عدنا بعد الفاصل .. فاصلٌ لم نختره ولكنّه فرض علينا يوم تآمروا على جريدة الدستور، وتصوروا أنهم قد ألقوا بنا فى غيابت الجب، فتدثرنا بالدستور الأصلى حتى صار الموقع الاكترونى قبلةً للوطنيين ورمزا للصمود .. كنا دائما على ثقة بأننا سنعود، وبأنه مجرد فاصل ونواصل .. وهانحن نعود ؛.. نعود كما نحن وكما سنكون دائما .. عدنا ولكن بعد أن جرت فى النهر مياهٌ كثيرة غيرت وجه مصر، فمصر بعد الفاصل تختلف تماما عن مصر قبله، والفاصل الذى أرادوه مساحة إعلانية ممتدة تمجد النظام وتمهّد للتوريث تحول إلى فقرة ثورية أطاحت بالملك والوريث معا. قبل 25 يناير كانت أقلامنا تبدو غريبة فى ثباتها وسط الأقلام الراقصة، ومواقفنا تبدو شاذة فى وضوحها بين المواقف المرتعشة .. عندما أمموا جريدة الدستور فى أواخر العام الماضى ليحتفلوا على طريقتهم بذكرى انتصارات أكتوبر تنهدوا وتنفسوا الصعداء، ولم يدركوا وقتها – ولانحن أيضا – أنهم يدقون مسمارا جديدا فى نعش النظام، وأنهم يدفعون الشعب دفعا لكى ينزل إلى الشارع ليحرّر ميدان التحرير ويحرّرُه ميدان التحرير، لقد حرر ميدان التحرير المصريين من الخوف والخنوع فحرره المصريون من الدكتاتورية والفساد .. أرادوا "للدستور" أن يذهب فمضوا هم، وأرادوا للأفكار أن تسجن فسجنوا هم وسبحت أفكار الشرفاء فى عنان السماء. لقد ظل عيسى ورفاقه لسنوات "خونة" فى نظر الأوفياء من المنافقين والطبالين، و"مجموعة من المجانين" فى رأى العقلاء من محترفى السير على الحبال، ولكنهم كانوا دائما لسان حال القلة المندسة التى أثبت يناير العظيم أنها تضم كل المصريين .. كان إبراهيم عيسى متفردا حين أصر دائما على أن يسمى الأمور بمسمياتها، وصمم على أن يضع يده مباشرة على "الوجيعة" وأن يوجه سهام قلمه دائما صوب الرئيس المخلوع وهو فى عنفوان سطوته وبطشه، وأن يذهب أبعد كثيرا مما ذهب غلاة المعارضين الذين كانوا دائما يعرفون – حسب التعليمات - خطوطهم الحمراء فيبالغون فى سب الحكومة ويتعملقون فى مدح الرئيس؛ فهو العادل والحكيم والمنقذ، وهو على الدوام من ينتشلنا فى اللحظة الأخيرة من براثن حكومته الفاسدة ورجاله الملاعين .. لم يُعِر عيسى ورفاقه كلّ هذا التفاتا فذهبوا مباشرة إلى الهدف حيث من يدير منظومة الفساد ويختار بعناية أمهر المفسدين لأننا كنا دائما نؤمن - ونحن من لاندّعى احتكار الدين أو التحدث باسمه - أنه كما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه: " لو عثرت بغلة في العراق; لسألني عنها ربى لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق يا عمر؟)، وكما كان موقف إخوان عيسى متفردا قبل الثورة فقد ظل أيضا متفردا بعدها، فلم ينزلقوا إلى فخ تقزيم الثورة ولم يتاجروا بمشاعر البسطاء .. لم يعزفوا كثيرا على وتر بقاء الرئيس المخلوع فى شرم الشيخ أو نقله إلى مستشفى السجن، ولايقفون كثيرا عند استدعاء الطبيب الألمانى لعلاج مبارك أو علاجه على أيدى الأطباء المصريين فليس الهدف "كل الهدف" إذلال الرجل أوالتشفى فيه، فربما كان ذلك مفهوما ومنطقيا حين يصدر عن أم مكلومة سقط ابنها شهيدا برصاص أجهزة مبارك، أو شابا لم ينجُ من الاعتقال والتعذيب فى مجاهل أمن الدولة، ولكنه لايجب أن يكون أبدا القضية الأهم عند من يفكر لمستقبل هذا الوطن، فمن السذاجة أن تُختزَل الثورة فى الشماتة من الماضى بينما يجب أن تكون قضيتنا الأولى بناء المستقبل، ولابد أن ندرك أن فلول النظام الذين يسعون إلى إجهاض الثورة وتفريغها من مضمونها لم يكونوا فقط من رجال الرئيس وأعضاء حزبه المنحل ولكنهم أيضا منتشرون بكثافة بين تجار المعارضة والمتمسحين بالدين، بل ربما كان بعضهم يتصدر الآن واجهة المشهد السياسى. إننى أشفق على أصحاب التجربة الجديدة "التحرير"، وأدرك جيدا مدى العبء الذى يقع على عاتقهم فقد أقسموا ألا ينتهجوا مطلقا سياسة القطيع .. تعودوا ألا يتاجروا بالمواقف أو يتحسسوا الكلمات، إنهم دائما مختلفون فقِبلتُهم الحرية وسلاحهم مواقفهم الوطنية المتجردة .. لم يتسلقوا يوما منصة الثورة رغم أنهم من صناعها، ولم يتفرغوا للطعن فى النظام السابق ورئيسه المخلوع كما فعل أقرب المقربين منه ولكنهم أبقوا عيونهم دائما على المستقبل حين انقلب الأفاقون والمنافقون إلى زعماء الثورة، والخانعون إلى جبابرة، ومداحى النظام إلى لاعنيه وأول المطالبين برأس رموزه . هؤلاء هم الرجال الذين انتزعوهم من أحضان "جريدة الدستور" فعادوا لمصر "بالدستور"، وهؤلاء هم صحفيو الدستور الذين ألقوهم على قارعة الطريق فعادوا "بالتحرير" من ميدان التحرير.