انتخابات الشيوخ 2025.. التنسيقية: لجان الاقتراع في نيوزيلاندا تغلق أبوابها    تجهيز 476 لجنة انتخابية ل«الشيوخ».. 12 مرشحا يتنافسون على 5 مقاعد فردي بالمنيا    «الاتصالات» تطلق مسابقة «Digitopia» لدعم الإبداع واكتشاف الموهوبين    روسيا: تحرير بلدة "ألكساندرو كالينوفو" في دونيتسك والقضاء على 205 مسلحين أوكرانيين    نقابة الموسيقيين تعلن دعمها الكامل للقيادة السياسية وتدين حملات التشويه ضد مصر    الكوري سون يعلن نهاية مسيرته مع توتنهام الإنجليزي    تفاصيل القبض على سوزي الأردنية وحبس أم سجدة.. فيديو    إصابة 5 أشخاص فى حادث انقلاب ميكروباص بطريق "بلبيس - السلام" بالشرقية    «تيشيرتات في الجو».. عمرو دياب يفاجئ جمهور حفله: اختراع جديد لأحمد عصام (فيديو)    لا تتسرع في الرد والتوقيع.. حظ برج الجوزاء في أغسطس 2025    الصحة: حملة 100 يوم صحة قدمت 26 مليونا و742 ألف خدمة طبية مجانية خلال 17 يوما    استجابة ل1190 استغاثة... رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر يوليو 2025    مبابي: حكيمي يحترم النساء حتى وهو في حالة سُكر    هايد بارك ترعى بطولة العالم للاسكواش للناشئين 2025 تحت 19 عامًا    "قول للزمان أرجع يا زمان".. الصفاقسي يمهد لصفقة علي معلول ب "13 ثانية"    الاستعلامات: 86 مؤسسة إعلامية عالمية تشارك في تغطية انتخابات الشيوخ 2025    المصريون في الرياض يشاركون في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    طعنة غادرة أنهت حياته.. مقتل نجار دفاعًا عن ابنتيه في كفر الشيخ    أمطار على 5 مناطق بينها القاهرة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    رئيس عربية النواب: أهل غزة يحملون في قلوبهم كل الحب والتقدير لمصر والرئيس السيسي    النقل: استمرار تلقي طلبات تأهيل سائقي الأتوبيسات والنقل الثقيل    60 مليون جنيه.. إجمالي إيرادات فيلم أحمد وأحمد في دور العرض المصرية    رئيس جامعة بنها يعتمد حركة تكليفات جديدة لمديري المراكز والوحدات    وديًا.. العين الإماراتي يفوز على إلتشي الإسباني    استقبال شعبي ورسمي لبعثة التجديف المشاركة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    المصريون بالسعودية يواصلون التصويت في انتخابات «الشيوخ»    انطلاق قمة «ستارت» لختام أنشطة وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات    مراسل إكسترا نيوز: الوطنية للانتخابات تتواصل مع سفراء مصر بالخارج لضمان سلاسة التصويت    الثقافة تطلق الدورة الخامسة من مهرجان "صيف بلدنا" برأس البر.. صور    «بيت الزكاة والصدقات»: غدًا صرف إعانة شهر أغسطس للمستحقين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ عالم أزهري يجيب    تعاون بين «الجمارك وتجارية القاهرة».. لتيسير الإجراءات الجمركية    «يونيسف»: مؤشر سوء التغذية في غزة تجاوز عتبة المجاعة    «الصحة» تطلق منصة إلكترونية تفاعلية وتبدأ المرحلة الثانية من التحول الرقمي    مفاجأة.. أكبر جنين بالعالم عمره البيولوجي يتجاوز 30 عامًا    استمرار انطلاق أسواق اليوم الواحد من كل أسبوع بشارع قناة السويس بمدينة المنصورة    شكل العام الدراسي الجديد 2026.. مواعيد بداية الدراسة والامتحانات| مستندات    تنظيم قواعد إنهاء عقود الوكالة التجارية بقرار وزاري مخالف للدستور    انخفاض الطن.. سعر الحديد اليوم السبت 2 أغسطس 2025 (أرض المصنع والسوق)    تنسيق المرحلة الثانية للثانوية العامة 2025.. 5 نصائح تساعدك على اختيار الكلية المناسبة    ترامب: ميدفيديف يتحدث عن نووي خطير.. والغواصات الأمريكية تقترب من روسيا    22 شهيدا في غزة.. بينهم 12 أثناء انتظار المساعدات    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب قبالة سواحل مدينة كوشيرو اليابانية    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    ترامب يخطو الخطوة الأولى في «سلم التصعيد النووي»    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    حروق طالت الجميع، الحالة الصحية لمصابي انفجار أسطوانة بوتاجاز داخل مطعم بسوهاج (صور)    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 يقفز لأعلى مستوياته في أسبوع    الصفاقسي التونسي يكشف تفاصيل التعاقد مع علي معلول    عمرو دياب يشعل العلمين في ليلة غنائية لا تُنسى    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    مقتل 4 أشخاص في إطلاق نار داخل حانة بولاية مونتانا الأمريكية    مشاجرة بين عمال محال تجارية بشرق سوهاج.. والمحافظ يتخذ إجراءات رادعة    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا (فيديو)    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجبة بشرية للأسود .. خلف أستار السيرك


كتب - منى أبو عيسى - عدسة - جون بركينز
«أول تجربة عرض لي كانت عند سن السابعة».. تلك الجملة قالها لي الرجل ذو الثلاثين عاما وهو يضع الماكياج علي وجهه خارج الغرفة كان الاطفال يصرخون وينادون عليه " تيمون ..تيمون " بينما الموسيقي من شدة صخبها تكاد تخرق الآذان التفت الي الرجل وقال " أتعرفين أن أبي أصيب في رأسه ذات مرة إثر وقوعه عن العجلة اثناء أدائه فقرة «حائط الموت»؟
ذلك الرجل هو " وليد ياسين " الذي كان والده احد فنانين السيرك والذي اشتهر بركوب الدراجة الهوائية .كان يروي لي حكايته بينما يضع طبقات من الكريم الابيض حول فمه وعينيه ليواصل قائلا " اي شخص يستطيع ان يكون مهرجا ولكنه لن يكون ابدا كشخص يحب ما يفعله ". وليد كان يجهز نفسه لتقديم فقرته في حفل عيد ميلاد طفل صغير . بالخارج كان الاطفال في انتظار نكتة ومعجزاته. .
رفع وليد يديه الي وجهه واخذ يتلو الفاتحة . صيحات الاطفال خارج غرفته تتعالي " تيمون، تيمون، تيمون " .رسم علي وجهه ابتسامة عريضة ودفع بحذائه الاحمر الكبير امامه ليعلن دخوله الي غرفة الاحتفال .
فقرته عادة ما تبدأ بتلاعبه بطريقة سحرية بالحلقات الدائرية، قبل ان يبدأ بسكب الماء من انوف الاطفال،وبمرور الدقائق تشعر وكأنه لم يعد " وليد " .
بعد الانتهاء من العرض يضع اشياءه في حقيب وردية ويرحل بعيدا متجها الي السيرك القومي حيث ينتظره اشقاءه واصدقاءه ..قال لي وقتها ان السيرك هو محل ميلاده .
القصة تعود الي ما يقرب من 50 عاما عندما اسس الرئيس الراحل " جمال عبد الناصر" السيرك القومي عقب توقيع اتفاقيات الاسلحة بين مصر وبين الكتلة السوفيتية . كان اول سيرك في العالم العربي حيث تم جلب العارضين وتدريبهم علي يد خبراء من روسيا ومن المانيا الشرقية، وسافر وقتها العارضون خارج مصر ليحصدوا العديد من الميداليات .
وقتها كان السيرك المصري يسافر بعيدا حتي انه وصل الي كوريا الشمالية وكندا . ولكن الوضع تغير منذ الثمانينيات حيث فقدت الحكومة اهتمامها به وامتنعت عن تمويل الرحلات الخارجية .
نعم البلد تغيرت كثيرا منذ عام 1966 حيث تحولت من التأميم الي الخصخصة . السيرك ايضا تعرض لتغيرات كثيرة منها الحريق الذي نشب فيه بعام 1975، صارع ومازال يصارع الاوضاع المتذبذبة والركود الذي يصيبه من وقت لاخر.. ومؤخرا كان هناك محاولة لاعادة احيائه مرة اخري.
الآن تستطيع ان تجد السيرك القومي بالقاهرة، جمصة، العريش, اسيوط وبني سويف الي جانب 3 فروع خاصة بالقاهرة والاسكندرية ورأس البر .
اللافت للانتباه ان عائد هذا العام وبفضل مهرجان السيرك الدولي الصيفي كان فوق كل التوقعات وتجاوز المليون دولار سنوياً.
بالرغم من ان السيرك القومي يكاد يكون اكثر قطاعات قسم " الفنون الادائية والحركية " التابع لوزارة الثقافة نجاحا علي صعيد الايرادات الا انه يبدو كم لو أنه اصبح "ملفا حكوميا منسيا ".في الوقت نفسه الذي يصف فيه ابطال السيرك الشيء الذي يربطهم به علي انه " فيروس " او " حب " او حتي " ارتباط عاطفي " .
- العرض يجب ان يستمر
خلف الستائر العرض الليلي مستمر . الرجل جذب يدي وكشف لي عن ثقب في قدمه يخلو من العضلات ثم قال لي " الاسد انقذ حياتي ..كنت علي وشك الموت لولا تدخله ".
وقتها كان مروض الاسود " مدحت كوتة " شابا يبلغ من العمر 16 عاما وفجأة وجد نفسه محاصرا من قبل اسود مسعورة ارادت الفتك به خلال احد التدريبات داخل السيرك القومي .
وقع " مدحت كوتة " علي الارض وقفز احد الحيوانات عليه وجرح قدمه .. مدحت واصل حكايته قائلا "تدخل تومي الأسد واخذ يقاتل الاسود الاخري التي حاولت مهاجمتي الي ان تدخلت امي محاسن الحلو بعد ان دخلت الي الحلبة وجذبتني خارجها ".
عندما كانت " مصر" ملكية في الثلاثينيات من القرن الماضي كان هناك عائلتان فنيتان كبيرتان هما" الحلو" و" عاكف" وكان لكل عائلة منهما سيرك صغير خاص بها . كان ذلك قبل ان تسافر هذه العائلات لتقديم فنها خارج مصر . المعروف تاريخيا ان "علي الحلو" وابناءه محمد وحسن كانوا يعملون في الميناء وبالتالي تسنت لهم فرصة مشاهدة السيرك الايطالي في رحلة دخوله الي وخروجه من مصر . وطالما انبهرت عائلة الحلو بحياة السيرك الغريبة والغامضة، ومن ثم بدأوا العمل مع الاجانب العاملين في مجال السيرك وبمرور السنوات اشتروا حيوانات من هؤلاء الاجانب وبدأوا العمل بانفسهم في هذا المجال. وبالرغم من ذلك سرعان ما انفصل محمد وحسن ومنذ ذلك الوقت ترسخت جذور مناخ من التنافس سيطر علي العلاقة علي مدار سنوات وسنوات. كل من الشقيقين كان لديه سيرك جوال وتم تقسيم محافظات الدولة بينهما. وظل الاثنان هما الرواد في مجال ترويض الاسود في الشرق الاوسط.
كان ل " حسن الحلو" ابنة هي " محاسن الحلو " والتي سرعان ما اصبحت اول مروضة اسود في الشرق الاوسط.
ابنها مدحت قال لي عنها " كان لأمي حضور قوي وفعال مع الجمهور، كانت اسطورة " . " محاسن" امراة ذات جمال وثقة بالنفس، انضمت للسيرك القومي بالستينيات وأخذت ابنها الصغير وقتها " مدحت " ليعمل معها . والمفارقة انها منحته " تومي " الاسد الصغير يوم ان اتم عامه الرابع عشر ليتولي هو تدريبه. ومن يومها،مثلما دربها أبوها " حسن الحلو", دربت أبنها " مدحت " الصغير علي تدريب الأسود. وبدأت فقرتهما معا ..الام والابن.
- رفع الستار
" بسم الله الرحمن الرحيم ".. والآن يبدأ العرض مع الفنان العالمي ومروض الحيوانات " مدحت كوتة " ابن الفنانة الكبيرة الراحلة ومروضة الحيوانات " محاسن الحلو" ". بهذه الكلمات من مقدمي العرض للجمهور تبدأ الرحلة داخل السيرك القومي.
داخل الحلبة يبدو " مدحت " ذو ال53 عاما والاب لطفلين بقميصه المطرز من جلد الفهد كما لو انه يشع بالطاقة ويخرجها من داخله لتحيط بالحلبة كلها التي يبرز هو بداخلها وكأنه نجم " أنا سعيد داخل الحلبة " .. قال لي " مدحت " قبل عرضه. تسعة من الاسود والنمور أخذت مواقعها حول سيدها . مدحت يجذب سوطه ويأمر الحيوانات المفترسة بالقفز، الالتفاف والرقص معه . وبين كل خدعة والثانية يواجه الجمهور الجالس خلف القضبان وهو يفرقع اصابعه ويهتز علي نغمات الموسيقي اللاتينية المنبعثة من داخل الحلبة .
المفارقة ان " انوسة كوتة " ابنة "مدحت " تقدم الآن عروضا مع 6 اسود في السيرك الخاص بمحافظة الغردقة أما ابنه " حمادة " فغادر مصر منذ عام ولا يريد العودة اليها مرة اخري .
خارج السيرك القومي تجد بوسترا بالابيض والاسود لصورتين صورة يظهر فيها "مدحت كوتة" شابا وهو يضع رأسه في فم الاسد. وصورة لابنه حمادة عندما كان عمره 23 عاما يقف بثبات في طليعة اسوده . البوستر يبدو كأنه ظل أو طيف لميراث من فنون السيرك يعود تاريخه الي عشرينيات القرن الماضي .
اذكر انه منذ عامين قال لي " حمادة كوتة " .. " هنا في مصر لا يهتمون إلا بمشاهدة الاسد يأكل مروضه ". طالما كانت كلمات "حمادة " حادة وطموحاته عالية ولذا غادر مصر الي تركيا حيث اصبح اسمه معروفا من انطاليا الي اسطنبول في الوقت الذي وقع فيه عقدا مع السيرك القومي الروسي ."حمادة " يخطط للفوز بجائزة المهرجان الدولي الاهم للسيرك في مونت كارلو ومن ثم يعود لتذكرة السيرك المصري باسمه.
- ذكريات
" حمادة في تركيا يتذكر ايامه الاولي مع " السيرك القومي المصري " حيث قال لي " بعد ان هاجم الاسد ابي و جدتي اضطر لاجراء اربع عمليات جراحية بنائية وكان عليه تقديم عرض في السيرك القومي لم يستطع الغاءه، فهذه وظيفة حكومية في الأخر والتذاكر كان قد تم بيعها .
وبما انه لم يكن قادرا علي تحريك المنصات الحديدية وبالتالي اخذني لاساعده في تلك المهمة .
كان عمري وقتها سنتان". حمادة واصل حديث الذكريات قائلا " وقتها قام بفتح فم الاسد بينما قمت انا بوضع رأسي في الداخل، ثم جعلني اجلس علي ظهر الاسد لكي اقوده وهكذا ". ومن وقتها اصبحت تلك لعبة " حمادة " المفضلة .
الجدير بالذكر انه مازال يتصل بابيه من تركيا طلبا للنصيحة . "حمادة" روي لي ايضا انه طالما كان يحاول الهروب من الفقرة التقليدية للاسود.
في احدي المرات ظهر في زي المهرج مع الاسود امام الجمهور فبدا وكأنه تم حبسه بالخطأ مع الحيوانات في الحلبة حتي ان الجمهور وقع في حيرة من امره . لم يكرر حمادة هذه الفعلة ابدا رغم انه ظل سنين يدرب الاسود لأداء هذه الفقرة.
قا ل "حمادة " فانه " لا يوجد اي تطور في السيرك القومي فهو علي الحال نفسه منذ السبعينيات ".
لم يوقع " حمادة " عقدا مع السيرك القومي، وكان يقوم بالعرض بدلا من والده. كان يفضل تقديم فقراته في السيرك الخاص خلال فترة الصيف حيث كان يحصل علي1000 جنيه مصري في العرض الواحد بينما في تركيا علي سبيل المثال يحصل في السيرك الخاص علي 800 دولار للعرض الواحد مع مراعاة ان الجهة التي تدعوه تتحمل كل النفقات، اما في موسكو فالصفقة التي تنتظره تنص علي 1000 دولار في العرض الواحد.
«لن اعود للعمل في مصر، اشعر بالشفقة تجاه نفسي لاني اضعت وقتي هناك»..هكذا قال لي معبرا عن سعادته لكونه بالخارج حيث يتم تقديره من قبل الجمهور الذي يستوعب ان هناك سنوات كثيرة من التدريب وراء العرض الذي لا يستغرق علي خشبة المسرح اكثر من نصف ساعة . " حمادة " تزوج من لاعبة اكروبات روسية وينوي الانتقال الي روسيا حيث يخطط للحصول علي الجنسية الروسية التي ستكلفه جنسيته المصرية، هو علي استعداد للقيام بهذه التضحية .." انهم لا يفهمون ما افعله ولذا كان علي ان ارحل ".
- مروضة الأسود
يظل المشهد غير المألوف لتلك البنت البالغة من العمر 22 عاما ذات الابتسامة الملائكية والخصلات الشقراء الملونة والسوط بيدها وهي موجودة داخل الحلبة خلف القضبان المعدنية مع حيوانات خطيرة تستطيع الانقضاض عليها في اي ثانية.
رأيتها وهي تأمرهم بحدة ان يعتلوا المنصات المعدنية الملونة باللون الوردي .
أبي لم يحبذ قيامي بتلوين المنصات بهذا اللون حيث قال :" الأسد معناه أسود ليس وردي!" قالت " انوسة كوتة ". انهت فقرتها باعطاء الاسد قطعة لحم من فمها بواسطة العصا . لم تنس " انوسة " ان تجلس فوق الاسد وتلقي بقبلة في الهواء للجمهور الذي كان مستمتعا بالمشاهدة «عسل» سمعت امرأة محجبة تجلس خلفي تصف " انوسة "بهذه الصفة الشعبية وهي منبهرة بالمروضة الشابة.
لقد كبرت " انوسة "، أصغر مروضة اسود في الشرق الاوسط، بين الاسود . وهي حاصلة ايضا علي شهادة علمية في القانون الدولي . لدي"أنوسة" مخرجها الخاص الذي يتعاون معها في عروضها، الي جانب مصمم الأزياء ومدير الأعمال الخاصين بها. تقول المروضة الشابة أنه ينبغي علي الفنان أن يكون له فريقه الخاص لكي يقدم "لوحة فنية" علي خشبة المسرح في النهاية.. " انوسة " متعاقدة مع السيرك القومي وقدمت فقرات مع والدها " مدحت كوتة " بالضبط كما كان هو يساعد والدته في فقراتها . ولكن منذ 2009 وهي تؤدي العروض لوحدها .
" الاسد أكل من 7 الي 10 كيلوجرامات من اللحوم وبالتالي يتم اطعامهم من لحوم الحمير وهو الشيء غير الصحي بالطبع ولذا احاول ان احضر لهم لحوم الجمال او البقر . ايضا تحتاج الاسود الي اللبن والبيض لتنظيف معدتها " . هكذا اخبرتني " انوسة " عن الروتين الغذائي أسودها بينما كنا جالسين خلف السيرك الخاص الصغير الذي يملكه بعض المستثمرين الاواكرانيين .
العارضون الروسيون وابناؤهم كانوا يتجولون حولنا . لقد كنا في الغردقة التي كانت تلمع سماؤها بأضواء المدينة الساهرة . ان الغردقة هي واحدة من منتجعات مصر الساحلية الحديثة نسبيا .
" ايجور كوستيوك " مدير السيرك قال لي انه من الصعب بناء سيرك خاص في مصر نتيجة للروتين ولكم الاوراق الرسمية التي لابد من استخراجها ناهيك عن غلاء أسعار الاراضي . فقد استغرقهم الامر سبع سنوات لكي ينجحوا في افتتاح السيرك ومع ذلك مازالوا تحت رحمة تقلبات الحكومة المزاجية . اثناء حديثي مع مدير السيرك لمحت احد العارضين يجري امام اقفاص الاسود واذا باسد صغير لا يتجاوز عمره الستة اشهر يقفز في مكانه من الحماس . أخبرتني " انوسة " لاحقا ان الاسد الصغير يمكث معهم في المنزل اخي طلب مني ان انضم اليه في تركيا ولكني لا اريد ذلك، اشعر اني يمكنني النجاح هنا في مصر، المسألة تحتاج الي صبر " . هكذا قالت لي " انوسة ".
ان السلم الي الشهرة في عالم السيرك يبدأ من الاسم . في البداية كانت الشهرة من نصيب عائلة " الحلو " ولكن عندما تزوجت " محاسن الحلو " من عائلة " كوتة " اصبحت الشهرة الان مقسمة بين العائلتين .
اجيال واجيال ورثت الحيوانات والمهنة بل والصراع من اجل الشهرة وطالما كان هناك خاسرون وفائزون .
في عام 1967 خسرت مصر حربا مع اسرائيل اضعفت مواردها ومعنويات الشعب . بعد الحرب ب3 سنوات حدث ان هاجم احدث الاسود مروضه ومزق كليته عندما التفت لتحية الجمهور في السيرك القومي . محمد الحلو مات في المستشفي، اما الاسد سلطان فرفض الطعام ومات بعده في حديقة الحيوانات .
الأسد السياسي
المفارقة ان الكاتب الراحل يوسف ادريس كان موجودا وشاهد الحادثة ومن ثم كتب واحدة من إبداعاته مستوحاة مما حدث باسم " انا سلطان قانون الوجود " حيث استخدم واقعة هجوم الاسد علي سيده كرمز للشعب المصري المهزوم والمقهور . هذه المأساة اضافت مزيدا من الشهرة لعائلة " الحلو ".
في عام 2004 اسد اخر تم استخدامه كرمز لمصر . حيث قرر وقتها " طلعت السادات " ابن شقيق الرئيس الراحل " محمد انور السادات" ان يخوض حملة سياسية شرسة من اجل الانتخابات وقرر ان يكون " الاسد " هو رمزه الانتخابي، ولم يكتف بهذا بل طلب من حمادة كوتة ان يعطيه اسدا لكي يصحبه في حملته . لاحقا تم القبض علي " حمادة " من قبل قوات الامن بتهمة التدخل في سياسات حزبية وبالطبع تم الافراج عنه فيما بعد . هذه المرة لم تضف واقعة الاسد شيئا لعائلة " كوتة " بل ربما يكون العكس هو ما حدث .
" استطيع ان احصل علي الشهرة من خلال عملي، والدي هو الذي صنع شهرة عائلة " كوتة " وانا الذي ساواصل المسيرة حتي اصل الي مهرجان " مونت كارلو" واحصل علي الميدالية الذهبية " قال حمادة .
- نظام هرمي
داخل السيرك هناك ما يشبه النظام الهرمي الذي يصنف علي اساسه العاملون في السيرك . في قمة الهرم تجد مروضي الاسود، وفي المنتصف تجد لاعبي الاكروبات اما في النهاية ستجد ال"بلياتشو " . " من الداخل الامر يبدو كما لو ان هناك معاهدات بين عصابات " هكذا قال لي " حمادة " واصفا الوضع داخل السيرك، فالامر يكون في غاية الصعوبة اذا لم يكن وراءك عائلة تدعمك.
" مصطفي رماح " علي سبيل المثال هو احد الذين يسيرون علي السلك وهو رجل في الستينيات من عمره . كان لديه طفلان ولكنهما تركا السيرك عندما كبرا ولكنه قرر البقاء . اخوه الراحل " حامد" كان الشخص الوحيد من عائلته الذي كان معه داخل السيرك رغم ان " حامد " كان يتنافس معه. وبالمناسبة فان " حامد" حصل علي ميداليات من الرئيس السادات بل وسافر الي باريس مع الاسطورة ام كلثوم وقام بتقديم فقرة الاتزان الخطيرة فوق برج القاهرة العاصمة التي بدت ضئيلة نظرا لان البرج علي ارتفاع 500 قدم .
" مصطفي " كان الاخ الاصغر " لقد انضممت الي السيرك بسبب اخي ومازال لدي اصرار علي البقاء ". لقد انضم الي السيرك القومي عندما كان عمره 12 عاما ولا يفكر في الاعتزال .
لقد تعلم في السيرك كل شيء من تدريب الثعالب الي السير علي الحبل بمفرده.
" مصطفي " يحصل علي 1000 جنيه مصري في الشهر ولديه ذاكرة رائعة . اخبرني عندما كنا في" جمصة " احد المصايف الشعبية انه لا احد من العاملين بالسيرك القومي يستطيع ان يضايقه لانهم يعرف عنهم سرا او اثنين علي الاقل .
" قديما كان الوضع افضل خاصة ايام جمال عبد الناصر عندما كان هناك تبادل ثقافي، اما الان فالعارضون واللاعبون يكتفون بتقليد بعضهم البعض ".
خلال فترة الركود الاقتصادي الذي تمر به مصر خلال ال20 عامًا الاخيرة، كانت ومازالت الاجيال الجديدة من اللاعبين تحاول البحث في انحاء البلاد عن وظائف اخري لتعويض مرتباتهم الضعيفة, والقائمة تضم مجالات عديدة مثل اعلانات التليفزيون، حفلات الزفاف، اعياد ميلاد الاطفال، حيل سينمائية بل ووظائف نهارية في السوبر ماركت.
- اعتصامات
ان المرتب في السيرك القومي حوالي 500 جنيه مصري او 1000 جنيه مصري في حال ان تكون مروض اسود، بينما في القطاع الخاص " مثل السيرك الخاص او حفلات اعياد ميلاد الاطفال " قد يصل العائد الي 5000 جنيه مصري في الشهر .
" اذا عمل شخص ما في كافيه من الكافيهات الموجودة بالشوارع مثلا دخله اليومي لن يقل عن 150 جنيها مصريا والذي يعد بمثابة مرتب شهري لاي ممن يعملون في السيرك القومي . والغريب اننا كعاملين في السيرك القومي نعرف جيدا الاخطار التي نواجهها كل يوم والتي قد تؤدي الي ان ينتهي بنا الحال نعاني من شلل مثلا الا اننا مازلنا نحرص علي العمل في السيرك ". هكذا روي لي " وليد ياسين" والذي بجانب كونه " مهرجا" هو ايضا واحد من الاخوات الاربعة " ياسين" الذين يعملون ايضا في السيرك القومي ك"دراجين" . لقد تعلموا هذا الفن علي يد ابائهم بالضبط كما تعلم اباؤهم علي يد الاجداد، فهذا هو المتعارف عليه عند معظم فناني السيرك القومي، الحرفة تنتقل من جيل الي اخر .
خلال العام الماضي انضم السيرك القومي الي موجة الاضرابات التي اجتاحت البلاد منذ 2004 عندما بدأت الحكومة تطبيق سياساتها الاقتصادية الاصلاحية والتي اتسمت بالقسوة خاصة مع الاسعار المتصاعدة.
اكثر من 1.5 مليون عامل اعترض علي هذه الاصلاحات من العاملين في التليفزيون الي المهرجين . علماء الاجتماع اعتبروا ما حدث اكبر حركة اجتماعية في الشرق الاوسط وانهم لم يروا مثيلا لها منذ نصف قرن . لقد كان " وليد " هناك وتم رفع المرتبات ولكن بمقدار ضئيل.
- البلياتشو
"وليد" اخبرني ان فن " البلياتشو" هو بمثابة انعكاس بنسبة 180 درجة للحقيقة وهو الامر الذي يجعل الجمهور يضحك . علي المسرح يستطيع " تيمون" قيادة الدراجة الي الوراء لاضحاك الناس، ولكن ما ان تنتهي الفقرة ولا يتبقي من " تيمون" الا المناديل الورقية المستعملة يعود " وليد " من جديد والذي يصنع ملابس البلياتشو بنفسه ويسافر من وقت للآخر للمنتجات والمناطق السكنية الراقية من اجل احياء حفلات اعياد الميلاد والزفاف بل ولا ينام الا لساعات قليلة خلال اليوم وينفق المئات علي استيراد الادوات التي يستخدمها . ان الحياة خلف ستائر السيرك تتسم بحس دعابة سوداوي والذين يعملون به فقط هم الذين يعتبرون تلك الحياة مسلية وممتعة .
" لقد فكرت مرارا وتكرارا في ترك السيرك القومي لاني لا احصل علي اموال كافية واكبر مبلغ نجحت في ادخاره منذ ان عملت في ذلك المجال هو 10000 جنيه مصري ولكن الامر اشبه ب " سرطان " يسيطر علي تماما، لدرجة اني لا استطيع ان اترك السيرك ، اصدقائي الحقيقيون في هذا المكان، كل يوم استيقظ واتوجه اليه، اني عشت هنا اكثر مما عشت بمنزلي، حبي لهذا المكان اكبر من تصوري ". هذه كلمات " وليد " لي عما يمثله السيرك بالنسبة له.
" هل تستطيعين تخيل ذلك الاحساس عندما تكونين علي المسرح وهناك ما يقرب من 1300 شخص يشاهدونك تقومين بفعل اشياء لا يستطيع احد غيرك ان يفعلها، انه احساس يستهلك كل حواسك ويسيطر عليك" هكذا اخبرني " محمد ابو ليلة " الذي واصل قائلا " احيانا نمضي ما يقرب من 4 ساعات في تعلم خدعة لا تستغرق اكثر من 8 دقائق علي خشبة المسرح . ان ما نفعله هو شيء مميز وفريد" . ابو ليلة اصبح الآن المدير العام للسيرك القومي المصري ولكن في عام 1973 كان لاعب جمباز لا يتجاوز عمره السابعة عشرة يعمل في السيرك بروح واندفاع الشباب .
في عام 1975 تم اختياره مع 3 آخرين كجزء من برنامج للتبادل بين مصر والاتحاد السوفيتي للسفر والدراسة هناك .
" لقد كنت سعيدا لدرجة اني لم اسال عن المدة التي سنقضيها هناك, كنت متصورا اني سأقضي هناك فترة الصيف فقط ولكني فوجئت عندما وصلت اننا سنظل هناك لمدة 4 سنوات" . ابو ليلة درس فن السيرك ولكن دراسته كانت مرتكزة بشكل خاص علي العاب الاكروبات الهوائية، وخاض التجربة التي لا تتكرر كثيرا للعيش في بلد اجنبي . قال لي بلغة روسية سليمة "كانت هذه السنوات الاربع افضل سنوات حياتي بدون جدال ".
لم يعد "ابو ليلة " يقدم اي فقرات خاصة به، فقد نجحت المهام الادارية والعمل علي حل مشاكل اللاعبين في السيطرة علي معظم وقته . قد اصبحت عضلاته اضعف لانه لم يعد يلعب، لكنه لم ينس أبدا الاتزان الأكروباتي الذي أصبح جزءًا منه.
- راع السيرك كان اقوي من قبل، خلال الحقبة الناصرية مثلا كان خامس افضل سيرك علي مستوي العالم، ولكن بسبب الاهمال لم يعد الناس يرون السيرك " فن ". " ابو ليلة " يؤمن بان الاستقلال عن الدولة والاستعانة براع او ممول ربما يعمل علي تحسين ظروف السيرك.
مؤخرا ظهر مقال في احدي الجرائد المحلية يتهم فيه مصدر غير معلوم من داخل السيرك لاعبًا آخر بلعب البالونات خارج السيرك في اسيوط لمحاولة الحصول علي دخل يضاف الي مرتبه الحكومي . الاتهام كان موجهًا نحو " وليد ياسين" من قبل منافس قديم له . اخبرني وليد فيما بعد ان " 40 " بالمائة من الناس الموجودة ليسوا جيدين بالدرجة الكافية للعمل في السيرك .
قديما لم يكن هناك أدوات آمنة للعمل وكانت هناك حالات وفاة، وكان عليك اما ان تنجح او تموت والآن ورغم اننا اصبح لدينا المعدات والادوات الآمنة الا انني اتمني ان نحقق ولو 10 بالمائة من النجاح الذي نجح آباؤنا في الوصول اليه ".
ويبدو ان هذه المشكلات والنقاشات ستظل مفتوحة ل" ابو ليلة " للعمل علي حلها . في الخارج، تزدحم العاصمة بالناس والأصوات بالليل وتتخذ طابعًا سحريا خاصا، مثل سركها يجهز ناسه وسحره للعرض الليلي. " العالم سيرك كبير وما نحن الا سيرك صغير داخله "، قال مدير السيرك، أبوليلة، قبل ان يستغرق في الضحك .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.