«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دعوة
ثلاث قصص
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 12 - 2010

لا أعرف متي بدأ اتصاله بي. لا يمكنني القطع أو التحديد، القول إنه في يوم كذا، شهر كذا، ولا حتي سنة كذا، لا يمل، لا يتراجع عندما أُبدي الخشونة في الرد، إنما يقول بأدب جم، بنفس الإيقاع:
علي أي حال نحن في انتظار سيادتك.
في البداية علي الهاتف الأرضي قبل دخول المحمول الخدمة، لا أذكر أول مرة، المكتب أو البيت، لعله المكتب، بعد أن ألقي السلام، لم يتساءل عما إذا كنت المتحدث أم لا، واثق من شخصي، لم يتغير ذلك قط في كافة الاتصالات التي تلت ذلك، آخرها أمس بعد انقطاع طويل تخلله سفري لأطول مدة أغيب فيها عن موطني ومستقري، ثلاثة شهور، كأنه يعرف ظروف مرضي، مازلت أذكر أول اتصال، قال إنه مدير مركز النشاط العام بمدينة المهاجرين الجدد، لأول مرة أسمع بها، قال إنها مدينة جديدة اُنتزعت من الصحراء تضم بعض العاملين في المصانع القريبة من خط القناة. كلها مصانع جديدة، معظمهم وفدوا من أماكن مختلفة، من الصعيد، من الوجه البحري، من الصحراء الغربية وبالطبع من سيناء، كلهم في سن الشباب، مهرة، متقنون لحرف عديدة، جميعهم يتوقون إلي اللقاء بي، الإصغاء إلي تجربتي. سألته: ومن أين عرفوا بي؟ ضحك قائلا: ومن لا يعرفك يا أستاذ؟ رأيناك في التليفزيون. قلت إنني لم أظهر إلا مرات معدودات وفي برامج غير جماهيرية ولمدة قصيرة أجبت فيها عن أمور تتصل بمجال
اختصاصي، أكد أن الاهتمام موجود وأن الجميع
سيسرون كثيرا بهذا اللقاء المنتظر، شكرته علي الدعوة مبديا الوعد بتلبيتها عندما تسمح ظروفي.
عدة شهور مرت. في أحد أيام رمضان، بعد الإفطار رن جرس الهاتف في البيت، الغريب أنني عرفت صوته بمجرد نطقه: كل سنة وأنت طيب، أدركته رغم أنني لم أصغ إليه إلا مرة واحدة، بعد أن نطقت: آلو، لزمت الصمت، استمر كأنني أبديت الترحيب الحميم، قال إنه يذكرني بوعدي تلبية الدعوة، قلت إنني عند وعدي غير أن الظروف لا تسمح الآن، قال إن الناس ينتظرونني وأنهم أعدوا أنفسهم للنقاش الذي سيكون مفيدا، قلت باختصار أننا من الممكن الحديث بعد رمضان، قال بدون أن يبدو عليه أي رد فعل لردودي المختصرة، الجافة:
»علي أي حال مازلنا في الانتظار علي أمل تلبية الدعوة..«.
لم يتصل بعد رمضان، إنما بعد حوالي سنة وشهور، كنت في الإسكندرية متجها إلي مطعم سمك تربطني بصاحبه صلة، فوجئت برنين المحمول الذي كان في بدايته، جديدا وغير ذائع، صحيح أنني خجول فيما يتعلق بتعاملي مع الآخرين، لكم كلفني ذلك، دفع بي وحاش عني، غير أنني اندفعت متسائلا: كيف عرفت الرقم؟ قال بنفس الصوت الهاديء ذي الطبقة الواحدة إن من يهتم بشخص لابد أن يصل إليه. ومع بذل المجهود يتحقق كل شيء، قال إنه يحمل رغبة الناس، إنهم يلحون عليه وهو يعتذر عن هذا الإزعاج المتكرر، قلت وأنا أتهيأ لعبور الطريق أنني خارج القاهرة وآمل في تحقيق الفرصة قريبا، عندئذ قال بنفس اللقاء »علي أي حال مازلنا نأمل، ونأمل في تلبية الدعوة..«.
لماذا لم أقطع. لماذا لم أقل بحدة إنني مشغول دائما. وأنني أعمل أكثر من خمس عشرة ساعة يوميا لألبي مطالب أسرتي المحدودة، غير المبالغ فيها، إنني لست نجما ولا شخصية عامة، إنما أنا بعيد تماما عن هذه الأدوار، غارق في تخصصي الضيق، من المعروفين فيه، لكن من أهل الاختصاص، لماذا لم أغلق الباب نهائيا، ربما لأنني أفاجأ كل مرة، لا يجيء إلا بغتة ولا يظهر صوته إلا عندما ينأي التوقع تماما، ربما لتهذيبه أو لطبقة صوته التي تعكس تهذيبا ورقة، لكن ثمة ظل من قسوة أو نذير ما، أحيانا ينتابني فضول عندما أنتبه إلي ذلك الفراغ المحيط به كأنه يتحدث من موضع معقم، معزول، بعيد، قصي وقريب ما. ربما لأن طلبه المتكرر يشعرني بأهمية ما، ربما هذا كله.
كنت أتهيأ للخروج صباحاً عندما رن جرس الهاتف الأرضي، بعد أن ذكر اسمه ومركزه الوظيفي الذي لم يتغير طوال المدة والاعتذار المتكرر لإزعاجه لي والتأكيد علي انتظار الناس لي، قال إن آخر من شرفهم بالحضور الأستاذ جلال عبدالحافظ المخرج المشهور، وأن القائمة الخاصة بالضيوف تتسع، تضم كافة التخصصات والاتجاهات والانتماءات، ينقصها فقط اسمي، قلت إنني أفضل الحديث في وقت لاحق، إنني متجه إلي اجتماع هام الآن، اعتذر عن إزعاجي.
»علي أمل تشريفنا وقبول الدعوة..«
اعتدت نطقه ومجييء صوته بغتة، ورغم تعرفي تقريبا علي الأرقام التي يهاتفني منها إلا أنني دائما كنت أجيب، لكن في كل مرة أفاجأ، كان من الممكن أن أسجل الأرقام مقترنة باسمه غير أنني لم أفعل. بالعكس بعد انتهاء كل مكالمة أمعن التفكير فيه، ألاحظ أن موقعه لم يتغير رغم طول المدة، ومرور السنوات، هو، هو، مدير المركز نفسه، كذلك درجة الصوت، لا وهن ولا أي علامة تشي بتقدم في العمر، اليوم رن الهاتف، رقم مغاير تماما، كنت منفردا في المكتب، مسندا وجنتي إلي راحة يدي، رغم تكرار اتصالاته إلا أنني بُغت، ثمة شيء في صوته لم أستطع تحديده، شيء مستجد، مغاير، بدا متعجلا وهذا لم أعهده في المرات المنقضية، مهذبا كعادته، أكد أن الجميع في الانتظار الذي طال، أصبحوا أكثر معرفة بجهودي وأعمالي. »الكل واثق من تلبية الدعوة..«.
نبض
يبدو أن ذلك من الأعراض الجانبية لآخر دواء كتبه لي الطبيب المعالج لتحسين حالة الشرايين التي تأثرت بما أمرّ به مما أدي إلي ضعف عضلة القلب.
مثل كافة الأعراض الطارئة، المستجدة، لا يمكن تحديد اللحظة التي تبدأ فيها، لكن في توقيت معلوم ننتبه ويكون ما يكون، يبدو أن ما طرأ عليّ نادر جدا، باختصار أصبح قلبي في أذني، اليسري بالتحديد، دقاته مسموعة بوضوح بالغ، ظننته أمرا طارئا سيأخذ وقته ويمضي، لكن الأيام توالت والأمر علي ما هو عليه، عدت إلي الطبيب الذي يتابع حالة قلبي منذ سنوات، أصغي، ورغم أنه جاد جدا ولا يبدي سخرية أو هزلا ما بأي درجة حتي ليخشاه البعض لكنه غزير العلم، يتابع المستجدات، وله اتصالات بمراكز البحث والعلاج في العالم. رغم أنه يبدو جهما أحيانا مع أن أعماقه دقيقة، عرفت ذلك بعد طول عِشْرة، إلا أنني لمحت ما يشبه الدعابة في صوته:
»ربما كان توهما..«.
الغريب أن طبيبا آخر تربطني به صلة جميلة، متخصصا في تخدير القلب وصحبه أثناء العمليات الكبري، له أربعة عقود في الخارج، وأمره معي ذائع، معروف عند أهلي وصحبي، عندما جاء إلي القاهرة زائراً قابلته كما اعتدت، رويت له ما استجد عليّ، ابتسم مائلا بجسده البدين إلي الأمام:
»أحقا.. طوال الوقت.. لماذا لا يكون الأمر نفسيا..«.
لزمت الصمت، ألم يمر علي كليهما حالة شبيهة بحيث يمكن لهما التعرف عليها؟ هل يمكن أن أتوهم مثل هذا النبض الذي لا يتوقف خلال صحوي ونومي، بل إنني من خلاله أصغي إلي حالة قلبي، فلو أنني منفعل، متهدج يتغير النبض، أو عند إسراعي في المشي، أو بذل أي مجهود. إذا تباطأ القلب أسمع، إذا تسارع أسمع، إذا أمضيت الوقت في هدوء أسمع. لا يمكن أن يكون هذا بتأثير التوهم أو لأسباب نفسية، أنام عليه ويبدأ منذ استيقاظي، خاصة عند بدئي محاولة النوم، أتذكر وضعي عندما أسند دماغي إلي الوسادة، أضغطها قليلا كنت أسمع قلبي، لكنني بمجرد تعديل وضعي ينتهي ذلك، هذا النبض مستمر، توقفه يعني توقف قلبي، هل سأستمر كذلك إلي آخر لحظة؟ كنت أحاول تفاديه، أنشغل بأمر ما، لكن الخفق ينبهني إلي حضوره، إلي تتابعه، عندئذ أستأنف قلقي. زوجة صاحب لي أضافت إليّ، كنت في زيارتهما، إنها طبيبة، صحيح أنها أستاذة تحاليل طبية، غير أنني شكوت ما يحيرني لعلها تعرف بشكل ما، أو سمعت عن حالة مماثلة، أبدت اهتماما، غابت قليلا وعادت لتقول إنها نظرت في الإنترنت، العرض موجود لكن أسبابه عديدة، ربما تأثر العصب المجاور للشريان لسبب ما، نصحتني أن أذهب إلي طبيب متخصص في الأذنين، لم أقرأ عن حال مشابه، إلا إذا كان ما لحق النمرود الجبار من نفس العرض.
كان ملكاً، عسوفاً، جباراً، ارتكب مظالم عديدة، عاث في الأرض فساًدا، سلط الله عليه بعوضة، قرصته في رأسه، عندئذ بدأ قرع مزعج حرمه النوم، والراحة، حتي أنه لم يكن يهدأ إلا إذا ضرب بالنعال.
غير أنني لم أرتكب ذنوباً، ولم أحدث مظالم، ولم أضايق إنساناً، هكذا أخرج نتيجة تفحص أمري، من أين جاء هذا العرض، صرت إذا بدأت بوصفه لصاحب شأن، أقول إن قلبي في رأسي، أدق ما يتعلق بالنبض، ثمة صوت رئيسي، يتبعه أصداء رهيفة، صرت أحاول تبينها: التعرف عليها، توصيفها، هذا كله يمت إلي، ينم عن أمور، يشير إلي مكامن.
أثناء الفحص الذي سبق جراحة القلب الثانية، وخلال المتابعة التي تلتها، وصفت للطبيب المعالج الأمر، كان عندي أمل أن ينتهي العرض بعد إفاقتي من البنج، غير أنني أمضيت ليلة صعبة، الألم الطري، وتزايد النبض قوة، الصمامان جديدان والقلب يحاول استرداد عافيته والانتظام بعد أن هتك مكمنه، وتناولته أيد غريبة، شق وخرج إلي خلاء الوجود في الوقت الذي كان من المفروض أن يبقي مستتراً إلي الأبد، أن تتفرق ذراته وتبدأ سفرها في الوجود بدون أن تقع عليه عين أو يمسه بشر،هذا هو الوضع الطبيعي، لكنها الظروف، الأقدار.
تعجبت لأن نفس التعبير تقريبا بدا علي وجه الطبيب الأمريكي ذائع الصيت، تذكرت تطلع طبيبي عندما أفضيت إليه أول مرة، لم يبد الأمريكي سخرية، لكن تعبيرات وجهه لم ترحني، قال إنه سوف يري، سوف يري، لكنه خلال المرات التالية التي التقينا فيها لمتابعة الجراحة لم يحدد ولم يشر إلي الموضوع، كأني لم أشك إليه أمراً، غير أن طبيب الأذن القديم المتخصص في الضاحية التي أقيم بها في القاهرة أصغي جيدا وراح يدوّن ما أقول. أثار ذلك ارتياحي، إنه من الجيل الذي كان يمكنه التشخيص بدون تحاليل أو الاستعانة بأجهزة، فقط بالنظر أو جسّ الجسد في مواضع معينة طبقاً للشكوي وموضع الداء، بعد أن فرغت اتجه إليّ مباشراً مبتدئاً بقوله: »شوف يا سيدي«، قال: حالة نادرة، أي نعم، أمامنا أمران، ثمة ساعة إلكترونية تصدر ترددات مضادة، عندئذ يقع التعادل ويروح الصوت، صمت لحظة سألته خلالها: والحل الثاني؟ قال أن أتعايش مع الوضع، أن أجد صيغة ما لنسيانه، ثم قال: أنت تبحث الأمر مع نفسك.
عندما خرجت من عنده إلي الشارع كنت مدركاً وصولي إلي نقطة حاسمة، صوت الرجل وهيئته وما قاله أقنعني باستحالة التخلص من النبض إلا إذا ارتديت هذه الساعة، لن يكلفني الأمر كثيرا، التأمين الصحي سيتحمل كل شيء، غير أنني لم أستجب إلي تلك الإمكانية، بل نفرت منها، إذن عليّ البحث عن حالة أصل فيها إلي ذلك التآلف، التعايش مع حالي، محاورة داخلي، الاستجابة أو الاستكانة أو النسيان المتعمد، يتعلق الأمر بي.
محطة
من محاسن الصدف أنها جاءت، ولم يكن لديها أي ارتباط حتي الثالثة ظهراً، موعد بدء عملها في النوبة المسائية بالمركز الثقافي العالمي الذي تعمل فيه، صاحبة قديمة اتصل بها يوما نسيم الوداد، ثم جاءت الأحوال بما جاءت فصار تلاقينا كلما جئت إلي بلدها أو كلما زارت مصر، أنثي ذات بهاء وتكوين شهم. جلسنا في المقهي تحت الفندق الصغير الذي اعتدت النزول فيه، تحدثنا عن الأخبار والمشاريع والصحة ومشاكل المطارات، أما لحظات الصمت فكان فيها ما فيها، ما هو أكثر من الحديث والنجوي. عندما حان توقيت قيامي إلي المحطة المركزية والتي تنطلق منها القطارات فائقة السرعة إلي المناطق الجنوبية والشمالية قالت إنها ستصحبني، عندما وصلنا أبرزت البطاقة التي وجدتها في الفندق عند وصولي من القاهرة، لا أتقن اللغة، لذلك لم أعرف أنها إلكترونية، ظننت أنني سأتجه إلي نوافذ شراء البطاقات وأستبدلها، هكذا فهمت، هذا ما استوعبته من الخطاب المرفق، لكن عند مدخل المحطة وبعد أن قرأت الخطاب والبطاقة قالت إن الأمر مختلف، اتجهت إلي عمود مستدير ينتهي بما يشبه الساعة وله عدة فتحات، كتبت الرقم المطبوع بواسطة أزرار صغيرة مماثلة للحاسب الآلي، ثم دونت عدة بيانات طبقا للأوامر التي تظهر علي الشاشة، واضح أن الإجراءات عديدة، كيف يرسل المنظمون مثل هذه التذكرة التي يقتضي إتمام صلاحيتها معرفة باللغة، أثناء انهماكها جلت بالنظر في ساحة المحطة المستطيلة، القطارات قريبة، تبدو من هنا، أرصفة عديدة، انتبهت إلي كثافة الحضور، إلي شخوص معظمهم في اتجاه واحد، إلي لوحة ضخمة لم أر مثلها من قبل، قلت لها إنني سأقف هنا، أشرت إلي درجة مرتفعة قليلا تمكنني من رؤية أفضل، كما تتيح لي الظهور بحيث لا أختفي عن صاحبتي.
مشهد لافت، حشد يغطي معظم الفراغ شاخص إلي تلك اللوحة، عندما اتخذت موضعا يمكنني من رؤيتها أدركت أنها مقسمة إلي ثلاثة، موضح عليها حركة القطارات كلها، تتبدل الحروف والأرقام لتحل مكان الأرقام أعدادا أخري وأسماء بلدان مختلفة، حركة غزيرة، كثيفة، قالت صاحبتي القديمة، الوفية، إن الحركة تمضي بمعدل قطار كل دقيقة، اسم البلد أو الجهة ورقم القطار ورقم الرصيف، كل هذه المعلومات لا تظهر إلا قبل تحرك القطار بأربع دقائق، لذلك لابد من الانتباه والتركيز، ثم الهرولة، تساءلت عن السبب في ذلك، قالت إن هذا الوضع لم يكن موجوداً من قبل. كانت اللوحات تعلن عن رقم القطار والرصيف قبل قيامه بوقت كاف ثم تغير الأمر، يبدو أن هذا - في تقديرها - بين إجراءات الأمن التي اتخذت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، راحت تتطلع متفحصة اللوحة وما يظهر عليها، أما أنا المسافر المعني فرحت أرقب الواقفين، رجالاً، نساء، صبية، كلهم يتطلعون في اتجاه واحد، يمكن القول صوب نقطة بعينها، ولعل هذا قارب بين الرؤوس، القصير مثل الطويل، البدين مثل النحيل، الأوضاع المتشابهة اختزلت كافة التفاصيل الأخري، البعض يعقد يديه أمام صدره، آخرون خلف ظهورهم، أو داخل جيوب معاطفهم، غير أن الشخوص إلي نقطة بعينها معلقة في الفراغ يتجاوز أي تفاصيل أخري، إنما لاحظت لأنني دققت. أوضاع المسافرين المترقبين، المتوقعين. لفتت نظري، قالت صاحبتي مبتسمة:
»مازلت نشط الملاحظة، تصور أنني جئت كثيرا إلي محطة. مرة كمسافرة ومرة كمنتظرة أو مودعة.. لم ألحظ ذلك..«.
حركة تبدل الحروف والأرقام يصاحبها تكتكة عبر الفراغ رغم حركة الناس، وهدير القطارات التي لا تطلق صفيراً إلا فيما ندر، ولكن محركاتها تهدر وتدمدم، خاصة عند بدء انطلاقها محملة بأعداد كبيرة من الذين وقفوا وتطلعوا ثم أسرعوا، من مكانه يشب قليلاً، لم يستطع تحديد أي ملامح، التطلع في نفس الاتجاه لم يلغ القسمات فقط، إنما الأصوات أيضا. فقط دمدمة كأنها قادمة من بعيد.
تمسك معصمي:
»الوقت يقترب، لابد أن نعرف الرصيف الذي سترحل منه..« تطلعت إليها مرققا صوتي مثل الأيام البعيدة.
أتطلع لاستبقيك
قالت مشيرة إلي الأرصفة:
»ولكن القطار لن ينتظر.. والوقت المتاح محدود جدا..«.
يقول أهلي في أقصي الصعيد خلال الزمن القديم ناصحين أبناءهم: ننتظر القطار لأنه لن ينتظر أبدا، كنت أدقق، أتفحص مشهد الجمع الشاخص واثقا أن هذه اللحظات هي ما سيتبقي في ذاكرتي المثقلة، سوف أستعيد كثيرا هذا الوقت من تلك الظهيرة، تمسك بيد متقدمة إلي الجمع.
»يبدو أنني لابد من التدخل..«.
أتبعها ممسكا بحقيبتي الصغيرة، يبدأ تغلغلنا بين الواقفين، بينما حركة تسري من المنصرفين إلي القطارات، يتخذان مكاناً صغيراً، كتفها يلامس كتفه، لم تلتفت إليه، كانت تنظر إلي اللوحة، إلي أعلي مقطبة عينيها، يعرف أنها ترتدي عدسات لاصقة، يحاول ألا يحتك بأحد، ألا تفلت الحقيبة منه، علي مهل يرفع البصر إلي أعلي، في نفس الاتجاه، مع توجه بصره هناك يفقد الشعور بقربها منه، بمن يحيط به، المتطلع، الشاخص وحيد دائما، مفرد، ضيق عينيه باحثا عن اسم الجهة ورقم الرصيف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.