في رمضان عام 1972، وقد كانت مصر تعيش ضبابية ما قبل حرب أكتوبر، حدث المشهد التالي.. وقف مروض الأسود الشهير محمد الحلو يحيي جمهوره بعد أن قدم فقرته شديدة الخطورة، ثم استدار إلي أسوده ليبدأ معها رحلة السيطرة اليومية، لكن شيئاً ما في نظرته لملوك الغابة التي صارت فقرة في سيرك كان ينذر بكارثة. بين صفوف الجمهور التي تتابع العرض متوترة ومشدوهة جلس كاتب القصة القصيرة العظيم د.يوسف إدريس. الصدفة كانت «مدبرة» فيما يبدو أن يكون يحضر يوسف إدريس هذا العرض تحديدا، وأن يلمح في عيون محمد الحلو والأسد «سلطان» نظرات مختلفة، ضاعت نظرة الثقة والسيطرة من الحلو لثوان، واستعاد سلطان ذكريات وموروث أجداده في غابات أفريقيا. في ثوان معدودة استحوذ الخوف علي الحلو وهو «مرّوض الأسود» وسيطرت عصبية وجنون وشهية وشهوة ملوك الغابة علي سلطان فكانت الحادثة القاسية.. وأمام الجمهور الذي كان يصفق منذ لحظات مبهورا بشجاعة وقوة الحلو افترس الأسد سلطان مدربه، وفي منتصف الحلبة التي شهدت شهرتهما لسنوات. ولأن يوسف إدريس أديب، حقيقي وليس مجرد متفرج نطبع المشهد المروع في ذاكرته، قبل أن يقدمه في قصة بديعة عميقة لا تقف مطلقا عند حدود سرد وقائع ما حدث وحملت اسم «أنا سلطان قانون الوجود»، باحثاً فيها ومحللاً معاني الخوف عندما تستحوذ علي الإنسان في لحظة قد يكون ثمنها حياته هو شخصياً. ظهرت مهنة ترويض الأسود في النصف الأول من القرن التاسع عشر، رغم أن هواية اصطياد الأسود قديمة جداً، ويعد الفرنسي هنري مارتن والأمريكي إسحق فان آمبورج هما رائدا فن ترويض الأسود في العالم حتي إن الأخير قدم لأول مرة عرضا لترويض الأسود في بريطانيا وأمام الملكة فيكتوريا عام 1838، ورغم هذا فإن عروض الأسود لم تلاق رواجاً لدي جمهور السيرك إلا مع انتشار السينما في الثلث الأول من القرن العشرين بعدما تم تقديم عروض لترويض الأسود علي الشاشة، وقبل هذا كان الجمهور يفضل عليها عروض الخيول! ورغم إغراء شخصية مروض الأسود واحتوائها علي مناطق درامية كثيرة، لعل ذروتها في أنه يواجه الموت يوميا بين فكي الأسود التي يسيطر عليها بنظرة عين وقوة الشخصية، فإنه لم يتم تجسيده بدرجة تتماشي مع أهميته في السينما المصري ليومنا هذا، حتي إن الفيلم الأشهر والأهم «السيرك» الذي غاص في كواليس عالم السيرك، أسند فيه المخرج عاطف سالم شخصية مروض الأسود لأحد ممثلي الصف الثاني وكان دورها في الأحداث هامشياً بالأساس. هذا في السينما، أما في الواقع فإن مهنة مروض الأسود منتشرة للغاية بعيدا عن أسوار السيرك، انظر يمنيا ويسارا وستجدهم إلي جوارك في الأتوبيس والمترو والميكروباص، يزاحمونك في طوابير العيش والعروض المخفضة في السوبر الماركت، يعملون في 23 شغلانة في اليوم الواحد، ويشجعون الأهلي والزمالك واللعبة الحلوة، ويواجهون الخوف كل يوم بقلب شجاع وفي داخلهم الخوف يعيش من ذلك اليوم الذي تهرب منهم نظرة الشجاعة فينقض عليهم سلطان- أي سلطان- مفترسا إياهم!