ممدداً كنت على جانبك الأيسر، عيناك نافذتان كأنهما ستخرجان من محجريهما وهما تواصلان النظر إلي. لا أعرف هل تراني أم لا! هل يراني البصر ولكن البصيرة ذهبت؟ هل اصير الآن مجرد مساحات لونية أمام وجهك المنحوت؟أم أن بصرك كف ولكن بصيرتك المتقدة دائما تشعر بوجودي في الغرفة؟ يخذلك الآنالجسد الذي قدته دون تهاون أكثر من 85 عاماً ويرفض الانصياع ومواصلة العدو خلف احلامك التي لا تنتهي. وجهك مبتسمدون أن تتحرك ملامحه. صامت كنت على غير عادتك. وساكن كنت على غير ارادتك. آه يا محمد، هل كنت ستنطق لو جاءت معي تمارا؟ في المرة التي احضرتها معي لزيارتك في المستشفى،وكانت حالتك قد ساءت قليلاً قبلها، لم تنظر إلي لحظة واحدة، لم تراني.أشرق وجهك وأمسكت بيدها بين يديك واعتدلت قليلاً في سرير المستشفي الأبيض الملاءات واندفعت معها في حوار عن القانون الدولي وعن اهمية عملها وعمل منظمتها. لم تترك يدها طوال دقائق. وعندما علقت على شيء ما أو أخر (فقط لاشعارك أني كنت هناك)، نظرت إلي ببعض استياء قائلا: "إستنى انت دلوقتي يا مولانا." أضحك الآن وانا أتذكر ردي عليك: "يا استاذ عودة انا جاي اقدملك خطيبتي تمارا لكن لو عايز تعاكسها شوية أنا ممكن امشي وأرجع بعدين." اشرت لي بيدك أنه يمكني الذهاب لو أردت. اعترف لك الآن أنني شعرت ببعض غيرة منك، غيرة من العاشق الشاب المتوثب داخل جسد الرجل الذي عبر عامه الخامس والثمانين دون أن يحصي السنين ، غيرة من الطفل المتوقد في عينيك فرحاً بالحياة طول الوقت، حتى في عنبر السرطان يا محمد، حتى وانت تحيَر الأطباء الذين توقعوا موتك منذ سنوات، حتى وانت لا تهتم من أين تأتي تكاليف علاجك. لما قرر رئيسنا المخلوع مبارك علاجك على نفقة الدولة قام بالاتصال بك هاتفياً --كان يتنازل أحيانا ويهاتف المثقفين المستقلين من أمثالكوخاصة عندما يعتقد أنه يتعطف عليهم.حكيت لي عن الحوار القصير معه وانت تضحك ، ولم تكافئه بمقالة الشكر المعتادة. لا أعتقد أنه في فراش مرضه المزعوم اليوم يتذكر تلك المحادثة. أريد اليوم ان أقول له، لمبارك، أن زوار محمد عودة في المستشفي في ليلة واحدة وهو الذي مكث في سريره بالقصر العيني شهوراً كانوا اكثر من كل الذين يتألمون من أجلك يا مبارك الآن وانت تواجه شيخوختك وحيداً، وقريبا وقبل مرور شهور ستكون نسياً منسياً. في الحياة وفي المرض لا عزاء سوى الناس من حولك وقدرتك النفسية على تحمل الصعاب، وكان عودة شخصا فذاً في الناحيتين، اجتذاب البشر والتعايش مع الألام. شعرت ببعض غيرة منك يا محمد لأنك وسط كل هذه المعاناة الاجتماعية والسياسية في بلادنا في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياتك وهي سنوات صداقتنا وتحت ضغط ازمتك الصحية الطاحنة، وسط كل هذا كنت قادراً على الغزل وعلى الفرح وعلى السخرية وعلى الأمل. كيف تمكنت من هذه المعجزة وانت رجل لا تفكر وتهتم طوال الوقت سوي باحوال المجتمع المصري والسياسة --- عفوا والنساء أيضاً. كنت تؤمن أن شعب مصر سيقفز فوق حواجز الخوف الرهيب ونحن من حولك نرى أنه صار كسيحا، كنت مثل الشعب قادراً على الضحك والسخرية رغم الطعنات والنكسات والهزائم.أعتقد معظمنا – وانت يا محمد كنت تخالفنا –أن الشعب لن يقوم من خيبته. وما زال بعض مثقفينا يعتقد هذا ناظراً للشعب من اعلى شرفة ما او من داخل قاعة إجتماعات او من مركز بحثي. هذا الشعب انتفض كالعنقاء، يا محمد. يا ليتك كنت هنا. هاهوحبيبك، الشعب، قد خرج أو على الأقل بدأ في الخروج من نفق طويل مظلم شاهدتهم انت بنفسك وهم يدخلونه في 1952. كنت تعتقد ومعك كثيرون ان حركة الجيش هي طريق الخروج من متاهات تحلل النظام الملكي وفشل الساسة البرجوازيين وعناد الإستعمار البريطاني. كنت تعتقد اننا حاولنا كثيراً منذ أيام عرابي وقبله أن نستقل ونواجه مشاكل الفقر والجهل والمرض بعيدا عن أسرة مالكة فسدت ومستعمر بريطاني لا يهتم ولا يرى الفقراءوالمرضي، ولا البلد كلها سوى فيما يحقق مصالحه. فرحت وفرح معك كثيرون بان انقلاب الجيش حمل معه شعارات اجتماعية واقتصادية تسير بنا على هذا الطريق. فرحت وفرح معك كثيرون بانتصارات ناصر في الخمسينيات واوائل الستينيات، رغم الثمن الباهظ. حتي كانت نكسة 1967، عندما رأيت بعينيك السقف الواطىء لحكم العسكر مهما ادعوا من ايدولوجيات، ومهما كانت العبقرية الفطرية لقائدهم. أرتطم حكم العسكر ليس فقط كما يدعي البعض بالمؤامرات الصهيونية والحيل الأمريكية ودسائس بعض الانظمة الرجعية العربية، ارتطم حكم العسكر بمحدودية قدرة العسكر على الحكم. كنت ناصرياً ياعودة ولكنك - في فهمي لحواراتنا - لم تناصر العسكر. كنت قومياً عربياً ولكنك ادركت ضيق افق القومية إذا فارقت الديمقراطية. كنت أمميا ولكنك تعي أن فن السياسة يستلزم وعيا وادراكاً بالتوازنات الأقليمية والدولية من ناحية وإيمانا بالشعب من ناحية أخرى. مع الشعب يمكنك ان تدير مواجهة ناجحة ولكن لا يمكن ان تكون "بيادتك"، او حذائك العسكري، على رأس الشعب وبندقيتك موجهة لبلطجي شرس ثم تأمل في تحقيق الإنتصار . كنت في الحقيقة اشتراكيا وانسانيا فوق كل شىء. لم تعش لترى في عام 2011 بعض انظمة العرب القومية تقف بالحذاء على رأس شعبها وتوجه بنادقها لنفس الشعب وتحذر البلطجي من التدخل والا اطلقت عليه هذا الشعب نفسه، كانها صارت تحمي عدوها من شعبها. مبارك يخوف امريكا من الاخوان المسلمين، والقذافي يخوف الامريكان والاوروبيين من القاعدة، والحبل على الجرار ... صارت بقايا انظمتنا القومية يا محمد أسد علينا وفي الحروب نعامة .. في الحقيقة لم تعد تحارب أو تريد أو تقدر على الحرب. وانا، واعتقد ولا انت أيضاً، نريد الحرب يا محمد. ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. ربما. ولكن ليست كل القوة عسكرة وحرباً وضرباً. لم ينتصر مانديلا في جنوب افريقيا بميليشيات المؤتمر الوطني ولم ينتصر شعب مصر على نظامه بالحرب إلا لو حسبنا الحجارة التي خلعها من الارصفة ليواجه بها بلطجية النظام أسلحة دمار شامل! لم توافق أيضاً يا محمد على ما فعله السادات ولم تصدق ادعاءاته حول تأسيس نظام ديمقراطي متعدد الأحزاب في مصر. لا يوافق على ما فعله السادات (وكان محظوظاً بنجاحه في بعض ما فعله) سوي شخص لا يفهم في السياسة ويؤمن بحكمة المصاطب، سوى شخص أعجبه التمثيل الساداتي ولم يرى تهاوي ما اقام هذا الرجل من مؤسسات وكفره بأى احزاب او أشخاص يعارضونه بحق. أعلى منصب كان يستحقه السادات عمدة قرية يجلس على مصطبة ويزعج الفلاحين المساكين بتفاهاته وغلاظاته. وانت، يا عودة، كنت تحب الفلاحين وتكره قعدات المصاطب. رأيت ما فعله السادات مسرحية وضيعة ، وفشلا مرعباً، وعمالة واضحة. ولكنك واصلت العمل وأسست ورأست تحرير صحيفة الأهالي (عندما كانت صحيفة حقيقية لها صوت مسموع وموجع) وناضلت حتى استضافك هذا الممثل الذي كان رئيسنا في السجن . أما ما فعله مبارك، يا محمد، فقد اختبر مدي حلمك وصبرك على تحمل المكاره، وقد نجحت في الأختبار وإن خلف لك مرارة كبيرة. آه يا محمد، لو كنت انتظرت خمس سنوات فقط لكنت رأيت بداية خروجنا من النفق الذي دام نحو ستين عاماً. نخرج دائخين، حائرين، خائفين أو مرتعبين إلى درجة أن بعضنا يريد العودة .....مثلهم مثل المواليد يصرخون لمرأى الحياة ويؤلم الهواء رئاتهم وتخيفهم الاضواء ويريدون العودة إلى الرحم، خاصة لو كان بعض من ساعدوا في عملية الولادة يريدون إستعباد الوليد. ولكن هذا حديث أخر. آه لو كنت رأيت ميدان التحرير في ال18 يوما التي استغرقها المخاض، يا صديقي. ولكنك شاهدت ورأيت وكنت تطل علينا من حيثما كنت. لدي يقين ما بأن هذا ما حدث وانك كنت تبتسم وتهمس: "مش قلتلكم." أعطاك الأطباء شهوراً يا محمد فعشت أعواما، تخرج من المستشفي وتدخل.أعطوك أياماً في غرفة الانعاش فعشت فيها شهرين.ها أنت ساعتها عندما رأيتك في هذه الغرفة في القصر العيني في اكتوبر 2006 في غيبوبتك تنظر للعالم بعين متفحصة ووجه مبتسم.مثلك كنت مثل الشعب المصري، منحه الاطباء شهادة وفاة من زمن طويل فعاد واقفاً رافعاً جبينه من بين الموتي، ومبتسماً في سخرية من يضحك أخيراً. طبعاً شعبنا ليس مثل الأمير الذي مسخته الساحرة الشريرة ضفدعة قبيحة والآن سيعود لسيرته الملكية، ببهائه ورونقه وجماله. شعبنا بشر فيه القبيح والطيب والشرس والذكي والمحتال. وشعبنا لا يعود لماض ليصله أو لعصر ذهبي مدعي ومفقود ليعيد سيرته. شعبنا يبدأ تاريخاً جديداً، يتعلم فيه الا تخشى رئته الهواء، وأن يقع فيتعلم المشى، وان ينخدع فيتعلم ، وأن .. يصبح حراً ويحكم نفسه. كنت، يا محمد،صديقاً وأباًلآلاف بل لجيل باكمله من الصحفيين والمثقفين والفنانين في مصر منذ بدأت العمل بالصحافة والكتابة في أربعينيات القرن الماضى. كنت المتفائل التاريخي بحق (متفائل بأن التاريخ في سيرورته ذاهب إلى مستقبل أفضل لمصر والأنسانية كلها)، وعندما كنتتفكر في الافضل كنتتفكر في الأعدل وليس في الأكثر ربحاً. كنت أشتراكياً حقاً بالمفهوم الاخلاقي العريض للأشتراكية: من كل حسب استطاعته ولكل حسب حاجته. ولكن الناصرية كما عرفتها في الستينيات رغم انتهاكاتها لحقوق الانسان كانت الاقرب واقعياً في رأيكلما يمكن تحقيقه في مصر في ظل الظروف المحلية والأقليمية والدولية. كنتبين الأنقي ممن عرفت من جيلك، وكنت الأفقر بينهم، عندما غادرت مصر لم تعد بمال (بل بمعرفة عن الهند والصين حيث ذهب وندمت أنك لم تقض وقتاً اطول هناك، ومنحتنا كتاباً جميلاً عن الهند). عندما زرت نيويورك أسبوعاً، قال لي صديق مشترك استضافك، أنك لم تفعل مثل بقية زائريه من كل انحاء العالم وتذهب للتسوق بل قضيت الوقت في أجندة مزدحمة بالمكتبات والمتاحف ودور العرض السينمائى والمسرحي. كنت رغم فقرك لا يظهر عليك الفقر قط، بل ربما على العكس، حتى انني عندما التقيتك أول مرة في مخيم لنقابة الصحفيين في العريش فى عام 1991 اندهشت كثيرا لماذا انت هناك، تنام مثلنا ومعظمنا شباب في خيمة وتأكل معنا في مطعم المعسكر الذي كنا ننظر له كفرصة رخيصة للتصييف. كنت متواضعا ولكن دون أي ضعة، كنت نبيلاً وليس ارستقراطياً. وكنت دائماً معلماً دون وعظ. من كتبوا مراثيك في الصحف وعلقوا على وفاتك لم يلتفتوا سوى لحياتك السياسية او الصحفية. قالوا انك عملت بالصحافة المصرية على مدى أكثر من 60 عاماوعددوا كتبك. الناصريون منهم احتفوا بك سياسياً، والصحفيون كاتباً، والفنانون صديقاً نادرا، ......قالوا انك المثقف المصري الوحيد تقريبا الذي دخل سجون الملك فاروق وعبد الناصر والسادات على التوالي مدافعا عن مبادئه ومعتقداته. كانوا محقين في كل مديحهم ولكنهم اخطئوا عندما قالوا أنك "غاندي الثقافة العربية". كنت صوفياً وزاهداً في السلطة والمال ولكنك كنت تحب الحياة ما استطعت اليها سبيلاً، تحب الموسيقى والشعر والطعام والشراب والسفر والسينما والفن والنساء. وكنت تكره الليل دون اصدقاء والنوم والاستكانة. بدأت فقيرا ولم تنس الفقر ابداً ولكنك لم تهتم بالنقود اطلاقاً. شاركت في تأسيس حزب التجمع ولكنك لم تكن رجل سياسة. كنت تخاف الوحدة لكنك لم تكن تخاف الموت. كنت تخشى الظلام وليس الظالمين. كنت قادرا على ان تجد في كل شخص، كل شخص، مهما بدا منفراً او مزعجاً او لا شىيء يميزه في عيون بقية اصدقائك، امراً تحبه. كنت قادراً على أن تخرج من كل شخص شيئاً جميلاً. كنت ترى الناس بسرعة من الداخل، وتلمس وتراً ما. اهديت لي كتاباً لك بعد أن التقينا باسابيع فكتبت: الى فلان .. لعله يجد نفسه. يا عودة، يسعدني أن ابلغك ان الشعب المصري ربما يكون قد وجد نفسه اخيراً. أما أنا يا صديقي، فقد صرت استمتع بالارتحال في نفسي وفي العالم وأنت تعرف ان الرحلة أهم من محطة الوصول في أحيان كثيرة. وكما فعلناها مرات كثيرة، لك ان تنتظرني في مساء ما مع صواني الدجاج والبطاطس المحمرة والمكرونة البشاميل والكوسة المحشية. سأحضر المشروبات وستتوافد صديقاتنا وسيحضر اصدقاؤنا وسنتحدث حتى مطلع الفجر، وربما تكون هناك حفلة للموسيقى العربية او للاوركسترا السيمفوني أو عرض باليه يقسم ليلنا قسمين. يا أكثر من عرفت قدرة على حب الحياة والبشر، النور قد لاح بعد نهاية النفق وينفتح امامنا سهل وعر ومجهول التضاريس ولكن الشمس تضيئه والزهور تتناثر فيه. ها قد هلت بشائر ما كنت تعدنا به، ولا ينقصنا سوى رؤياك!