يأتيك الخبر ، فينقبض صدرك ، ويتوقف عقلك عن التفكير .. تقف مخنوقا كالمسجون فى شرنقة من اليأس والضياع ، وإحساس بالعجز يسرى فى جسدك كما يسرى الماء الملقى على لوح من الزجاج الأملس . تتساوى الأشياء والكلمات .. تتجرد من معانيها ، كما تتجرد الغانية مما يسترها من الثياب دفعة واحدة ، فتكون القوة هى معيار كل شىء . هكذا .. نجد أنفسنا فى مثل تلك الأوقات ( التى تنكر فيها الأشياء والكلمات أدوارها ، ووظائفها وتتبرأ منها ! ) فى أشد الحاجة إلى القوة .. تلك القوة التى تجبر كل شىء فى الدنيا على الاحتفاظ بوظائفه ، وتعيد المعنى المفقود لحياة باتت بلا طعم أو رائحة !!. تشعر بشىء داخلك يدفعك فى عنف ، وإصرار لأن تسب الدنيا ، وما عليها .. لكنك لا تفعل ، فأنت تعرف جيدا أن شتمك أو حتى ضربك لحائط خرسانى مسلح برأسك هذا لن يأتى بشىء .. أى شىء ، فقط ينم عن قلة حيلة وعجز تام !!. حولك أفواه تتحرك ، عيون تحدق فيك ، أصوات وضوضاء بالشارع لا تعرف سببها . تنظر إليه .. قوام نحيل كالإبرة الحربة ، جلباب قديم متآكل الأطراف ، حذاء بلاستيكي رخيص ، كف يابسة قابضة بأصابع خشنة مليئة بالجروح والتسلخات ( اقتلعت الأيام أظافرها و” بططت ” معظم أناملها ! ) على حبل باهت ملفوف فى غير إحكام حول بطانية ذات سواد يودع الحياة ، وبدورها البطانية ملفوفة على جلبابين أو أكثر وبعض ” الغيارات ” الداخلية ، وجركن بلاستيكي يصعب الوصول إلى لونه الحقيقى سعة 5 لتر و ... الكم الصوفي المتدلي وقد غزته الثقوب يستوقف بصرك قليلا .. ترفع عينيك إلى وجهه .. عمامة رثة ، وجبهة عادية تحتلها الخطوط ، وعينان ذابلتان . تحتقره .. لا تدرى لماذا !. وبحلق جف تماما ، وبدأ طعم المرار يزداد بداخله ، وقدمين مثقلتين .. حاقدا على كل شىء تهرول .. تقطع منتصف المسافة تقريبا ، وفجأة تتسمر ضاربا هامتك بكف هزيلة مرتعشة .. تركل الباب فى عصبية واضحة .. تمد يدك إلى الصندوق الخشبى القديم ، ثم تلقى بأكثر من كتاب وكشكول بعيدا غير عابئ بمكان أو زمان ( أنت الذي تخشى على الكتاب من أقل تلف قد يصيبه .. لا تهتم الآن !! ) .. لكنك تتردد فى رمى ألبوم الصور التذكارية .. تتأرجح يدك ما بين الفعل أو اللافعل .. وأخيرا تمسك كتابا بعينه وفى لمح البصر تخفى الورقة الحمراء المطوية بعيدا عن الأعين فى سيالتك . وأنت فى طريقك إلى الخارج تلتقط أذناك صوت أختك التى فاتها قطار الزواج كما يقولون وهى تتوجه بالكلام لأمك التى اختلطت دموعها بتراب الأرض : ” الحمد لله ، أهو لقى فلوس ! ” .. ( أنا هقول لهم باختصار : إزاى الكلام ده حصل وحد إدخل من عنديكم ولا لأ .. قول ويبقى باقى تمنية ونص أو تسعة .. حلوين وربنا يستر !.. ) لو أن أحدا يسير إلى جوارك لكان قد سمعك . وخوفا على الوقت تكرر نفس الكلام .. غير أنك تسكت فجأة حين يصطدم بصرك بالباب الحديدي ذي الضلفتين مغلقا .. تلمح لافتة معدنية صغيرة كتب عليها بخط الرقعة ” السنترال ” وقبل أن ترفع بصرك عنها تبصق فى غيظ . تستند بظهرك إلى إفريز إحدى النوافذ .. يجول بصرك فى المكان .. رجل عجوز يجلس متربعا أمام باب ” الجمعية الزراعية ” .. يحاول أن يشعل سيجارته بيدين مهزوزتين .. إحدى فتيات الثانوية العامة تسير على استحياء رامية بصرها بين قدميها ، الشعر يخفيه منديل أزرق كبير .. قوام مفرود .. نهدان عجزت الحقيبة السوداء المكتظة بالكتب عن إخفاء بروزهما ، أو الحد من حركتهما المضطربة ، والملفتة للنظر .. فجأة ، تأتيك صورته .. ونفس المشهد الذى لا يفارق ذهنك أو مخيلتك : تراه وهو يحاول أن يبرز برأسه إلى الخارج عبر النافذة الصغيرة والتى تبدو كثقب فى جوف العربة المعدنى المظلم ، مناديا : الحقنى يا عبد الغفور ..! . وترى ” عبد الغفور “ الواقف وكأنه لا يسمعه ، ولا يراه مسددا بصره إليهم وهو يلوح بيديه تلويحا سريعا لا ينقطع أو يتوقف حتى يختفوا من أمامه ( يعنى أنه دائما فى الخدمة !!.. ) . و .. تزاحم الناس واندفاعهم الشديد نحو الباب ينتزعك من شرودك و .. .. داخل ” كابينة ” ( 1 ) : .. اَلو .. اَلو .. وإزاى ده حصل ..يعنى جات كده .. وإحنا لينا غير ربنا يعنى ... .. أوراق مكورة ملقاة فى كل مكان .. تراب كثيف على الأرض البلاطية الباهتة ، وفوق الأرفف المكدسة بأوراق ودفاتر قديمة وضعت بغير اهتمام .. خيوط عنكبوت احتلت كل الزوايا . تضع ما تبقى من العشرة جنيهات فى جيبك ، وتنصرف دون أن تقول شيئا .. تشعر وكأن الدنيا تدور من حولك .. الناس تسير كآلات موجهة . أكوام من البرسيم الأخضر مرصوصة بطول الشارع ومحملة على عربات ” الكارو ” بحميرها المشدودة إليها والتى سدت الشارع الرئيسى وأعاقت عملية المرور .. تتذكر شكواك : بسم الله الرحمن الرحيم السيد المحترم : رئيس الوحدة المحلية . ............................................................................................ ............................................................................................ ونرجوا من سيادتكم البت فيها حيث أن المنظر بات غير حضارى بالمرة .. فضلا عن أنه من العار أن يكون هناك أناس يبحثون عن الحياة فى كواكب أخرى بينما نحن مازلنا ننظر تحت أقدامنا باحثين عن طريق نسير فيه ... تتذكر أيضا سخرية أقرب الناس إليك .. واتهامك بالجنون . فى لهفة تسألك أمك ( بينما تقف أختك خلفها والدموع فى عينيها .. ) كلمتهم ! أيوه .. وقالوا جاى بكره الصبح . الله يقطعهم ويقطع بكره بتاعهم !. .. تدخل ” الأودة ” الوحيدة .. يصل إلى أذنيك حديثهما الممزوج بنهنهة ونشيج مكتوم ، تدمع عيناك وتهم بالخروج إليهما ، لكنك لا تفعل .. وحين يقع بصرك على الكتب والكشاكيل الغارقة فى التراب ، تقوم متثاقلا ، وبيدين نادمتين تلتقطها .. رغما عنك تزحف عيناك فوق العناوين المكتوبة بخطوط متنوعة : الأيام ، طه حسين .. عودة الروح ، توفيق الحكيم .. مبادئ فلسفة الفن والجمال ... تريح أحد الكشاكيل جانبا ، وتفتح الصندوق لتعيدها إليه فى شىء من الاهتمام ، ثم تلتقط أحد الأقلام وتجلس على ” الحصيرة ” البلاستيكية مستندا بظهرك إلى الحائط راسما بجسدك أكثر من زاوية حادة . يواصل بصرك زحفه .. بسم الله الرحمن الرحيم ( فى منتصف السطر ) .. ” وقل رب زدنى علما ” .. يارب سترك .. اللهم النجاح ( كتبت فى سرعة ) .. وإمضاءات مختلفة الشكل ( لاسمك ).. الصفحة الثانية .. تتأمل بعض السطور ، ثم تبحث عن صفحة خالية .. تكتب : ” ويل لعالم .. تحلق فيه النسور كيفما تشاء ، وسط نجوم لا تضئ بقدر ما تحرق !! ” .. تقرأ عبارتك بصوت مسموع ، ثم تمحوها بنفس القلم فى ملل .. ترسم دوائر متداخلة ومكعبات .. تظلل بعض أضلاعها ... مجعتش .. ؟! يأتيك صوت أمك .. بين قدميك يسقط الكشكول محتضنا القلم . تتمدد متوسدا ذراعك اليسرى ، ولا تقول كلمة واحدة . عبر الزجاج ، يطير بصرك .. المساحات الواسعة من الأراضى الزراعية الخضراء تجعلك تشعر بأن الدنيا واسعة جدا وأن الله الذى خلقها وخلقك وخلق كل هؤلاء الناس قادر على كل شىء و .. تجد نفسك تتنفس بشكل أفضل . تنزل من السيارة .. زحام ، أصوات كثيرة متداخلة ، نبرات ساخطة ، دخان ، أتربة ، سيارات لا تتوقف ، صفير حاد لأحد القطارات يرج القلوب ، أناس كثيرون خلفهم القطار قبلما يتلاشى بضجيجه شيئا فشيئا .. تجاهد كي تشق الزحام .. يسبك أحدهم .. يدفعك آخر .. لا تهتم ، وحينما كانت فكرة التوقف ، وقول شىء .. أى شىء توشك أن تسيطر عليك .. كان المبنى قد ظهر ... تقرأ اللافتة الخشبية الكبيرة والتى أصابها التقوس ( ........ ) فيضيق صدرك ، وتتسارع دقات قلبك .. يتملكك إحساس بأنك تسير عاريا تماما رغم جلبابك النظيف وحذائك الذى ورنشته بإتقان .. تتقدم ونفضة تزداد شيئا فشيئا ترفض ترك قدميك .. يصطدم بصرك بأشياء كثيرة .. أكوام من القمامة .. برميل محترق .. قشر قصب متناثر على الإسفلت بامتداد السور الخارجى للمبنى الذى غزته الثقوب والشروخ .. امرأة ملفوفة فى بردتها مستندة إلى السور ، بدت كتمثال منحوت من الحجر الأسود ... وأمام المدخل الضيق تتوقف بقلب يوشك أن يحطم قفصك الصدرى ، وقدمين مرتعشتين ، وبصر حائر خائف لا يتوقف عن الطيران ، والاصطدام بالأشياء .. جدران التهمت الرطوبة قشرتها الأسمنتية ، ثلاث قصريات جافة خالية من أية نباتات ، كوم من قشر القصب أسفل مقعد خشبى مركون إلى إحدى زوايا السور ، برجا خراسانيا بنافذة واحدة ضيقة . يفزعك صفير قطار آخر .. تفكر فى الحشود الكثيرة التى سيجبرها القطار الأعمى على التوقف .. وحين تهم بالدخول تفاجأ بيد غليظة تسد طريقك : على فين .. ؟ أنا .. مش دلوقتى . بس .. خليك بعيد شوية . ملامح الوجه أوحت بلا مزيد من الحوار .. تدور برأسك أفكار غريبة .. لو أنك تقدر عليه ، ترميه تحت قدميك وتسحقه ، تجعل منه خرقة تمسح بها ذلك البلاط القذر !! . تنسحب كالأسير ، بعدما تأملت يديك المعروقتين ... ( ضئيل أنت وتافه ومهان ولا تقدر على فعل شىء ..!! ) .. على الرصيف الملاصق للسور المتهتم الذى يحجب الشريط الحديدى عن الشارع الرئيسى تجلس .. بعينين مرهقتين ترمق المارة .. يزعجك صياح الباعة .. ترى شبابا فى نفس سنك يبيعون أشياء كثيرة كعلب الورنيش ، والمناديل الورقية والمشاط ومساحيق مختلفة الألوان داخل أكياس معلقة بخيوط مشدودة إلى قوائم حديدية رفيعة مثبتة على عربات ” كارو ” صغيرة ذات عجلتين أو أكثر يدفعونها أمامهم . تأتيك صورته .. ونفس المشهد الذى لا يفارق ذهنك أو مخيلتك : تراه وهو يحاول أن يبرز برأسه إلى الخارج عبر النافذة الصغيرة والتى تبدو كثقب فى جوف العربة المعدنى المظلم ، مناديا : الحقنى يا ” عبد الغفور ” وترى ” عبد الغفور “ الواقف وكأنه لا يسمعه ولا يراه مسددا بصره إليهم وهو يلوح بيديه تلويحا سريعا لا ينقطع أو يتوقف حتى يختفوا من أمامه ( يعنى أنه دائما فى الخدمة ! ) .. تتزاحم برأسك الأحداث .. تحاول أن تتوقف عن التفكير الذى يكاد يفتت رأسك إلى أجزاء عديدة ربما لا تفتقد المساواة .. غير أنك لا تستطيع .. تنتبه حينما تهبط يد نحيلة على كتفك : هو إنت ليك حد جوه ؟! . أيوه !! وسألت جه ولا لأ ؟! . تنظر إلى المدخل ، وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة ، تلمح آخرا قد وقف فى نفس المكان ، تهب واقفا ، وتهرول إليه بسرعة .. ( فات الميعاد .. بكره ، بكره .. ) .. يسقط بصرك بين قدميك .. يحاول الزحف مبتعدا عن حذائه الضخم .. تسمعه ( وأنت تسير متهدل الكتفين مطأطئ الرأس .. ) وهو يسألك إن كنت تملك بعض السجائر ، أو أى شىء آخر .. ولا تلتفت إليه .. ثم .. نفس الشعور .. نفس الكلمات .. نفس العيون .. نفس ال ... لكن .. ربما يختلف الأمر فى هذا الصباح الجديد ! .. وسوف تأخذ رجلا .. ضخم البنيان ، غليظ الشارب ، واسع العينين .. كنت تراه دوما يجلس على المقهى ، وكنت تحسبه ... وكنت تظن به الظنون ... ( وأنت تسير خلفه ، وهو يتقدمك بلا توقف ستشعر بشىء من الراحة ، وستفكر فى أمور كثيرة منها : أنك رجل مهم ، وهو حارسك الخاص .. العريس وعمه ليلة الدخلة .. سمكة الريمورا ، حتى يتوقف أمامك ويطلب منك أن تنتظره ، وسيكون وقوفك فى منتصف الطرقة الداخلية التى تفصل بين العديد من المكاتب ، وحجرة معلومة للجميع وأرض الحوش الواسع .. ) تسمع أذناك وقع أقدامه وهو يهرول هنا وهناك .. يدخل أكثر من مكان ، يتفوه بألقاب رفيعة ولى زمانها ومكانها ، يطلق الكثير من الوعود والأقسام والقهقهات .. وحين تراه يسقى إحدى الشجيرات ، ستخشى أن يخرج إليك أحدهم ويطلب منك فعل شىء ما ... هل ستجرؤ على محاورته أو حتى النظر فى عينيه .. هل ستقدر على إخباره بما ينبغى وبما لا ينبغى من الأمور .. ؟! وكالعادة لا يسمعك سوى نفسك ! .. وأنت تبحث فى جيوبك عن ورقة وقلم لأنك الآن قد تكتب تعريفا جامعا مانعا لمعنى كلمة الحرية ربما لم يكتبه أو يتذوقه بطريقة عملية أحد من قبل !! تفاجأ به يحدثك وهو يسرع الخطى إلى الخارج ، فلا تسمع منه غير .. ” بكره إن شاء الله ” .. يتوه بصرك فى الزحام .. تلمح الذراعين الحديديتين ممدودتين لمنع الناس من المرور لأن قطارا آخرا قادم .. يتعلق بصرك بسرب من الطيور يحلق عاليا وبعيدا ، بدا وكأنه لا ينوى الهبوط .. ازدحام الشارع بالسيارات والحناطير وعربات ” الكارو ” والناس لا يتوقف .. صوت القطار يصم الآذان ، ويقلقل الشريط الحديدى الممدود إلى ما لا نهاية و .. ويصبح المكان لا يطاق !! .. تشقان الزحام بعدما يمرق القطار بضوضائه وصراخه الذى لا ينقطع حتى يختفى . والسبب ؟!.. تسأله وأنت ترتمى إلى مقعد إحدى المقاهى . شوية إجراءات . يقولها وهو يشير إلى صبى المقهى . بعد ذلك يتركك ( كان قد أفرغ كوب الشاى داخل جوفه فى عدة شفطات مسموعة ، ووعدك أنه ربما سيجد حلا اليوم ... ) ترفع وجهك نحو المزلقان الذى لا يخلو أبدا .. تأتيك صورته .. ونفس المشهد الذى لا يفارق ذهنك أو مخيلتك : تراه وهو يحاول أن يبرز برأسه إلى الخارج عبر النافذة الصغيرة والتى تبدو كثقب فى جوف العربة المعدنى المظلم ، مناديا : الحقنى يا ” عبد الغفور “ وترى ” عبد الغفور “ الواقف وكأنه لا يسمعه ولا يراه مسددا بصره إليهم وهو يلوح بيديه تلويحا سريعا لا ينقطع أو يتوقف حتى يختفوا من أمامه ( يعنى أنه دائما فى الخدمة ! ) . فجأة تنتبه وتهب واقفا فاتحا عينيك على اتساعهما حينما تلمحه ينفلت من الزحام .. ترج رأسك فى عنف .. تخشى للحظات أن يكون خروجه من مخيلتك لا من هناك .. لكنه حين اقترب أكثر بوجه يابس بارز عظام الجمجمة ، ولحية سوداء مهملة .. وجلباب فقد لونه وصار أكثر اتساعا عن ذى قبل .. تجرى إليه ... فى الطريق تتمنى أن ترتمى تحت قدميه وتقبلهما . ( وأنت بداخل الأودة الوحيدة ، مستندا بظهرك إلى الحائط ، راسما بجسدك أكثر من زاوية حادة ، وبيدك كتاب ما ، والنهار بالخارج يحتضر .. يأتيك صوته وهو يحكى عما فعلوه معه و ... ) تمت