نقلت لنا الفضائيات وبطريقة SOS (إس أو إس) أصواتًا مصرية في حالة هلع: أرجوكم.. الحقونا... آلاف يلقون علينا بالحجارة وزجاجات المولوتوف المشتعلة وأنابيب البوتاجاز الإصابات وصلت خمسة عشر، المعدات الخاصة بالموقع تم تدميرها، التهديدات بالقتل مستمرة، نحن في حالة رعب، لا توجد قوات أمن تحمينا... ألحقونا.. كانت تلك استغاثة مواطن مصري، بعدها جاء صراخ سيدة: ابني محاصر.. وعايز حد ينجده.. حرام والله.. ألحقوا عيالنا، ابعتوا طيارة ليهم ثم توسل فتاة: والدي هناك عمال يستنجد بأي مسئول، ضرب النار شغال عليهم هناك وهذا رب أسرة مصري يقول: لم أشعر في حياتي بمثل هذا الرعب القاتل.. مش عارف النهار حايطلع علي ولا لأ.. محبوسين في البيت ومش ممكن نخرج خوفًا من القتل.. عايزين نجدة. هذا ويستمر الغوغاء في تهديد المصريين العاملين في الجزائر لأن مصر الكرة فازت علي المنتخب الجزائري، وكأن المفروض والمنطق والشريعة وسنة الحياة أن يحدث العكس علي طول الخط، وكأنها نهاية الحلم العربي أو ربما العالم، وكأن كل مشاكلنا قد حلت وكل همومنا قد زالت: تعليم وصحة وإنتاج.. إلي آخره.. ولم يبق سوي نتيجة مباراة.. أيًا كانت. الغريب.. أو ربما الطبيعي أن ألمانيا تكسب فرنسا في الكرة، وفي باريس، مثلاً.. وبلجيكا تنهزم من إيطاليا في بروكسل.. ولا يحدث شيء.. لكن تلك دول وشعوب وثقافات أخري.. بكل الأسف والحسرة علي ما وصل إليه حالنا العربي... وحتي في مجال كرة القدم. وبمناسبة العربي.. ومع اعترافي بأنني لاقيت كل ترحيب خلال عملي بالإمارات سواء في شركة أو مع جريدة صباحية، وكونت صداقات أعتز بها تصمم علي تكرار دعوتي لزيارة دبي وأبو ظبي مع كل حبي لأبناء الإمارات، ومع كل تقديري لاخوة من السودان وقطر.. فإن ما حدث للمصريين العاملين بالجزائر يثير الحزن.. ويستدعي للذاكرة لقطات أكثر إثارة للحزن، حتي مع كونها ليست القاعدة.. لكن مع توالي الاستثناءات يصبح الأمر مدعاة للأسي: ذات مساء كنت أتحدث من كابينة تليفون عمومي في شارع وسط مانهاتن نيويورك.. كان ذلك قبل ظهور الموبايل.. اقترب مني شخص لمسافة تجعله يسمع كل ما أقول.. وكأنه شريك في الحوار.. قال بعد دقائق معدودة... إخلص يا مصري.. عايزين نتكلم (هذا ما فهمته) قلت له: أنا لم أنهي مكالمتي.. ولديك هناك كابينة أخري لكنه أصر علي التطاول مرددًا: ما معناه: هي أمريكا ناقصة المصريين كمان.. هذا وكأن الأخ حفيد الأستاذ أميريكو مكتشف أمريكا.. سألته مستفسرًا: وسيادة جناب حضرة عنايتك منين؟ رد بكل شموخ: طبعًا من الجزائر (للآن لم أفهم مدلول أو تفسير كلمة طبعًا هذه، كما لم أفهم مكمون حركة ذراع المشجعة الجزائرية في الاستاد)، ذات مساء آخر في باريس.. كنت أبحث عن عنوان قريب لي، مصري يعيش في منطقة كليشييه بالعاصمة، قابلت رجلاً له ملامح عربية.. سألته: ممكن تدلني علي شارع كذا؟ رد بعربية لم أفهمها إطلاقًا.. قلت له ممكن أفضل نتحدث بالإنجليزية، قال: تمشي كذا ثم تتجه كذا وتسير كذا.. أنا من المنطقة وأعرف مصريين ساكنين هناك وقد كان وسرت وفقًا لتوجيهات الأخ الذي عرفني بنفسه قائلاً أنا من الجزائر.. مشيت حوالي نصف ساعة وفي كل يد كيس به زيارة للأصدقاء.. وفقًا للتقاليد المصرية (الواحد عيب يدخل وإيده فاضية) حتي وصلت لمحطة القطار، المهم.. مجهدًا.. سألت شرطي فرنسي.. رد بكل أدب: أنا آسف لك.. أنت ترجع كل المسافة دي.. واللي قال لك الوصف ده تعمد إضاعة وقتك ومجهودك، بعدها وصلت للمصريين، قريبي وزملاء له.. كان تعليقهم.. دي مش أول مرة.. بالقرب منا جزائريين يكررون ذلك مع كل من يسأل عنا. هذا فيما يخص بعض أهالي أرض المليون شهيد وجميلة بوحريد وبن بيلا وكل رموز عشقناها طويلاً، وفيما يرتبط بغيرها أذكر ما لاقاه شقيقي، وما ذكرته في مقال منشور لي في روزاليوسف (المجلة) منذ حوالي عشر سنوات.. شقيقي هذا يحمل الجنسية الأمريكية بجوار المصرية.. كانت المعاملة التي يلقاها في دولة عربية عند إظهاره جواز السفر الأمريكي تختلف عن تلك التي يعلن فيها مصريته.. والمعاملة هنا تشمل المرتب والسكن أو البدلات، من أول دخول المطار حتي عودته إلي كاليفورنيا. ويتكرر التساؤل.. لماذا.. كل تلك المشاعر غير المحبة (ولا أقول العدوانية) تجاه المصريين؟ لماذا مقولات: المصريين الفوّالة (من الفول والفلافل)، المصريين الشحاتين (من التسول)، المصريين طمعانين في فلوسنا (من العرق المصري الذي كافح طويلاً.. غربة وطبيعة صعبة، وحرمان من الأهل).. حتي تصل الأمور إلي درجة التشفي.. والضغط علي هموم أبناء مصر (اسم الشهرة: الجراد)!! الغريب.. أو الأصيل.. أننا نعامل الاخوة العرب بكل الحب والترحاب، وبعضهم- والحق يقال- يقابل الود بمثله.. بخلاف أرباب شارع الهرم الذي يعايرنا البعض الآخر به. وبغض النظر عن التسخين الإعلامي هنا وهناك، ومع اعترافنا بأن الأخطاء قد تكون أحيانًا متبادلة نسأل ألن ينتهي مسلسل الاعتداء علي المصريين في الدول العربية؟ ولن نكرر حواديت: من الذي بني وعمّر وعلّم وعرّب... فذلك لن يجدي... وإن كان يدفع أحدنا للقول: سوف نكفر بالعروبة!! لماذا يلقي المصري كل تلك المعاملة التي تصل لدرجة القتل، بعد التعذيب والإهانات وأكل الحقوق؟ لماذا محاصرة المصريين في وهرانوالجزائر العاصمة وغيرهما من المدن، في صورة هولوكوست أو أفران غاز عربية (حقيقية هذه المرة)..؟ كنا نسخر ذات سنة من تلك الحرب التي جرت بين دولتين في أمريكا الجنوبية (السلفادور وهندوراس علي ما أذكر، في الستينيات) بسبب مباراة كرة قدم، ومع أن هذا لن يتكرر عندنا لكن.. هل وصلنا إلي هذا المستوي.. كرة قدم.. وإرهاب.. وجرحي مصريين؟ أليس لهذا الهوان من نهاية؟