إهداء إلي كل المستسلمين السلبيين المتواكلين علي أرض بر مصر رجاء : هذه قصاصات لا تحوي إلا غثاءً.. ! أؤمن بأنه لا يوجد بين الناس من يهتم بما فيها، ففحواها لا تمثل أدني أهمية لأحد كان. إنها ترهات صادرة عن ذاكرة رجل حاصرته أمراض نفسية وعضوية، رجل يعيش أياما يحسها الأخيرة، يكتبها قبل التوقف النهائي لمحرك دفعه الذاتي، خلال سعيه في الدروب الأرضية. مَا كتبتُ ما كتِبَ إلا من منطلق المنفعة الشخصية البحتة، بغرض أن أزيح عن كاهلي وصدري تلك الهواجس التي صارت تؤرقني بشكل كبير. وما أملت من البوح إلا بعضًا من الراحة، علّي أستطيع الرقاد دون أرق يركبني في أيام أكاد أجزم أنها الأخيرة. إن ما أخشاه - فقط- أن تسوق الصدفة تلكم الكلمات ليدٍ تحدها سكينًا يبتز بها أحدًا بعدي، أو تجدلها حبلاً يلفه حول رقبتي - حيا كنت أم ميتا- بعد أن تنصب لي محاكمة.. دنشوائيه أخري بتهمة التجريح أو الإساءة لمن يروا أنهم فوق كل المسألة لكونهم ألهه، ليسوا ببشر. أنا لست يا صديقي إلا مخلوقًا ضعيفًا أصابه من أوجدوه، و ربوه، ثم من نشأ بينهم، وعاش بهم ولهم، بآفات سيكولوجية واجتماعية تأصلت في شخصه، فصار أنموذجًا لمن شب يحمل في تكوينه النفسي بصمة تشوهات مستوطنة، عادة ما تسم من يولد فوق أرض هذا البر. لذا أبادر وأدون رجائي هذا حتي لا تخونني الذاكرة فأنسي ذكره: إن حدث ووصلت ليدك تلك الوريقات، كما أود وأنتوي، فما أرجوه منك بإلحاح، هو أنك بمجرد ما تنتهي من قراءة غثائي الذي عبأته بتلك القراطيس التي بيدك الآن، والفراغ من أمرها، أن تقوم بتمزيقها وحرقها، ثم إلقاء رمادها إلي مياه بالوعة صرف النفايات.
معاناة: سر تلك المعاناة التي أعيشها تكمن في معضلة خوفي الشديد من النوم وهروبي منه، رغم احتياجي إليه، وطلبه باستحلاب أقراص جالبة لعينة. هاهي الساعة تقترب من الثالثة صباحا، وما زلت ممتطيًا قدمي، طلبا للتعب والإرهاق أَمِلا أن يأخذني ذلك إلي دكان بيع النوم فأشتري بعضه، بعد أن أصبح المعروض منه شحيحا. أدور - عن عمد - حول مساحة بلا جدران أظنها قد سقطت سهوا، في عالم أصبحت الجدران فيه تسود الناس وتطارد السكان. مساحة تقع في الجوار- اقسم- أنها بقيت خضراء مفتوحة عن غير قصد، حيث باتت الجدران تخنق المكان! عجيب أمر النوم فرغم ذكورته يتخذ طبعًا نسائيا، فإن خطبت وده تمنع وازداد عزوفا عنك، وإن زهدت فيه جاءك يسعي حثيثًا..! اللعنة.. لماذا لم تخلق الحياة من عنصر واحد !؟ عنصر الزمن فقط، يكون الزمن هو ما نحيا ونموت فيه، كيف ؟ لا أدري ! لكن ربما هذا هو الحل الأمثل، للتخلص من ربط الإنسان بمكان - غالبا- تكمن فيه أسباب تعاسته ! فالسجن عقاب بمكان، والنفي حرمان من مكان، والغربة بعد عن مكان، وألم الحنين قد يكون إلي مكان. المكان مصدر لكثير من الأوجاع، حتي عندما يتحول المكان إلي أطلال، فإنه ما زال يثير ذكريات وجع، و بكاء ! أف.. ! لا أشعر برغبة العودة إلي غرفة شبيهة بقبر، أهرب منها لما تسببه من معانة..! لا أحد هناك غيري وأنا، مع يقظة كاملة هي الموت بعينيه ! أي علاقة تلك التي تجمع بَينَ الموت واليقظة !؟ الموت هنا غير أي موت، المكان يؤدي لموتك في حضن لحد من يقظة كاملة لحواسك! وتلك هي المشكلة. حقيقة أني أهرب من وحدة أعيشها، تلك التي تجبرني علي مواجهة مع ذات أجتهد في الهروب منها. فأترك نفسي تغوص في صحبة الناس - أي ناس- حتي لا أجدني وإياها وجها لوجه في خلوة مكروهة. لكن أخيرا أضطر العودة إلي عذاب مكان هو زنزانتي - عفوا- شقتي حيث أقطن معاقرا وحدتي، معاشرا حوائط باردة ذات قلوب حجرية لا تلين صيرتني مثلها، فرغم ما يبدو من أني شخصا مفعما متقد بالجرأة والحياة، إلا أن الحقيقة، أني ذو روح باردة، متخوف من أي شيء، بل متخوف من كل شيء. صرت أخشي من يقظة تحاصرني فيها كلاب المواجهة المسعورة، وأخاف نومًا تهاجمني فيه ضفادع بركة الأحلام، وفئران أضغاثها. لا أجد مخرجا إلا بحشو فمي بتلك الأقراص الملعونة التي توهمني النوم. جبان.. حقيقة الأمر أني جبان؛ أخشي المواجهة أخافها حتي الموت! أعتقد أني مريضً بالعصاب بداء ال " فوبيا " ! نعم.. أليس الخوف الشديد من فعلٍ بعينهِ أو أمر علي وجه الخصوص يقال له " فوبيا ربما أكون مسفسطا، لكن ما أريد أن أوضحه أني فاقد تماما - منذ زمن- قدرة قول أو فعل مخالف أو غير مقبول ممن في قبالتي، حتي وإن تملكتني رغبة ملحة في الإعلان عما اعتمل بالصدر - لا استطيع - فخوفي أكبر من رغبتي! لكن المدهش والمثير للحيرة، هو ما سيطر علي - في الآونة الأخيرة- من رغبة شديدة تفور بداخلي للتجريب، تجريب القول والاعتراف، رغبة مجنونة تدخلني في حوار مخبول - بصوت مسموع- مع النفس: - أَتقول رغبة التجريب ! - نعم ... - تجريب ماذا ؟ - تجربة المواجهة مع الغير، قول ما في الصدر دونما مواربة. - أبله أنت ؟ تعلم أنك فاقد لهذه القدرة! ومحاولتك المواجهة قد يعني الموت! لا بد أن الخرف أمات خلايا عقلك، أو أصبت بلوثة ! - لا تجريب مع الموت.. سيكون نجاحك هو نهايتك ! - أدري.. - أتجرب الانتحار؟ - إن الموت لآت؛ إن أردته أم رهبته، فما الفرق؟ لا أجد تفسيرا لما يحدث لي! فمن صفاتي المؤصلة والتي اعلمها جيدا منذ أن بِتُ واعيًا لإدراك مثل هذه الأمور، أني غير قادر علي المواجهة مع أي كائن!. لكن ما زاد مؤخرا، وهو الهروب من مواجهة النفس. أصبحت علي يقين من عجزي علي البقاء معها منفردا. أهرب وسط الزحام، فارا من مواجهة متوقعة حال انفرادها بي، أعلم مقدما كيف تحصرني في احد أركان الغرفة، التي تقترب جدرانها حتي تصير رباعية المساحة متر في مثله. آنذاك تنقلب الغرفة إلي زنزانة كلحد في وضع رأسي جلدت جدرانه بمرايا، تجعلك في حالة مواجهة صريحة مستمرة مع الذات، تفرض عليك الاعتراف. أتلفتُ حولي مستطلعا الاتجاهات المتاحة، فوق وتحت، يمينا ويسارا، وأينما نظرت لا أري إلا أنا، لكن في صورة كلب جبان لا ينطق، دس ذييله في فمه وانزوي في أحد الأركان! في مواجهته متحديا أنا الآخر، في شكل مختلف سماوي قاتل الكلاب، الذي كنت أراه في الصغر مرتديا زيًا عسكريا، له سحنة رافضة ساخطة، يحدق في وجهي ممتعضا وهو يبصق عليه ضحكا ساخرا، فاغرا فاه بصوت يتردد في الفراغ المحيط ! تأتي ضحكاته كطلقات من مسامير، تخترق اللحم تمزقه حتي تأتي العظم وتدقه. ثم ينقلب وجهه إلي شامَت وهو يقول متشفيا من بين ضحكه وصوت عوائي المكتوم: - هذا هو ما تستحقه من مصير، تقتل ككلب ضال عديم النفع ! أغمض عيناي هربًا كعادتي، ثم أروح في دوائر ألف حول نفسي، مرات لا أعرف لها عدد.اً إلي أن أجهد، يُعيينِي دَوَار من الدوران، فألقي بجثتي المتعبة، التي أنهكها الهروب، علي مقعد طاولة الكتابة، ثم لا كتابة ! فقط موت مؤقت، أنتبه بعده لأعود لما كنت فيه !
قرار: لن أتناول تلك الأقراص المنومة اللعينة..! أمسكت القلم، أحاول أن أخط ما ازدحم في الصدر، وتراكم إلي أن انحشر في الحلق، فلا حيلة في بقائه، لابد أن يطرد! لا مناص إلا التقيؤ، تقيؤ كلمات.. كلمات عسرة الهضم، غير قابلة للامتصاص، وحتي غير قابلة للطرد تحت تأثير الحركة الدودية مع نفايات البدن! عزمت الليلة أن أتخذ من الكتابة حيلة، ربما ساعدتني في خداع حواس متيقظة رافضة للنوم. سأكتب سأصطحبها في رحلة خلال ما مضي من عمر، عسي أن يساعدني هذا في التغلب علي معاناة الوحدة، واستجداء النوم الهارب، الذي يوقعني في أزمة المواجهة مع نفس متبلدة صارت لا تمل من حساب أو عتاب، ولا أجد خلاصا من الأرق إلا بتلكم البلوع التي تجلب موتا محدود الأجل لا يمنح أي قدر من راحة مرجوة ! سوف أكتب إلي الورق سأحكي إليه، عله يكون لسانا يحكي عني، سأسجل في كتابتي كل ما استَحِبيت البوح به، من نفايات أفعالي وأفكاري، كل ما خرج عني: أولا: ما طرده الجوف كنفايات، بسبله المتعددة ( مقدمة أو مؤخرة من فم أو جلد ). ثانيا : ما طرده العقل متغوطا ظنونا وجنون هلاوس، وخيالات مريضة. أخيرا: ما طردته النفس مما تنوء به في شكل أضغاث أحلام. آمل يا صديقي أن تجد لي عذرًا أو سببًا - كحالك معي دائما - يجعلك تتجاوز عن تلك المقدمة المقززة أو الديباجة الملغزة، التي تبدو كإزعاج لا حاجة لك به، لكني لا أطمئن للحكي والفضفضة، أو الثرثرة والكلام إلا لك وإليك. لم يحظ أحد بثقة تمكنني من البوح وإلقاء ما أنوء به علي أعتابه إلا أنت. فمعك يا عزيزي لم أبال قط، لم أخَف الإصابة بحرج الكشف عن الأوجاع و خيابات الآمال . لكن ورغم ذلك ترددت كثيرا في الإفصاح إليك عن مكنون صدري، والكشف عن أمور ما ظننت أني سأطلع عليها أحد. أفقدتني طرق تربية عشوائية تعرضت لها، في مجتمع لا يبالي بغرس القيمة في تربة الطفولة البكر، قدرة التحدث عن الذات والتعبير عنها! فكنت هذا الإنسان وما أصابه من خلل، نتاج برمجة خاطئة في الصغر، منحتني تركيبة نفسية غير سوية فيها الكثير من الأمراض الاجتماعية. نشأت شخصًا لا يقول الحقيقة ولا يقدر علي قولها، إلا بعد أن يلوي عنقها بشكل أو آخر ليصب في إناء مصلحته الشخصية. شخص مناوئ لا يواجه الآخر، كاذب انتهازي، محب لذاته لا يري إلا نفسه والأنا! عندما شرعت في الكتابة إليك، كان قراري الذي اتخذته، هو تجربة قول الصدق، بعيدا عن أي حسابات، فهذه أول محاولة مني لمواجهة النفس، والاعتراف بنقائصها. اخترتك لتكون والورق شاهدين علي ذلك. الورق الذي لا يكل - أبدا- يا صديقي من بوح إليه، الورق الذي لا يُغير ولا يُلون حقائق حفظت في قلبه، يحفظها ويبوح بها كما هي، الورق ذاك المتلقي الجيد، الذي يصيخ السمع، ينصت لكل حرف يقال، صابر لا يمل من ثرثرة، له سعة صدر غير محدودة، في قلبه الأبيض صفحات لانهائية، يسمح لمن يرغب أن يسودها بجد أقلامه أو هزلها، مساحات متاحة لمن لديه قدرة القول.
تمهيد: الآن دعني أعترف، أحاول إخراج خبيئة الصدر وما بها من أقوال، أخبار وأحداث مضت، قد تكون أشياء وقعت في عمر الطفولة أو قبل أن نلتقي، وربما أمور لم تسمع عنها شيئا نظرا لسفرك حينها، أو لأني أخفيتها عنك. أيضا سأقص عليك أشياء عاصرت حدوثها، لكنك لم ترها إلا بعيني رأسك أنت، فسرتها علي محمل من ظنك أني شخص نقي حسن النية، يجتهد لفعل الطيب، ويتجنب فعل الخبيث و المنكر، ولقد صار ظنك هذا من أسباب شقائي الآن. أستأذنك يا عزيزي وقبل بدء الحكي في سؤال طارئ لكنه ملح: ألم يحدث يوما أن ساورك الشك فيمن حولك؟ ألم تسأل نفسك، هل وجد في تاريخ البشرية، إنسان لا يأتي الخطأ ؟ أوجد علي الأرض إنسان خرجت أخلاقه عن سمات عنصره الطيني؟ أو تشابه في القول أو الفعل مع مخلوقات نورانية، لا ينصرف لها فعلا إلا للخير؟ أوجد من شذت أفاعله عن الناموس الآدمي؟ أوجد بشري واحد صمد في وجه شيطان نفسه الضاربة العازفة - دائما- علي وتر الممنوع والمحذور؟ تلك النفس البشرية التي تعمي العين عن سوأتها، وتفتحها واسعة مبحلقة متبجحة محققة في سوءات الآخرين، فلا تحسن الظن - أبدا- فيمن حولها! فكيف بالله عليك، وتبعا لأي منطق منحتني - أنت - حسن ظن مطلقا؟ عفوا يا صديق، دعني أقولها صريحة لك الآن: أنت في غفلة أيها العزيز!. لن أطلب يا صديقي منك الكثير، فقط الصبر علي ما تقرأ. كما يقول أهل أرض البر: " الصبر مفتاح للفرج " إنه قول مأثور أليسَ ذلك ؟ الصبر ذلك الموروث الثقافي، الذي أساءوا تفسيره- كعادتهم في قلب الأمور- وإفراغها من المضمون! حُوِلَ معني الصبر علي أيديهم إلي ما يتلاءم ويتماها مع طبيعتهم المتواكلة الكسولة. وربما حرف علي لسان تنابلة السلطان هؤلاء الذين أفسدوا القيمة الحقيقية للصبر! فالصبر لا يكون إلا مقرونا بالتدبر في الأمر والعمل الدءوب، لا يستقيم صبرًا مع نوم وكسل أو قعود يفضي لاستسلام ويأس. وربما استترت وراء تلك المقولة حكمة مغرضة، قيلت علي لسان سدنة أحد الفراعين الذين لا يتركون عروش اعتلوها إلا وهم محمولين علي عربة مدفع! ومن عساه يكون المستفيد من صبر صار مقصلة للألسنة وكمامة للأفواه، صبر أصبح داءً يصيب الإنسان بتثبيط الهمة، والسكون والخنوع، داء يبدو أنه أستوطن في أرض البر، وأصاب غالب ناسه! فبالله عليك، من هو المستفيد الأول - ربما الوحيد- من فقد الناس القدرة علي الكلام أو الرفض؟ من الرابح في معركة ضد استبداد، لا يرفع في وجهه إلا سلاح الصبر؟ أيمكن أن يكون الصبر وحده مفتاح للنصر؟ أو أداة تغير أو قوة تعزل طاغية، هكذا دونما التلويح براية أو رفع إشارة، أو هشة بمذبة ؟ لا يوجد بين ناس البر كلهم من هو مستفيد؛ فقط فرعون وسدنته من حاشية المنتفعين، من ضباعٍ أكلة كل شيء حتي الجيف!. علي أية حال ستحتاج أنت لبعض من الصبر، لتقرأ رسالة غير مترابطة أجزاؤها و غير متسلسلة أحداثها - أظنها هكذا - امتلأت بشطحات عقل قد يبدو أنه فك عقاله، أو أن لوثا أصابه، فراح يهذي هراء، و يسفسط بخيالات و أوْهَام ! دونما شك سيعوزك ولو القليل من طول البال و سعة الصدر، لاستيعاب ما نسجته سطور الرسالة كصور مباغتة، أو سقطات، وأحداث مخيبة، عادة ما تولد إحباطًا في النفوس. لا تبتئس أيها الصديق فالحقيقة غالبا ما تكون صادمة موجعة، وجهها قبيح في معظم أحوالها!. أسمعك تتأفف من طول المقدمة و تتسإل عن لزومها، هامسا إلي نفسك: - ما بَال هذا الخرف؟ ما له يعيد ويزيد في الأمر؟ ثم يرجع من حيث بدأ مكررًا نفسه، ربما يغير من صيغ العبارات لكن المعني واحد؛ يبدو أن الهِرَم قد أربك تلافيف عقله ! ألا يدري هذا الأخرق أن أفضل الطرق لنقل معلومة أو توصيل صورة بين نقطتين،هو النقل بطريق مستقيم مباشر. أقول لك، أن ما حكيته كان ضروريا ولازما لأعدادك نفسيا، ولشحذ رغبتك لمواصلة القراءة. لذا أيها العزيز أرجو منك التأهب لما سأقصه عليك، حتي لا تباغتك المفاجأة فترميني بالسفه.
نص الرسالة: عزيزي السيد / مخلص رفيق عمر ... تحية حب، سأحاول جاهدا - علي غير طبيعتي - أن أجعلها خالصة ولو نسبيًا من شوائب خبث الرياء، ونفاق الكذب! الكذب الذي صار جزءا أساسيا في مكونات هواء نتنفسه. حتي بات نسيج خلايا الجسد البشري يتكون من ثلاث ذرات هن علي الترتيب " الكاف والذال والباء ". سأعمل علي تنقيتها بمصفاة من الإعزاز والتقدير لشخصك، الذي تَحَمَلَ صداقة شخص مثلي بكل ما في نفسه من تركيبة غير سوية والتي جمعت بين جوانبها كثيرًا من المتناقضات. تجر خلفها سلسلة - ما بطن وأعلن- من نواقص متباينة. لقد تساءلت دائما يا صديقي فيما بيني ونفسي: لماذا قبلتني كصديق رغم كثرة نواقصي، هل كان ذلك إيمانا بالصداقة، أم إيمانا بالقدر؟ أما بعد.. حتي اللحظة التي أمسكت فيها قلمًا ذا مثانة منتفخة بحبر أسود، وسنًا دائم الانتصاب، متحرشًا بورقة بيضاء كنوارة القطن، متأهبًا لتدنيس نقائها، حتي إن هاج دلق كلمات ليست إلا بذورًا شيطانية علي طهر صفحتها البكر، مدادها غثاء بلون النيلة ! كنت في حيرة ووجع مبصر يتخبط في ظلام حالك ! لا أعرف كيف ؟ أو من أين أبدأ خطابي هذا ؟ لم أعش هذه المعاناة يومًا، فأنا لم أعتد قول الحق، أو ربما لم أتعلم قوله. لكن.. لم !؟ألأني أستشعر قوله صعبًا موجعًا، أو لأن مجرد النطق به يسبب ألم نزع ظفر أصبع الإبهام . حين أن قول الكذب علي العكس تماما - ما أيسره - فرغم فجاجة رائحته ! وأثره المفسد عليك وعلي من حولك، إلا أنه يخرج من اللسان خروج الخراء اللين من الدبر! أرجو أن يتسع صدرك لقراءة كلماتي المسكوبة علي صفحات الورق، وما قد تحمله علي ظهرها أوفي جعبتها من معانٍ صادمة، وأن لا يكون صبرك قد تطاير متبخرًا مع سنوات العمر، حتي يمكنك استيعاب الكثيرٍ مما اعتزم البوح به. كما أرجو أن يسمح الوقت لِي لأطلعك، ولك لاطلاعَكَ عما تراكم في الصدر علي امتداد سنوات هي طول العمر. أتعلم يا صديقي أي شعور تملكني لحظة أن قررت الكتابة إليك؟ وكيف رأيت صورتي وأنا واقع تحت تأثير الخوف من كتابة ستكون كخلع ملابسي في ميدان عام ؟ نعم .. نعم لك الحق فيما تقول، فالبعد بيننا بحساب الأيام أو بحساب الأميال، يعطيك كل الحق في أن تقول: ما أدراني..! فعلم الغيب يخص الله وحده. علي كل الأحوال إليك صورة رسمها عقلي المتردد.. المتوتر، حيال فكرة الإفصاح عما أضمر: أراني رقدًا ممددًا علي الظهر فوق حصيرة خشنة بالية، نسيجها الممزق تحور إلي إبر تتجاوز ملابسي المهلهلة، تلسع جلدي، أتململ في رقدتي. يركب فوق صدري رجل غبي الملامح، حلاق الصحة يعارك بكلابة صدئة خلع ضرس عقل ضاربة جذوره حتي أصابع القدم ! أنا - لا حيلة لي- في رقدتي هذه فاشخ الفم إلي حد الألم، هو يخلخل ويجذب ثم يستريح، ليعود يخلخل ويشد الضرس، ثم يتوقف ثانية ملتقطًا أنفاسه لاعنا عمله ! سائلا الله أن يتوب عليه منه. حينئذ أشعر برأسي كرة شراب تشوطها الأقدام، وأحس جبين حلاق الصحة وهو ينضح متصببا عرقًا، تسيل قطراته علي وجهي بلون وحل الطريق، ورائحة نفسه وعرقه النافذة الزَنِخُة، فأكاد أقذف ما في جوفي. كان هذا الإحساس يسيطر علي إذا ما نويت قول الحق، بل قبل الشروع فيه. فكيف إذن لا أخاف ولا أتردد ؟ وهذه هي شخصيتي التي أهدونيها منذ الصغر، فشَببتُ وشِبتُ عليها..! سأحاول يا عزيزي أن أتخيل ساعة الحكي أني جالس في خلوة الاعتراف. لاستحضار رهبة وجلال الحدث، لحظة ممارسة طقس مقدس. فتلك لحظة الشق عن القلب، وعرض باطنه الأسود لضوء الحق. لا خيار إلا الإفصاح عما اقترفت من معاصي وخطايا، مقرًا بالذنب في حضرة المبجل " أب اعتراف " وتكون أنت شاهد علي البوح، علك تتضرع من أجلي طالبًا المغفرة. سأدفع النفس - لم أفعل ذلك من قبل- حتي تتجرد من أقنعة تحجب حقيقتها عن الآخرين، وتنزع كل ما يخفي قبح عوراتها، ويستر حقيقتها الدميمة لطابعٍ إنساني مخادع. فقد عشت حياتي خلف أستار حاجبة، صانعًا منها دمية، وجاعلاً لوجهها الكثير من ألوان وأصباغ تحبها الناس وتمتدحها، دونما وعي بكينونتها الهشة الحاوية لخواء رطب عفن، علي أساس من ثقافة الاهتمام بالشكل و إغفال المضمون، وعقيدة الأنا العليا : أنا قبل كل شيء، وفوق أي شيء " أو " أنا وما بعدي الطوفان ". سوف أحدثك عن كتاب هو قصة، تعتقد أنك قرأتها، لكنك ستكتشف أنك لا تعرف منه إلا الغلاف..! رغم عنوانه الذي نقش من كلمة واحدة هي.. أنا . أي أنه السيرة الذاتية لصديقك الذي حسبت أنك تعرفه ! فصل من رواية تصدر قريبا