نائبة وزيرة التضامن تشهد احتفالية توزيع جوائز مسابقة "إنجاز العرب" للشباب رواد الأعمال    مجلس جامعة القاهرة يوافق على توفير 26 منحة دراسية لأبناء المحافظات الحدودية    مع بدء تطبيق التوقيت الشتوي.. تعرف على مواقيت الصلوات الخمس اليوم الجمعة 31 أكتوبر 2025 بمحافظة السويس    انخفاض أسعار الذهب عالميا ل 4005.54 دولار للأوقية مع صعود العملة الأمريكية    أسعار البيض اليوم الجمعة 31 أكتوبر    وزير الصناعة والنقل يتابع جاهزية الطريق الدائري والمحاور الرئيسية المؤدية إلى المتحف المصري الكبير    شهادة الادخار الرباعية من البنك العربي الإفريقي.. عائد تراكمي 100% خلال 4 سنوات ومزايا استثمارية جذابة    سعر الريال السعودي في بداية التعاملات اليوم 31 أكتوبر 2025    اتصالات لوزير الخارجية مع نظيره الايرانى والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية    الإعصار «ميليسا» يغادر كوبا نحو الباهاماس ويخلف نحو 50 قتيلا    استئناف محادثات الحدود الأفغانية-الباكستانية في إسطنبول الأسبوع المقبل    نزوح أكثر من 4500 سودانى فى كردفان بسبب انتهاكات الدعم السريع    الأهلي ينتخب مجلس جديد.. والتزكية تقترب    ديربي الرياض.. تشكيل الهلال المتوقع أمام الشباب في الدوري السعودي    آدم كايد يغيب عن الزمالك فى السوبر المحلي بالإمارات    انطلاق التصويت بانتخابات النادي الأهلي    سيولة مرورية في شوارع وميادين القاهرة الكبرى اليوم الجمعة    العظمى 27.. تعرف على حالة الطقس اليوم الجمعة 31 أكتوبر 2025 في بورسعيد    إصابة ربة منزل وزوجها ونجلهما ب«مادة كاوية» في مشاجرة بالجمالية    مصرع شاب أصيب فى حادث اصطدام أتوبيس بعربة كارو وإصابة والدته بكرداسة    بالصور.. سقوط هادي الباجوري وزوجته خلال رقصهما في حفل زفافهما    سفيرة المكسيك بالقاهرة تحتفل بيوم الموتى بمزيج من التراثين المكسيكي والمصري القديم (صور)    نقابة العاملين بالصحافة والطباعةعن افتتاح المتحف الكبير: ميلاد "الهرم الرابع"    لوموند تشيد بالمتحف المصرى الكبير..أكبر صرح فى العالم مخصص لحضارة واحدة    هل اعتزلت حلا شيحة الفن؟..والدها يحسم الجدل    وكيل مديرية الصحة بدمياط تتابع سير العمل بمركز طب أسرة ثاني والسنانية    قرارات جديدة بشأن البلوجر مايا علي في اتهامها بنشر فيديوهات خادشة    أسعار مواد البناء في مصر اليوم الجمعة    «تالجو وروسي».. مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الجمعة 31 أكتوبر 2025    أول ظهور للمطربة الشعبية رحمة محسن بعد ضجة الفيديوهات المسربة (صور)    تراجع أسعار الذهب عالمياً في بداية تعاملات الجمعة    شاشات عرض عملاقة بالميادين والأماكن السياحية بجنوب سيناء لمتابعة افتتاح المتحف المصري الكبير    «زي النهارده».. استقالة مهاتير محمد من حكم ماليزيا 31 أكتوبر 2003    بعد إعلان ترامب.. «فانس» يدافع عن التجارب النووية وبيان مهم ل الأمم المتحدة    «آخره السوبر.. مش هيروح بالزمالك أبعد من كدة».. أحمد عيد عبد الملك يوضح رأيه في فيريرا    هيجسيث يأمر الجيش بتوفير العشرات من المحامين لوزارة العدل الأمريكية    قوات الاحتلال تداهم عددًا من منازل المواطنين خلال اقتحام مخيم العزة في بيت لحم    مصدر مقرب من حامد حمدان ل ستاد المحور: رغبة اللاعب الأولى الانتقال للزمالك    رئيس مجلس الشيوخ يستقبل محافظ القاهرة لتهنئته بانتخابه لرئاسة المجلس    موعد وشروط مقابلات المتقدمين للعمل بمساجد النذور    وفري فلوسك.. طريقة تحضير منعم ومعطر الأقمشة في المنزل بمكونين فقط    محمد مكي مديرًا فنيًا ل السكة الحديد بدوري المحترفين    واشنطن بوست: ترامب أراد هدية واحدة في آسيا ولم يحصل عليها هي لقاء كيم جونج    افتتاح ميدان النيل على الطريقة الفرعونية.. فتاة بزي نفرتيتي تحمل مفتاح الحياة وتسلمه لمحافظ المنيا في موكب احتفالي    سقوط هايدى خالد أثناء رقصها مع عريسها هادى الباجورى ومحمد رمضان يشعل الحفل    مواقيت الصلاة فى الشرقية الجمعة حسب التوقيت الشتوي    د.حماد عبدالله يكتب: "حسبنا الله ونعم الوكيل" !!    سنن يوم الجمعة.. أدعية الأنبياء من القرآن الكريم    ندوة «كلمة سواء».. حوار راقٍ في القيم الإنسانية المشتركة بالفيوم    إصابة 12 شخصاً في حادث انقلاب سيارة ميكروباص بقنا    مش هتغير لونها.. طريقة تفريز الجوافة لحفظها طازجة طوال العام    التخلص من دهون البوتاجاز.. طريقة سهلة وفعّالة لتنظيفه وإعادته كالجديد    بعد معاناة المذيعة ربى حبشي.. أعراض وأسباب سرطان الغدد الليمفاوية    انطلاقة جديدة وتوسُّع لمدرسة الإمام الطيب للقرآن للطلاب الوافدين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 30-10-2025 في محافظة الأقصر    بث مباشر.. مشاهدة مباراة بيراميدز والتأمين الإثيوبي في دوري أبطال إفريقيا 2025    مبادئ الميثاق الذى وضعته روزاليوسف منذ 100 عام!    عندما قادت «روزا» معركة الدولة المدنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشهد الأخير من حياتى
قلم محمود عوض بين أصابع:
نشر في اليوم السابع يوم 11 - 09 - 2009

لأول مرة فى حياتى أرانى ميتاً. أرتدى قميصاً أسود منقّطاً بالأبيض وبنطلوناً رياضياً خفيفاً والشبشب لا يزال فى قدمىّ بينما أنا جالس على الأرض كما يجلس المصلون للتشهد ورأسى فى اتجاه المكتب الذى لم يسعفنى قدرى للوصول إليه. كأنما تمر الآن على صدرى يد شافية تنزع الألم وتغرس الراحة، وكأنما عادت إلىّ أنفاسى عطوراً ترد الروح وتختزل الألم، وكأنما تنبعث موسيقى ملائكية من كل اتجاه، ثم فجأة تنحنى رقبتى ويتدلى رأسى إلى أسفل، فأشعر بانزعاج.
مساء الجمعة 28 أغسطس 2009، (أو ربما قبيل مدفع الإفطار، الله أعلم)..
لا أزال على قيد الحياة..
يشتد الألم الذى كان قد بدأ قبل أكثر من 24 ساعة الآن. يشتد كثيراً حتى أظن لوهلة أننى لن أستطيع ابتلاع نفَسى مرة أخرى. حتى جرائد اليوم التى سمعت خرفشتها وهى تندس تحت عقب الباب لا أستطيع اليوم قطع المشوار إليها من غرفة النوم. سيكون كل شىء على ما يرام، فقد أتى الألم قبل ذلك ومضى، ثم إن لدىّ موعداً مع الطبيب ظهر غد على أى حال.
كأنما أدس سمكة حية رويداً رويداً فى زيت يغلى، أتكئ متباطئاً على حافة السرير حتى أجدنى ممدداً فوقه، أحاول أن أنام.. يا الله.. رحماك يا الله.. لا أستطيع. هذه هى الليلة الثانية على التوالى التى تنكسر فيها قدرتى على النوم من فرط الألم. أشعر بالقفص الصدرى يابساً يضغط على رئتى ويقبض على أنفاسى. أشهق فلا يجد الهواء ممراً. أتكون هذه هى اللحظة؟
صار عمرى 67 عاماً، وأنا لا أستريح لهذا الرقم. أعيش وحدى، لا زوجة ولا ولد ولا منصب ولا مال. منذ سنوات وأنا لا أغادر المنزل إلا فيما ندر ولا أسمح لأحد بالاتصال بى بعد الثامنة مساءً، ولا أرد فى النهار إلا على بعض الذين أعرفهم، وهؤلاء يتضاءل عددهم يوماً بعد يوم، باختيارى. أعرف أننى أدفع ثمناً غالياً فى سبيل مبدأ عشت من أجله طول حياتى، لكننى أدفعه عن رضا وعن طيب نفس.
فى تلك اللحظة، كما أعلم الآن، لم يكن باقياً سوى القسط الأخير من الثمن. وفى تلك اللحظة أتحامل على نفسى خطوة خطوة فى مهمة شاقة نحو غرفة المكتب المجاورة لغرفة النوم. لابد من أن أنتهى من كتابة مقال «اليوم السابع»؛ فهم ينتظرونه غداً السبت.
إحدى يدىّ على صدرى والأخرى تتكئ على الحائط الواصل بين الغرفتين. يا له من مشوار كنت أقطعه قفزاً فى كل ساعة، فى كل يوم للأعوام الثلاثة والثلاثين الأخيرة، واليوم يقطعنى هو أنفاساً صعبة لاهثة ويرسم أمام عينىّ فى كل شبر أخطوه مشهداً آخر من حياة أرى أنها طالت، جربتنى كثيراً وجربت فيها كل شىء ورضيت بما جربت. بينما أخطو فى تلك اللحظة عبر باب غرفة المكتب حدث شىء لم أجربه من قبل: فارقت الحياة.
لأول مرة فى حياتى أرانى ميتاً. أرتدى قميصاً أسود منقّطاً بالأبيض وبنطلوناً رياضياً خفيفاً والشبشب لا يزال فى قدمىّ بينما أنا جالس على الأرض كما يجلس المصلون للتشهد ورأسى فى اتجاه المكتب الذى لم يسعفنى قدرى للوصول إليه.
كأنما تمر الآن على صدرى يد شافية تنزع الألم وتغرس الراحة، وكأنما عادت إلىّ أنفاسى عطوراً ترد الروح وتختزل الألم، وكأنما تنبعث موسيقى ملائكية من كل اتجاه، ثم فجأة تنحنى رقبتى ويتدلى رأسى إلى أسفل، فأشعر بانزعاج. أحدٌ ما لا بد أن يأتى الآن كى «يرفع رأسى». ولا حتى ما قاله المتمرد لوجه الله، أمل دنقل، يعزينى: «يا إخوتى الذين يعبرون فى الميدان مُطْرقين / مُعَلَّقٌ أنا على مشانق الصباح / وجبهتى بالموت مَحْنيّةْ / لأننى لم أَحْنِها حَيّةْ».
منذ يوم الثلاثاء وأنا لم أر وجهاً لإنسان. لم أر سوى البواب الجديد، رجب، الذى أرسلته يومها مرةً أخرى إلى الشارع بعد أن نسى أن يشترى إحدى الجرائد. أتقدم الآن خطوتين فى اتجاه مقعدى وراء المكتب وحين أهم بالجلوس يفجؤنى وجه لإنسان آخر لكنه يشبهنى كثيراً، جالساً على الأرض أمامى كأنه يصلى مطأطأ الرأس فى خشوع وإن كانت عيناه الثاقبتان الجاحظتان معلّقتين فى اتجاهى، جامدتين.
أحاول أن أتجاهله فأمضى فى الكتابة، لكنّ الأفكار تتسرب كما يتسرب الماء من بين الأصابع. لا أستطيع. لأول مرة، لا أستطيع. ألمح الهاتف المحمول قابعاً على جانب من المكتب، ذلك الهاتف الذى لم يعلم بوجوده فى حياتى إلا أقل القليل من الأصدقاء الذين كنت أجدهم حين أحتاجهم. لماذا لا أتصل بأحدهم الآن عله يساعدنى فى هذا الموقف الغريب؟
أتناول الهاتف فأكتشف أننى كنت اتصلت فى الساعة الثالثة والدقيقة الرابعة والخمسين عصر الجمعة بصحفى ابن حلال فى جريدة الأسبوع، هو بهاء حبيب، اعتاد أن يتصل بى كل جمعة، ولما لم يتصل قررت أنا أن أتصل به. انفتح الخط فسمعت ضجيجاً قال إنه صوت المترو الذى كان على وشك الوصول به إلى محطة محمد نجيب. «إزيك؟.. الحمد لله يا أستاذ». كان صوتى متعباً وكانت تعلوه صعوبة فى التنفس لكننى كنت متماسكاً ولا أدرى إن كان قد أحس هو بذلك. للأسف انقطع الخط وبقى هاتفه خارج الخدمة لفترة. قلت فى نفسى ربما سيتصل هو عندما يصل إلى البيت.
وكنت مطمئناً على أى حال لأن صحفياً آخر مخلصاً فى جريدة الوفد، هو خيرى حسن، كان قد اتصل بى من هاتفه الأرضى على هاتفى الأرضى فى حوالى الساعة الثانية بعد ظهر اليوم السابق، الخميس، ووعدنى أن يأتى إلى منزلى الساعة الحادية عشرة صباح السبت كى يأخذنى فى سيارة أجرة إلى موعدى مع طبيب العظام، طارق الغزالى حرب، الذى حددته معه ليكون فى الثانية عشرة ظهراً فى مستشفى الهلال.
منذ وقوعى على كتفى على درج السلم القصير الذى يصل غرفة الاستقبال بالممر المؤدى إلى غرفة النوم قبل أكثر من شهر وهو يلح علىّ فى الذهاب إليه. ومنذ ذلك الوقت أضيفت آلام العظام إلى آلام الكبد وآلام التنفس، خاصة فى ضلع بعينه من أضلاع القفص الصدرى. لم أكن أعلم أنه حين أصر على إجراء أشعة يوم السبت أنه كان يشك فى احتمال وجود ما يسمونه «ثانويات فى العظم» أو، بعبارة أخرى، سرطان العظام.
مازلت أرانى قابعاً فى مكانى فى اتجاه القِبلة. أشعر بالراحة، خاصةً أن الله قد مكننى قبل يومين من الحديث مع بعض الأحباء مثل مصطفى حسين ويسرى فودة، ومكننى أيضاً أمس الأول، الأربعاء، من تحويل مبلغ من رصيدى فى بنك مصر إلى أخى الأصغر، طه، فى طلخا، لست أدرى لماذا. عندما اتصل بى يستفسر قلت له: «اتصرّف فيهم فى الوقت اللى تعرف فيه إن أنا مش عارف اتصرف». أعلم الآن على الأقل أن كفنى سيكون من حلالى. الحمد لله.
كنت أعلم أن هذه آخر ليلة؛ فهناك موعدان لابد أن غيابى عنهما سيلفت الأنظار: موعد تسليم المقال وموعد زيارة الطبيب. أصدقائى يعلمون أننى لا أتأخر، وإذا تأخرت أعتذر مسبقاً. هذه هى إذن آخر ليلة لى فى هذا الشقة التى انتقلت إليها عام 1976 بعد أن استأجرتها من أحد المصريين العصاميين، الحاج صلاح رحمة الله عليه، بمبلغ وقدره 76 جنيهاً مصرياً بينما كان مرتبى وقتها 176 جنيهاً لا غير. على حد ما تسعفنى ذاكرتى كان صديقى بليغ حمدى يستعد أيامها للزواج من وردة الجزائرية.
ستكون أمام إخوتى مهمة صعبة فى التعامل مع نتائج طقوس حياتى التى كدست أركان الشقة وممراتها بالكتب والمطبوعات والجرائد والمجلات التى اصفرت أوراقها وتخللتها الأتربة. سيتعثرون أيضاً فى مقاعد مهترئة ومقتنيات متواضعة عزيزة على نفسى لم أجد وقتاً لتنفيضها، وربما لن يجدوا مقعداً قابلاً للاستعمال سوى مقعد المكتب. سيجدونها فوضى كنت أراها أنا نظاماً لا أسمح لأحد بالاقتراب منه. وأجد من واجبى الآن أن ألتمس منهم العذر.
بعضهم سيبحث فى متعلقاتى عما له قيمة وبعضهم سيبحث عن القيمة. أحبهم جميعاً لكنّ إحساساً بالعجز يتملكنى وأنا أتخيل أنهم، ربما فى خلال ساعات، سيكتشفون بدنى وبعد أن يدفنوه لا أدرى ما سيحدث. ثقتى فيهم بلا حدود لكننى سأحتاج إلى وقت طويل كى أتقبل الواقع الجديد: أن أحداً ما، مهما بلغ قربه منى، هو الذى سيتخذ قرارات نيابةً عنى وأنا أتفرج، بعضها سيكون فى منتهى الأهمية، بعضها سيمس أشياء دفعت فى سبيلها ثمناً غالياً عندما كنت على قيد الحياة.
الحمد لله، سيجدون فقط ما يرفع الرأس. سيجدون من بين ما سيجدون رسالة من وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى وزارة الخارجية المصرية يعبر فيها الإسرائيليون عن انزعاجهم مما كنت أكتبه فى الصحف ومما كنت أقوله فى برنامج «من قلب إسرائيل». سيقول لى محمود رياض وإحسان عبدالقدوس وقتها: «هدّى شوية يا محمود»، وسيذكر أخى طه الآن أن الإسرائيليين عرضوا علىّ من خلال الأمريكان من خلال بعض المصريين شيكاً على بياض، حرفياً، يبدأ من خمسين ألف دولار مقابل الاشتراك فى كتابة فيلم عن حتمية السلام مع إسرائيل. قلت له يومها: «يستخدمون اليوم عصا موسى، وغداً سيستخدمون عصا فرعون.. وأنا يكفينى الكُشرى والبطاطس».
أمر عائداً من ذكرياتى فى غرفة الاستقبال فى اتجاه الممر المؤدى إلى غرفة المكتب. ألمح الآن وقد أشرقت شمس اليوم التالى، السبت، جرائد الجمعة لا تزال فى مكانها تحت عقب الباب. ألمح من بعيد جريدة «الرياض» السعودية وجريدة «الشروق الجديد» المصرية بينما تهيم عيناى فى تفاصيل المكان الذى غادره بدنى مساء أمس. ولا يزال هذا فى مكانه الذى تركته فيه شاخصاً فى اتجاه القِبلة. ستمر علىّ الآن أصعب ساعتين وأنا أنتظر.
فى حوالى الساعة العاشرة من صباح السبت، يدق الهاتف فلا أرد. فقط لا أستطيع أن أرد وهذه ببساطة إحدى قواعد الموت. يدق مرةً أخرى فلا أرد. علمت بعد ذلك أن خيرى كان يريد أن يتأكد قبل خروجه من منزله من أننى سأستعد لحضوره أمام مدخل العمارة بعد ساعة فى طريقنا إلى الطبيب. وعلمت أنه هو أيضاً الذى بقى يعاود الاتصال كل ساعة تقريباً وأنا لا أرد. وعلمت أيضاً أن سعيد الشحات، مدير تحرير «اليوم السابع»، هو الذى اتصل أيضاً بعد الظهر للاستفسار عن المقال، فلم أرد.
من الواضح أن أحداً ما بدأ يقلق. بعد منتصف الليل بقليل يدق جرس الباب السفلى للشقة. (شقتى موزعة على طابقين أحدهما فوق الآخر ولكل منهما باب مستقل). بعد قليل أسمع خبطاً على الباب السفلى. تزداد وتيرته قبل أن يتوقف. أسمع خطوات لشخصين أو ثلاثة تصعد على سلم العمارة، يعقبها خبط على الباب العلوى حيث أوجد الآن وراءه فى هذا القسم من الشقة. ثم أرى جرائد يوم الجمعة التى كانت لا تزال تحت عقب الباب تنشدّ إلى الخارج. لا بد أن هذه هى اللحظة التى سيدرك من شدها أن ثمة شيئاً حدث لى. أسمعهم الآن يتحدثون مع أحد الجيران فى الطابق الرابع، ثم أسمع رنين الهاتف يمزق صمت المكان، وأنا لا أرد. لا أستطيع أن أرد.
تتملكنى فى تلك الأثناء رغبة شديدة فى أن أفتح لهم الباب قبل أن يزعجوا بقية الجيران، لكننى أتذكر أننى صرت روحاً تشاهد ولا تستطيع. أقترب من الباب فأسمع صوت خيرى وموظفى الأمن فى العمارة، شريف ورجب، يهبطون إلى أسفل. علمت بعد ذلك أن خيرى جلس فى الشارع لا يدرى ماذا يفعل إلى أن هداه تفكيره إلى الاتصال بسيد عبدالعاطى، رئيس تحرير «صوت الأمة»، الذى وصل بعد قليل ومعه نفر من مسئولى الأمن المكلفين بحراسة الشارع. آه.. نسيت أن أقول لكم إن السفارة الإسرائيلية كانت قد انتقلت قبل سنوات طويلة لأسباب أمنية من المهندسين إلى شقة سكنية فى المبنى المجاور للمبنى الذى أسكن فيه مباشرة كى «تتدفأ» بالمدنيين المصريين.
يخبّط هؤلاء على الباب مرة، مرتين، ثلاث مرات، وأنا لا أرد. أسمع أحدهم يقول للآخر: «دا بقى مش شغلنا، دا شغل المباحث يا أساتذة». بعد نحو نصف ساعة، أى فى حوالى الثانية من صباح الأحد، أسمع خبطاً ثقيلاً مزعجاً ينفتح الباب بعده عنوةً فأرشدهم سريعاً إلى حيث يستريح بدنى. يدور ضابط المباحث فى المكان دورة الخبير ويترك كل شىء فى مكانه كما هو، بما فيه أنا، ويخرج مع رجاله ويغلق الباب وراءه فأسمعهم يلصقون شيئاً عليه من الخارج وأسمع صوتاً يهتف فى بئر السلم: «اطلعوا يا أساتذة، البقية فى حياتكم».
يقفون قليلاً فى الخارج ثم يهبطون مرة أخرى ويتركوننى وحدى، وبعد نحو نصف ساعة يعودون ومعهم خيرى وسيد وموظفو الأمن فيجدوننى جميعاً لا أزال فى مكانى. منذ سنوات طويلة لم يقتحم هدوء حياتى جمعٌ غفير كهذا. لا أعرف ما ينبغى علىّ أن أشعر به فى هذه اللحظات. فقط أشعر بأننى موزَّعٌ بين تأفف من أن يرانى أحد، أى أحد، فى موقف كهذا لا أستطيع أن أحرك فيه ساكناً، حتى وأنا أعلم أنهم يعلمون أنها سطوة الموت ومشيئة الله، من ناحية، ورغبة ملحة فى وداع كريم وخفيف وسريع من ناحية أخرى.
يشرع الضابط فى معاينة الشقة كما تملى عليه الإجراءات فى مشهد كنت أراه فقط فى الأفلام ويخلص إلى أن المعاينة الظاهرية توحى بأن الوفاة طبيعية وتبقى الجثة على وضعها ويبقى كل شىء على ما هو عليه حتى تأتى النيابة للتأكد. وفى أثناء ذلك يلتفت أحدهم إلى هاتفى المحمول على سطح المكتب فيجده فارغاً من الشحن فيقوم الضابط بتحريزه. علمت بعد ذلك أن ياسر رزق، رئيس تحرير مجلة «الإذاعة والتليفزيون»، عندما التحق بهم مهرولاً إلى قسم شرطة الجيزة، هو الذى اكتشف من خلال المعلومات التى يحتفظ بها الهاتف أننى لم أمت قبل الساعة الثالثة والدقيقة الرابعة والخمسين عصر الجمعة.
فى الخامسة والنصف صباحاً تقريباً تصل النيابة فتجدنى فى انتظارها، وتقرر بعد المعاينة أننى مت ميتة طبيعية. أحاول أن أسألهم: «ماذا تقصدون؟» فلا يسمعنى أحد. ما الذى يعنيه أن يموت الإنسان ميتةً «طبيعية»؟ ماذا يعلمون عنى وعن حياتى كى يمنحوا أنفسهم هذا الحق؟ أهو الرصاص والسم والآلة الحادة فقط الذى يميت الإنسان ميتةً «صناعية»؟ لكننى سرعان ما أتخلى راضياً مرضياً عن هذه الفلسفة عندما أعلم أن هذا يعنى ببساطة أنهم لن يضطروا إلى تشريح بدنى. حتى فى موقف حاسم كهذا تتملكنا، نحن المصريين، العاطفة وتتغلب على العقل، وهو ما يتنافى مع المنطق.
كان أولاد الحلال قد اتصلوا بإخوتى فى طلخا، وكان هؤلاء الآن فى طريقهم إلىّ. أحس بهم الآن وهم على الطريق وأدعو الله أن يخفف صدمتهم.. مصطفى وأحمد وإحسان وطه (و ابنه الذى سماه على اسمى، محمود)، وأيضاً زينب التى تعيش فى القاهرة. عندما تصير الساعة حوالى الثامنة صباحاً أسمع أصواتهم يتحلقون أمام الباب وأفهم أنهم لم يُسمح لهم بعد بالدخول. تتملكنى رهبة وجزع وشفقة وأنا أستعد لاستقبالهم. وعندما يُسمح لهم أخيراً بالدخول أجد نفسى سابحاً فى مشهد عاطفى لا أستطيع وصفه، مشهد خاص وسيبقى خاصاً ككثير من المشاهد فى حياتى.
الصدمة واضحةً على وجوههم جميعاً. ينشلّ تفكيرهم. يقول طه لخيرى فى وجوم: «مش عارف أجيب كفن منين». يتصل خيرى بخالد صلاح الذى يرسل أحد مساعديه بالكفن والمُغسّل وعربة الموتى، ويتبعه هو بنفسه ويتبعهما يسرى فودة. يدخل هذا الأخير إلى غرفة نومى فيجد أخى أحمد ينزع عنها ملاءة السرير ويتوجه بها إلى حيث كنت الآن مُسَجّىً فى كفنى الأبيض. كل ما أراه الآن أبيض. يتحلّق حولى نحو ستة ويفرشون الملاءة تحتى ويمسك كل منهم طرفاً من أطرافها ثم يزعق أخى أحمد: «لا إله إلا الله» وهو يعطيهم إشارة الرفع. عندما يفعلون يتدلى رأسى إلى الوراء فينتقل يسرى واضعاً كفيه تحته حتى نهبط ثلاثة طوابق نحو مدخل العمارة.
أرى الآن وقد وصلنا أن ثمة عربة أخرى لنقل الموتى مكتوبا عليها «دار أخبار اليوم للطباعة والنشر» واقفة تماماً أمام المدخل. آخر ما أريده فى يوم وداعى أن يحدث لغط بين «أخبار اليوم» و«اليوم السابع». أجد نفسى فى أقرب عربة وما فى القلب فى القلب. يُقْسم أحمد وطه على ألا يسمحوا ل«أخبار اليوم» بالإسهام فى أى شىء آخر. تنطلق العربة حاملةً بدنى إلى جامع عمر مكرم لصلاة الجنازة وأبقى أنا فى مكانى ألقى نظرة أخيرة على ما عشت من أجله، أحاول أن أفرز منه ما سيبقى مما سيزول.
بينما أنا كذلك يمزق رنين الهاتف صمت حياتى مرةً أخيرة.. رنة.. رنتين.. ثلاث رنات، ثم ينبعث صوت إنسان لم يكن غريباً على سمعى: «لو سمحت، مافيش حد موجود دلوقتى، ودى رسالة مسجلة. أرجوك سيب اسمك ورقم تليفونك، وأول مارجع هاطلبك، وشكراً».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.