سماء مفتوحة ... وجدران أربعة تحيط جسد غزة بالألم، سماء مفتوحة لصواريخ وقذائف دموية الهوى لأجساد الصغار والعجزة المكبلين بحصارهم... يبحثون عن شىء مفقود في زمن فقدوا فيه كل شىء، اللهث خلف رغيف الخبز الضائع ، والبحث عن جرة غاز قد تسد رمق الصغار خلف جدران البيت، استيعاب العيش في يوم كله ظلام وسط برد يهتك عرض الرجال قبل براءة الصغار... إنه الوجع اليومي المتسربل من أعين الأجنة الذين فقدوا حياتهم في مستشفيات خالية إلا من الموت... ماذا يملك صاحب الرداء الأبيض إلا الدعاء لله أن ينقذه من عجزه تجاه عشرات المرضى الذين يبحثون عن دواء أو مسكن لأمراض مزمنة لتفصل علبة الدواء بينهم وبين الحياة... حين تعجز الأم عن إجابة صغيرها... أمي لماذا لم تضعي لي رغيف خبز حين ذهبت للمدرسة..؟ تعتصر الأم ألمها معتذرة من صغيرها لكن خوفها ألا تجد هذا الرغيف لأيام متواصلة أصبح خنجرا يصلبها كل لحظة، وتدرك أن هذه الأم تعيش بين جدران أربعة وسماء مفتوحة للقصف والموت المفاجىء..!! إنها أوقات الموت المجاني تحيطك كل الجثث خالية الروح والجثث حاملة الروح قد تغرق بينها ربما إن حاولت، لكن الموت يتعثر بك في الطرقات للمدرسة وللمشفى وللبيت وإن حاولت أن تصرخ أو تقول لا للموت، فهي لا تنال إلا من بعض صور وتعود خائبة للجدران الأربعة مرة أخرى... إنه الموت حين ينقض على عينيك فتجد أنك أصبحت أعمى لا تكاد تجد متسعا لترف التفكير في مآسيك.. وحين تنتفض تشعر أنك تهذي وحدك في سجن كبير فلا تسمع إلا صدى صوتك...!! إنه الظلام يفاجئك مرة أخرى . .......... الشيب يخط وجهه في رأسي رغم محاولاتي الحثيثة لوأده، إنه يتغلغل في دمي ليصلبني فأجدني أصغي لصوته الجهوري رغم شيخوخته... أحاول أن أصغي لأصوات أخرى لكني أعود أنهزم إلى ذاتي، أسبح في ظلام مشبع بالألم، يصبغني بقوته فأراني أحيا بطريقة مختلفة عن تلك التي حلمت بها، تفتت جدران مقاومتي ووقفت كشجرة مقطوعة الجذور أسعى للتشبث بالحياة/بالموت.. إنني الآن أفتح أوراقي المحاصرة، أنثرها على تلك الجثث المبتورة ألطخ أوراقي المرفهة بالوجع الجميل بدمائهم المسفوكة، إنهم يحيطون بي أطفال رضع وشيوخ كبار ونساء مبتورات الوجوه، وشبان جاحظي الأعين، في دقائق معدودة سقطوا من حولي/فوقي/تحتي، أكوام تكدسوا أجسادا/أشلاء ، أشتعل بكاء/وجع، أتسربل كضوء مفقود، أتناثر في أضواء تلك المدن، خيمتي تمزقت، وعدت من جديد إلى هناك حيث سماء مفتوحة وأربعة جدران نازفة، أحيا الآن مثلهم/أموت، إنه الموت يشتعل في صدري، ينصهر بنزف موجع لم يعد للبكاء مساحة في يومياتي الصغيرة، لمحته من بعيد يحمله ذو السبعة أعوام تحيطه كوفية حمراء – فلسطينية- وقد امتزجت بحمرة دمه المنهك، يدثره في قطع كرتونية مهترئة بعد أن شحت الأغطية في المشفى، حتى موته لم يجد ما يدثره به من برد الموت، إنها يوميات الحصار الذي يدب لعنته في أوصال أطفال غزة ويقترب منهم الوجع حتى النخاع فلا يملكون كلمات يفسرون فيها الألم... ويذكره... هل تشعر بالألم يا بني؟؟!!
حملوا جسدك الغض يا صغيري/صغيرها تحت المطر، كانوا يسيرون عراة إلا من الألم، يهيمون بك في طرقات المخيم الممزقة، يحيدون بك عن كلمات متفجرة تأتيك عبر شاشات التلفزة، لازالت تريد أن تتأكد من موتك العلني، كانوا يهرعون بك إلى الطرقات الملتاعة الحبلى بدموع العشق غير أنه عشق محرم علينا يا صغيري، حاولت جاهدة أن أحمي جسدك الصغير لكن كنت تحت الأنقاض المبللة بصوت الطائرات الملعونة، كنت بين يدي أهدهد خصلات شعرك الخشنة( ضحكة تتسرب إلى أعماقي) لم تغتسل منذ ثلاثة أسابيع بعد أن فقدنا الغاز والكاز والكهرباء، كنت ملتاعا من البرد ترتعد فرائضك من الهواء الفج الذي يلوح بوجهك كلما حاولت أن تغفو، ومن انسيالات المطر من فتحات الاسبست المتسعة في وجوهنا دوما، كنت دوما تشير بيدك الصغيرة لتلك النوادي الفارهة والألعاب العجيبة وتسألني هل هذه موجودة يا أمي أم يضحكون بها على الصغار مثلي؟؟ سؤالك لا زال يعلو جسدك المسجى أمامي هل يقصفون بيتنا بصواريخ حقيقية يا أمي أم أنها مفرقعات وأصوات غير حقيقة؟؟ حفرت قبرك على يدي يا صغيري/صغيرها وحملت دمك المسكوب على وجهي وعلى صدري، وشربت وجعك صمتك وعيناك المفجوعتان، كنا جميعا نخاف موتك والآن لم نعد نخاف شيئا أبدا، كنا نضعك في عيوننا ولم نفاجىء حين قتلوك بيننا وحدك، فقد كنت أغلى ما نملك واعتدنا أن يسلبونا أعز ما نملك لأنهم يريدون موتنا أن يكون بطيئا ويبقى أبدا، وضعنا أنا وأبيك ما تبقى من أغطية وأقمشة على شباك الغرفة، ودققناها بالمسامير الصدئة، ثم أغلقناه بدولابك الخشبي ، ونمنا قربك بل في حضني لم أتركك لحظة وأبيك حارسا على باب الغرفة يدور في أرجاء البيت الصغير وكلما سألتني لما لا تسقط الطائرات يا أمي علها تصمت لحظة لننام فيها؟ كان أبيك يطل برأسه من باب الغرفة باسما ويقول لك: هذا صوت أقدامي يا ولدي، وصفيري فالبرد شديد الليلة. وكنت تبتسم لأبيك وتعود تسأله : ما الذي تلقيه الطائرات يا أبي؟ فيصمت وتجيب: صواريخ يلقوها علينا نحن الصغار لماذا يا أبي هل نخيفهم إلى هذا الحد؟؟ كنت كبيرا كبيرا وكانوا صغارا ، كنت تريد أن تلعب مع أصحابك خارج البيت ولم تقنع بما قلناه لك واصطحبك والدك لتطل خارج البيت وفي الزقاق لم تجد أحدا من أصحابك ولم تجد أحدا من الكبار الذين كانوا يفترشون باب الدار يتحادثون.. وعدت لغرفتك مكلوما وكأنك فقدت عزيزا؟ لم تتجاوز الستة أعوام يا عمرو لم تتجاوزها وعدت مهموما وساد الصمت طويلا.. قلت ليلتها: أمي لم يعد المكان كما كان؟ وأضفت: ربما هناك أجد أصحابي؟ لا تبتعدوا يا أمي؟؟ صرخت على أبيك وأخذك في حضنه وظل يتمتم بآيات القرآن على رأسك حتى غفوت وغفونا جميعنا/ أفقنا على ركام وكأنا كنا نبيت في الشارع، الانفجار كان مدويا لم أتمكن من رفع رأسي كنت أشد على يديك، وجهك، أنفاسك، كنت أصرخ باسمك لكن السواد كان يغطي عيناي كنت أراني عارية من الألم، كان السقف قد وقع على رؤوسنا، وكنت أجذبك نحوى وقدماي عاجزتان عن الحراك، كانت الأنوار تأتيني لتصيبني بدوار ورائحة الموت والدخان يعبىء صدري، الأتربة والحجارة تغطيني فأشم رائحة الدم المسفوك على أعتابها، الصرخات تكسر صمت القبور من حولنا، أشدك إلى صدري ويداي مكانهما، حملتني أيد ملائكية ولمحتك تبتسم ودمك بات عطرا للدار، وقعت أرضا وجذبتك نحوي، كنت لاتزال مبتسما وعيناك ناعستان ويدي والدك تجذبك نحوها... كانوا يهرولون بجسدك بعيدا عن صوت الطائرات الملعونة، كان جسدك ينتفض رغم موته كلما قصفوا بيتا، طفلا، حارة، كانوا يقعون بين ركام البيوت، يحملون جسدك النحيل بعيدا عنا، الكثيرون يريدون التحقق من موتك وكانت جنازتك تخلو منا أنا وأبيك كنا-لازلنا- نضمك إلى صدورنا الممزقة، كنت أغلى شيء يا صغيري/صغيرها..
تساءلت بيني وبيني، ثم بيني وبينهم ثم بيني وبينهن.. هل لازلنا أحياء نعيش ونفرح ونبكي ونلهو ولازلنا في عداد البشر..؟؟!! هل لازلنا فيما بيننا وبيننا نستشعر الألم والوجع الذي طال حتى ملامح وجهنا.. مضينا في طريقنا نقلب الوجوه التي طلت علينا ذات يوم -محاصر- كنا ثلاثة صبايا تمخر بنا السيارة عباب الطريق لتحيله سرابا نازفا خلفنا.. كدنا أن نعد مسمات الطريق وأن نقف في وسط الإسفلت المطعم بالعشرات من المطبات الحقيقية والوهمية وتلك التي نراها من بعيد لنكتشف أنها سراب.. جالت بخاطرنا عشرات القصص لوجوه نساء لعنتهن أزمانهن وكن عنوان الألم المخفي في الوجوه المتزاحمة في قفص كبير كبير أخذ يصغر حتى باتت عيون البشر خارج القفص بينما لا ترى أجسادها النازفة ولا تشعر بالدماء التي تغطيها إذ بات الألم أكبر من النطق به..
زهرة تذوي..!! كانت شابة صغيرة تكاد أن تنقسم نصفين للجنون الذي يحدق بها، يقترب منها والدها ليمنحها حنانا لكنه ليس حنان الأب الصادق، تراجعت الصغيرة مرارا وشكت مرارا وصوته يدق في رأسها أنا أبوك لا تخافي؟؟ ولكن لما تتحسسني بهذه الطريقة لا يفعل الآباء ذلك؟! لا أشعر بذلك.. حذرتها أمها التي تشعر بما يدور في الأفق لكنها لا تقوى على فعل شىء فالترهيب والضرب بات جزءا يوميا من حياتها، والحزن بات معلما يفوق تحملها. الأم لا تملك إلا أن تبقى في حالة ترقب ويقظة خاصة في ساعات الليل وتحاول ألا تتركها، إذ لا يتوانى الوالد المغوار عن التسلل لينال خيالاته المجنونة، ولا يتوانى عن اختراع فتحة دقيقة في الحائط المؤدى لحمام البيت ليتفرج على عرضه ليصونه ويحميه!!! الأم أذابها حالة الانفصام التي وصلتها ابنتها من تصرفات الأب وتسللت ذات مرة بمساعدة إحدى النساء لتصل لأخصائية نفسية والتي لم تجد -بدورها قدرة إلا على العمل لتقوية ثقة الفتاة بنفسها، وتسليحها بالدعم والمؤازرة والثبات على قواها العقلية والجسدية لتوقف الأب عند حدوده التي كفلت له كونه أبا مسؤولا لا متسولا!!..
... زهرة أخرى تموت ممددة بانتظار الكفن الأبيض الذي سينقلها بعيدا عن العيون المتلصصة وعن الهراوات الغليظة، جسدها كان مشبعا بالوجع حتى تلاشى لون بشرتها الأبيض ليتحول لكوكتيل من الألوان المخيفة ..شفق الشمس، وصمت القبور، ولون الألم ..هل رأى أحدكم يوما لون الألم الذي تحمله النساء اللواتي يتلقين الهراوات ويهربن لعائلاتهن طالبات النجدة، فيعيدها الأهل لزوجها ومن لك غير زوجك..!! وتعود مغلوبة على أمرها ويتكرر المشهد مرارا حتى يسأم الزوج ويضربها للمرة الأخيرة...ويمنع أحدا من رؤيتها سوى المُكفنة لأن بها مرض معدي قد يصيب المودعين.. ولكن قلب الأم يقفز أمامها وقدماها تصبحان كشجرة سنديان عتيقة لتطيح بمن أمامها وتدخل لترى فلذة كبدها..لترى آثار الضرب المبرح في كل أنحاء جسدها، والبقع الزرقاء التي شوهت جسدها النحيل، لترى ابنتها التي جاءتها مرات ومرات فتهلع من هول الصدمة وتصرخ وتصرخ.. ابنتي قتلت.. ابنتي قتلت.. قتلناها..قتلونا !!
... وأخرى ترتعش تعمل وتجتهد كنحلة هي في مؤسسة عملها، ولكن ما أن تعود لبيتها حتى يتسلل اليأس إلى قلبها والهم يملأ وجهها الفتي فباب غرفتها ممنوع أن يغلق، وحتى في أيام البرد والشتاء تنام وأمها، هي على السرير وأمها كأنما تحرسها على الأرض قربها، تفزعان من كل صوت.. قهقهة الأب تصلهن من الغرفة المقابلة، لديه كمبيوتر وتلفاز وفضائيات وجنون يشتعل في رأسه الأشيب، هاهو ذا يطل عليهن ماذا تفعلن..؟؟! ذات مرة كانت تريد تغيير ثيابها حين عادت من العمل وقف كشيطان أمامها: افعلي ما تريدين؟؟. ما المشكلة في وجودي؟؟ لا تظني أني ساترك ما يسمونه –زوج- يخطفك مني.. لا أفرط بك لآخر، قلبي غضبان عليكي لو تزوجتي بعد موتي!! ويهتاج صائحا سأخرج من قبرى وأقتلكما.!. تصيح الأم محاولة أن تنهي الحوار اليومي فيصفعها على وجهها، ويقف مرة ثانية، تبكي الشابة وتصيح وتصرخ لكن لا حياة لمن ينادي.. لو كلمة خرجت من هذا البيت سأحرقكم جميعا.. تصيح الأم لم نلجأ؟ لما تحول حياتنا جحيما؟؟!! الشابة تعيش جنونا مطبقا في البيت ضربت ولازالت، الأم ضربت ولازالت وحين حاول أحد الإخوة وهم أصغر سنا من أختهم التدخل انفجر جنون الأب ولم يضرب بالعصا فقط !!؟؟ عشر سنوات مرت والتحرش لفظا وفعلا لازال قائما فمن يبالي؟؟ ومن يشعر بحياة البريئات خلف الجدران الإسمنتية. ..... تزاحمت الصور والمعاني وتذكرتها تلك التي جاءتنا ولم تجدنا.. جاءتنا والعيون تنهش جسدها.. جاءتنا بقصد الهرب لكنها جاءت بعد أن انهينا الدوام بحثت عن عيون تشبه عيونها.. عن احد يسمع شكواها/موتها، لم تجد أحد غيره اعتقدت لبساطتها أنه قد ينجدها، هو زميل صحفي- سردت قصتها وهي ملتاعة متألمة جئتكم هاربة وليست المرة الأولى التي أحاول فيها الهرب، والدي يحضر لي رجال على البيت، الرجل ب50 شيكل، وأحيانا ب 20 شيكل وسيجارة فهي عملة صعبة ..ضحكت وبكت في آن.. لا أريد أن أفعل الرذيلة قبلت قدميه أن يتركني أنظف البيوت وأعطيه ما أحصل عليه، رجوته أن يعتقني لأجل الله ولأجل أمي الميتة ويتمي من الإخوة والأخوات.. هربت مرارا لكني لم أجد من يحميني .. هي زهرات تعيش بيننا نراها ونشم رائحتها في طريقنا للحياة.. زهرات واقعية من لحم ودم ليست من نسج الخيال.. لكنها زهرات تذوي وتصرخ وتبكي ويسمعها آخرون، لكنها دائرة مغلقة فمن يحمي من؟؟ ومن يلجأ لمن؟.. وصلنا نهاية طريقنا كنا ثلاثة صبايا وكلنا ترجلنا من العربة وعشرات الوجوه تحاصرنا، تدك حصون العقول فالصورة لم تكتمل وخلف إطارها عشرات الوجه الذابلة، فمن يلمح ظلا للوجوه ومن يملك صوتا للبقاء..!!!
الآن هو يوم آخر من الحصار وعيناي ترقبان الشريط الإخباري وقلبي يخفق بقوة إذا ما تبادر إلى سمعي كلمة معبر.. معبر. عابر.. عبور.. الحدود المصرية .. وقع هذه الكلمات يمزقني مرتين حين أسمع وقع موسيقاها على أذني وهو يسقط السيف الآخر ليحطم قلبي حين أدرك أن آمالي وأحلامي ليست إلا سرابا بفتحه.. لا أطمح إلا بيومين فقط أتنفس فيها لأتمكن من السفر لمناقشة رسالة الماجستير التي من المفترض أنها جاهزة منذ عام كامل، ونتيجة طول انتظاري ومرور الوقت اضطررت لتغيير الجانب النظري بأكمله وتحديثه لما يتلاءم مع الدراسة بل لقد أعدت الجانب العملي للدراسة فباتت دراسة حديثة نوفي- حول الواقع المهني للإعلاميات الفلسطينيات- والآن يقف مصير مناقشتي على فتح المعبر فالأخوة في رام الله لا يعترفون بمناقشة الفيديو كونفرنس والأخوة في غزة ولأول مرة يتفقون علينا نحن الطلبة الغلابة ليقولوا قولهم، والعاقل يقول يا عالم افتحوا هالمعبر لأني أريد حقا أن أناقشها كباقي العالم المتحضر ولكن هل سأبقى مكتوفة الأيدي أنتظر وأنتظر سنوات الضياع لتنقضي؟؟!! قلت لصديقة ناقشت رسالتها الأسبوع الماضي مهنأة إياها بالتخرج –لكنها الآن تسكن في الضفة- يبدو أنني في بلد المغضوب عليهم لذا سأبقى محلك سر فلا حق لنا في التعليم واستكمال الدراسات العليا ولا حق لنا بأن نستزيد علما ولا شطارة لأن هذا سيؤذي أطراف كثيرة على مايبدو!!! سنوات الضياع: سنوات الضياع مسلسل تركي مدبلج فوجئت بأنه باب الحارة الثاني لدى كل من أعرفهم بغزة فمن السيدة العجوز إلى الشابة إلى العاملة والطالبة تعبت من الاستماع لتفاصيل لم أفهمها ولم أشأ ذلك لكني في أكثر من جلسة ولقاء استمعت وكأني مشاهدة رئيسة.. المسلسل التركي المدبلج لا يصله بواقعنا الفلسطيني إلا اسمه- سنوات الضياع- فقد أصاب الجرح وتركه نازفا.. فهل كثرة المآسي من حولنا جعل همنا في لميس وتلتبيس؟ هل نحاول الخروج من المأزق لنتعاطف مع عالم غير العالم الذي لا يمكننا الوصول له؟؟! منذ أربعة أيام بت أتابع سنوات الضياع ونور أيضا رغم انشغالي؟؟!! هل هي شراهة المعرفة لما يتحدثون به أم أنها حالة باتت تأسرنا ولا يمكننا الفكاك منها.! سولار.. سولار: بينما كنت أجلس بجانب صديقة في سيارتها الخاصة وفي طريق عودتنا من غزة إلى رفح وصلنا منطقة المواصي.. كانت الشوارع الإسفلتية جرداء بينما العربة تلتهم ما تبقى من رحيق للطريق، كانت مظاهر الحياة شبه معدمة وحركة المرور لا تذكر فالبلد تئن من قلة السولار وما يسد رمق المركبات وحتى البشر كادت الطرق تخلو منهم، وفي أثناء الألم الذي كان يعتصرني من قلة البشر وسوء الحال والشلل الذي أصاب الحياة في غزة تقريبا استوقفني من بعيد ما يقارب من عشرة فتيات صغار وصبايا بزي المدرسة وقد لمحتنا الفتيات من بعيد ليشبكن أيديهن ببعض مغلقات الطريق الإسفلتي العريض ونظرا لمواصلتنا بنفس السرعة السير فقد تفرق متصايحات وبعضهن مهللات بكلمات لم نفهمها بينما أيديهن تتحرك تجاهنا بحركات جنونية رأيتها غريبة كل الغرابة التي أرى فيها بنات بلدي وكأنما رأين مشهدا لم يرينه في حياتهن.. فهل المشكلة في النظارات الشمسية التي كنا نرتديها أم الغرابة أن نساء من يقدن العربة؟؟ أم أن الغرابة ربما- وقد أدركت هذا لاحقا- أن عربة لازالت تسير في عز النهار في غزة!! وربما الإجابة التي قد تشفى الصدور أن العربة كانت تسير على الغاز وليس السولار..!!
لحظة هاربة استذكرته اليوم والدمع يملأ عينيه العجوزتين، رأيته منذ ثلاث سنوات بحي السيدة زينب بالقاهرة، كنت على عجلة من أمري وصديقتي تمسك بي من يدي لتمررني من زحام مصر المخيف، لم أجد متسعا من الوقت لأخبرها بأني رأيت عيناه تتلألأن بالدمع مادا يده العجوز المرتجفة بينما يجلس على رصيف أحد الشوارع، صرخت بيني وبيني يجب أن أعود له ربما أعنته على يوم واحد وبضع ساعات، ربما كنت ملاكه الذي سخره الله لكني كنت مشدوهة من هول الألم الذي أصابني، و حاولت أن أتحاشى عينيه الهرمتين وجسده النحيف بينما ابتسامة ساخرة خيلت لي قد طبعت على وجهه الحزين، تناقض يوم بأكمله عشته وذلك العكاز يكسر بقية نهاري وعدت مع صديقتي متلهفة وعزائي أني سأجده بنفس المكان ، لكني وقفت خالية الوفاض وقلبي يقفز مني، تنبهت صديقتي لتيبسي في الأرض وأنا أشير بيدي في ذات المكان، لم أدرك أبدا أنه سيبقى يلاحقني حتى اليوم، فاللحظات التي تفر منا ربما لا نقتنصها ثانية أبدا..!!