصور بمعدل السنين حالة فريدة من الاستمرارية والشعبية والتألق في الصحافة العربية بلا منازع.. واذا كانت البلاغة كما يصفها العرب هي مراعاة مقتضي الحال فقد كان أنيس منصور يفضل ان ينطلق مقاله في ايحاء وايجاز وفقا لهذه المعطيات من بؤرة الذكريات المثقلة بثقافة عميقة متنوعة ينتقي منها أصفي معانيها وأسلسها هضما.. أو من خواطره اللامعة,.يغلفها بغلالة ذاتية أنيقة فنتيجة لاتساع أفقه واطلاعه ونزعته الفلسفية وموسوعيته المتفردة التي شهد بها د. طه حسين فوصفه بأنه أشهر قارئ في العالم العربي, فكان لايتوقف كثيرا في اختيار موضوع المقال ولكن العبرة بالأسلوب والتناول, فكتابة المقال من وجهة نظره صناعة يجب ان يظهر منها الاتقان ويختفي فيها سر الصنعة.
كان اسمه هو المرادف العملي للانترنت منذ خمسين عاما وهو جدير بحقوق الملكية الفكرية, فهو رائد الموسوعية في الصحافة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين وهو من أنبغ تلاميذ مدرسة العقاد الموسوعية وهو من نشطاء مدرسة الشك يحيي الأفكار من خلالها وتدويرها وتأملها, وهو يؤمن بأن اي فكرة لاتساوي شيئا ما لم تقدم البرهان علي صحتها.. إلا قليلا.. هو مبدؤه العام الذي يكيل به أفكاره. وهو يري ان اعظم تحية يمكن ان يسعد بها كاتب هو ان يشعر كل قارئ بأنه يقصده بما يكتبه وبذلك تكون الكتابة رسالة عامة وخاصة في نفس الوقت.
اتسمت كتاباته بالاستعارة بصورة جلية والتشبيهات الجميلة التي اكسبتها صفة انسانية لاتنتهي ومجموع مقالاته يشكل مأدبة عامرة تتسابق اليها الأيدي, وصفه الاديب الكبير إحسان عبدالقدوس بأنه خليط من سارتر والعقاد وتوفيق الحكيم وطه حسين اما هو فكان يقول: من أراد ان ينظر إلي فلينظر إلي بعيني إلي عيني يحاسبني بقولي علي قولي ويستخدم موازيني في وزني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.