كان رقماً غريباً علي هاتفي، وما أكثرها يومياً. اتصلت بأحدها بالصدفة، فكان هو. غير رقم هاتفه. كان ذلك الصوت الذي لم أسمع رنته المميزة منذ أربع سنوات. هاجمته : «يا غواخيرو !. أتصل بك يومياً من سنة ولا ترد. غواخيرو منحط» ! . ظل يضحك كطفل. لم يتغير إيقاع ضحكته أبداً، وأنا ضحكت مثله. كانت رنة صوته لشخص آخر. آخر محبط. و«غواخيرو» كلمة إسبانية للسخرية والتباسط، ومعناها «الفلاح الخام» !. قلت له : «لماذا أنت مختف عن الأنظار؟». عاتبني علي عدم السؤال عنه، فأنكرت التهمة. بعدها فاجأني بأنه لم يخرج من البيت منذ أكثر من سنة. ظننت أنه يمرع كعادته. رد بصوت مكتوم، استغربته تماما. سألته بلطف : «لماذا تبكي ولا تراوغ ؟!». طمأنني بضحكة قصيرة. قال إنه.. إنه في ورطة. رجاني ألا أتأخر عليه. كان يغير إقامته باستمرار. عرفت منه العنوان، واتجهت إليه فورا! وصلت إلي بيته سريعا. طرقت علي الباب فلم يرد. انتظرت، فسمعت دبدبة علي الأرض. مرت خمس دقائق. اتصلت علي هاتفه. ارتبت، وقبل أن يجف ريقي تماما، فتح لي الباب. لم أره علي هذا النحو أبدا. كان نصفه الأعلي مختف تماما. كان يحبوا علي يديه وقدميه. ارتعبت، وحاولت أن أوقفه علي قدميه. قال: إنه لن يستطيع الآن. أجلسته علي كنبة بالصالة. وأعددت له طعاما، وفنجانين من القهوة لنا. كان كل شيء واضحاً. بعد أكثر من نصف ساعة، اعترف لي بأنه مصاب بنوبات قلق مزمنة، وإنها داهمته منذ أكثر من سنة بعدما تعرض لعلقة ساخنة من ضابط وأميني شرطة عندما حاول الدفاع عن زميلته في الجريدة التي كانت تتعرض لتحرشات لفظية منهم بعد منتصف الليل في ميدان الجيزة، ولم ينقذه طبعا أي من المارة. وتركوه غارقا في دمائه قبل أن تنقله زميلته إلي أقرب مستشفي. قال لي إنه لا ينزل الشارع إلا نادراً، ليس لأنه خائف، بل لأن قدميه تفقدان إحساسهما بموضعهما في الأرض، فيتعثر، ويقع. ! سألته عن الفترة التي يقضيها المريض للشفاء فقال : ستة أشهر علي الأقل، أو: إلي ما لانهاية. فقلت له : أزمة وتمر. ودعوته للإقامة عندي، فرد بأن شقيقته تزوره كل يومين. وطلب مني زيارته مجددا، ناولته مهدئا، وبعد ساعة، أرحت جسده المتهالك علي السرير، ونزلت !. مر عامان علي هذه الواقعة. شفي صديقي «مريض القلق» لكنه أقلقني باختفائه مجددا. اتصلت به فلم يرد. فوجئت به قبل أيام يكتب تقريرا حماسيا في صحيفة قومية، يدغدغ المشاعر ويغازل إنسانية رجال الأمن، ويهاجم المتظاهرين العملاء الذين يتضامنون مع خالد سعيد، رفيق نفس الاعتداء الوحشي مع الفارق بين الجيزة والإسكندرية.. ما أود قوله لصديقي : «إتفوا عليك.. غواخيرو فالسو» !.