جولات تفقدية لرئيس مياه الشرب والصرف بأسوان لمتابعة المحطات والروافع في ظل ارتفاع الحرارة    وكيل صحة الدقهلية خلال اجتماعه مع مديرى الإدارات: يؤكد التعامل بروح القانون أساس النجاح"    شكسبير في سجن الواحات    أمينة الفتوى بدار الإفتاء توضح علامات طهر المرأة وأحكام الإفرازات بعد الحيض    عبد اللطيف منيع يعود للقاهرة بعد معسكر مكثف بالصين استعدادًا لبطولة العالم المقبلة    لماذا تغيرت خطة أمريكا للحل فى غزة؟    قبل بدء الفصل التشريعى الثانى لمجلس الشيوخ، تعرف علي مميزات حصانة النواب    مصدر مقرب من محمد هاني ل في الجول يكشف كواليس مع حدث مع معروف وقت الطرد    غوارديولا يتحدث عن صفقاته الجديدة    الداخلية تكشف ملابسات فيديو يزعم وفاة محتجز فى أحد أقسام القليوبية    جامعة المنصورة تُشارك في مبادرة "كن مستعدًا" لتأهيل الطلاب والخريجين    محافظ الجيزة يتفقد حالة النظافة وإزالة الإشغالات بأحياء الطالبية والعمرانية والهرم والعجوزة    منشآت تنظّم لقاء بعنوان "أهم ملامح نظام الامتياز التجاري"    مستشفى قها التخصصي ينقذ طفلة من فقدان ملامح أنفها بعد جراحة دقيقة    «الصحة» تغلق 10 عيادات غير مرخصة ملحقة بفنادق في جنوب سيناء    تحقيقات واقعة "فتيات الواحات".. الضحية الثانية تروى لحظات الرعب قبل التصادم    خبير أمن وتكنولوجيا المعلومات: الذكاء الاصطناعي ضرورة لمستقبل الاقتصاد المصرى    7 أسباب تجعلك تشتهي المخللات فجأة.. خطر على صحتك    قرار جديد من التموين بشأن عدادات المياه: حظر التركيب إلا بشروط    المفتي السابق يحسم جدل شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    يسري الفخراني بعد غرق تيمور تيمور: قُرى بمليارات كيف لا تفكر بوسائل إنقاذ أسرع    اعتذار خاص للوالد.. فتوح يطلب الغفران من جماهير الزمالك برسالة مؤثرة    الأمن يقترب أكثر من المواطنين.. تدشين قسم شرطة زهراء أكتوبر 2| صور    العراق: مهمة بعثة التحالف الدولي تنتهي في سبتمبر    رئيس جامعة الوادي الجديد يتابع سير التقديم بكليات الجامعة الأهلية.. صور    الرئيس السيسي يوجه بمواصلة دعم قدرات شبكات الاتصالات وتوسيع مناطق التغطية    محافظ الجيزة يطمئن على الحالة الصحية لشهاب عبد العزيز بطل واقعة فتاة المنيب    توجيهات حاسمة من السيسي لوزيري الداخلية والاتصالات    جبران يفتتح ندوة توعوية حول قانون العمل الجديد    فنون شعبية وطرب أصيل في ليالي صيف بلدنا برأس البر ودمياط الجديدة    مانشستر يونايتد يدرس التحرك لضم آدم وارتون    ريال مدريد يخطط لبيع رودريجو لتمويل صفقات كبرى من البريميرليج    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    رئيس الأركان الإسرائيلي: نُقرّ اليوم خطة المرحلة التالية من الحرب    رئيس وزراء إسبانيا يقطع عطلته الصيفية لزيارة المناطق الأكثر تضررا من حرائق الغابات    أمر ملكي بإعفاء رئيس مؤسسة الصناعات العسكرية ومساعد وزير الدفاع السعودي    صحة الوادى الجديد: انتظام العمل فى المرحلة الثالثة من مبادرة "100 يوم صحة"    أحمد سعد يغني مع شقيقة عمرو «أخويا» في حفله بمهرجان مراسي «ليالي مراسي»    فيضان مفاجئ في شمال الصين يخلف 8 قتلى و4 مفقودين    مدير عام الطب البيطري سوهاج يناشد المواطنين سرعة تحصين حيواناتهم ضد العترة الجديدة    حقيقة انتقال هاكان للدوري السعودي    أزمة الراتب.. سر توقف صفقة انتقال سانشو لصفوف روما    الأنبا ثيئودوسيوس يترأس القداس الإلهي بكنيسة العذراء مريم بفيصل    شئون البيئة بالشرقية: التفتيش على 63 منشآة غذائية وصناعية وتحرير محاضر للمخالفين    إنفانتينو عن واقعة ليفربول وبورنموث: لا مكان للعنصرية في كرة القدم    الخارجية الروسية تتوقع فوز خالد العناني مرشح مصر في سباق اليونيسكو    في 3 خطوات بس.. للاستمتاع بحلوى تشيز كيك الفراولة على البارد بطريقة بسيطة    موعد آخر موجة حارة في صيف 2025.. الأرصاد تكشف حقيقة بداية الخريف    تعرف علي شروط الالتحاق بالعمل فى المستشفيات الشرطية خلال 24 شهرا    حزب الجبهة الوطنية: تلقينا أكثر من 170 طلب ترشح لانتخابات مجلس النواب    مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي يعلن تفاصيل مسابقة "أبو الحسن سلام" للبحث العلمي    المفتي يوضح حكم النية عند الاغتسال من الجنابة    إصلاح الإعلام    فتنة إسرائيلية    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    خطأ أمريكي هدد سلامة ترامب وبوتين خلال لقائهما.. ماذا حدث؟    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. سعر الذهب اليوم الأحد 17 أغسطس محليًا وعالميًا (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاتب أمريكي: أطلب من ابني أن يكون لطيفاً معي لأن الآباء لا يعيشون طويلاً

عملية الحساب Math بسيطة: الرجال يتزوجون في سن أكبر من النساء ويموتون في سن أبكر. وهذا يعني أن العديد من الأطفال المولودين لآباء كبار السن يكبرون مع تربص وتوجس محقق لموت الأب. مات والدي عندما كنت في الحادية عشرة، مما ترك تأثيرا ضخما وعظيما علي حتي الآن، لذلك أصبح واحدا من أول الأشياء التي أريد معرفتها عندما أتعرف علي الناس هو ما إذا كانوا فقدوا آباءهم «مثلي»!! أعتقد أن هناك علاقة «حميمة» مشتركة بين الناس الذين يفقدون آباءهم في وقت مبكر. لقد جربت ذلك بعد وفاة والدي مباشرة حيث تصادقت فورا مع صبي يتيم في الحارة كنت أعتقد أنه يكرهني من قبل.
صديق يعاني نفس المأزق
ففي اليوم التالي لوفاة والدي، تصادقت بسرعة مدهشة مع ملادن الذي يقيم في حينا ولعبنا بالحجارة أمام منزلي، وفجأة أثناء اللعب باغتني ملادن قائلا:
- نحن الآن متساويان!!!
- ماذا تعني؟!
- توفي أبي عندما كنت في الثالثة. سوف تجرب بنفسك الآن كيف يشعر من لا أب له!!
بدا مبتهجا لوجود صديق يعاني نفس المأزق، وبينما لا أستطيع القول إنني فرحت لوجود صديق فقد والده في وقت مبكر مثلي، فقد شعرت بالتأكيد بشيء من «الحميمية» الفورية لتلك الصدفة المرة/الحلوة.
ثم عندما كبرت، أصبحت أرصد مثل هذه الصداقة النادرة والمشاعر الحميمية في عالم الكتابة، حيث صرت ألاحظ تصرفات وإبداعات الكتاب الذين فقدوا آباءهم في سن مبكرة. صديقي الروائي بيل كووب فقد والده عندما كان في سن الرابعة. أول رواية كتبها كووب تفتتح بحكاية عن «إذن» Ear أب توفي للتو يتم تخليلها في جرة (مرطبان) للذكري!!! وهي صورة إبداعية تعبر عن الوفاء وترمز لحلم الابن أن يواصل الأب سماع أحاديث عائلته (وربما نصحهم) بعد موته كما لو كان لا يزال حيا. وهي حركة إبداعية مبتكرة ومروعة في ذات الوقت!! وأعتقد أن ذلك يصف مشاعر وأمنيات وأحلام كثيرين منا ، ذكرا أو أنثي ، في هذا النادي العالمي غير الحصري الكبير: «جمعية الآباء الميتين».
كاتبة صديقة أخري، ماديلون سبرنجنذر، تصف في كتابها «البكاء في الأفلام» اللحظات التي جعلتها هائمة علي غير هدي في شبابها ومرحلة المراهقة والبلوغ: لقد شاهدت والدها يغرق في نهر المسيسيبي بعدما قفز من قبالة جزيرة صغيرة إلي النهر محاولا إنقاذ ابنه الذي سقط في النهر للتو ثم سحبهما تيار قوي، وشعرت ماديلون برعب سرمدي (أبدي) لا يزال يلازمها لأنه لم يطف أي منهما بعد ذلك. وعندما زرتها ، كانت تستمع إلي مقطوعة ميلانخولية (سوداوية/كئيبة) مؤلمة وشديدة الحزن (للموسيقار النمساوي الرومانسي جوستاف) ماهلر، بل ربما كانت أكثر مقطوعاته مأساوية علي الإطلاق في رأيي. ولذلك، قلت لها متهكما: «أنت بالتأكيد تعرفين كيف تنشرين الفرح والبهجة حولك؟ أليس كذلك؟» ضحكت ماديلون وهي تجيب بصراحة جميلة: «أحب الحزن وأستمتع به. بصراحة، أجد فيه لذه بديعة ونشوة لا تضاهي». حسنا ، لقد لويت وحرفت حكايتها قليلا، ولكن بعد ذلك اتفقت معها بخصوص «لذة الحزن» هذه، لأن تلك الصدمات (الحزينة) للمفاتيح (الروحية) الصغيرة داخلها كانت تصنع شيئا مذهلا في ذهني أيضا. بالطبع ، سيكون من الصعب الادعاء بأن الآخرين الذين لم يفقدوا آباءهم في وقت مبكر لا يعرفون مثل ملذات «الحزن الميلانخولي» هذه إلي حد معين وبغرابة مدهشة، عندما أجتمع مع أصدقاء فقدوا آباءهم ، يتولد لدي إحساس بأنني وسط مجموعة من «الأطفال» الذين يمكنهم أن يلعبوا بدون «إشراف» و«مراقبة»!! لقد زال واختفي إلي الأبد «المُشرف»، باني «الأنا العليا» Superego. ولكنه بالتأكيد يلوح هنا وهناك بصورة شبحية بطريقة قد ترهبنا أحيانا.
من الممكن في لحظات الخوف أن أتشبث ب «الأنا العليا»، كما لو كانت ستمنحني الأمن لوجودي مع أبي، «الحامي». ولهذا السبب، توطد إيماني بالله بسهولة ويسر. وبالتأكيد، صليت لله في لحظات الخطر. ولكن للأسف، في لحظات المتعة والسعادة، نسيت الله!!! توفي والدي بطريقة عزز فيها فقط خوفي وإيماني، الخوف من الله هو بداية الحكمة، بحسب الإنجيل، ورؤية والدي يموت ملأتني معا: بالرعب وبالرغبة في السمو علي وفاته والحزن عليه.
وفاة الأب
في منتصف ليلة 6 فبراير عام 1968، انتهيت أنا وأخي معا من الصراخ برعب لرؤية الدم يخرج من أنف والدنا بعد سكتة قلبية. وعندما شعرنا بعدم وجود نبض في يده ورقبته بعد دعائنا الجنوني المحموم إلي الله لينقذه، تريثنا، تقريبا مندهشين لكوننا لا نزال أحياء نحن أنفسنا. سألت نفسي لوهلة: «وماذا الآن؟؟» وحدق أخي إلي وجهي بحالة من «عدم الوعي والاستيعاب» لما جري فهمت منها أن الحياة ستستمر. ولثوان قليلة، أصبحنا معا هادئين، بل وشعرنا - بغرابة - كأننا أغثنا وأنقذنا. الرعب يمكن أن يحدث، ولكن، مع هذا، يمكن أن تستمر (الحياة). وفور عودة وعينا وتذكرنا لوفاته، انتكسنا للنحيب والبكاء والدعاء، وعندما حاولت الذهاب إلي السرير للنوم، شعرت بقشعريرة مزعجة ورجفة عنيفة في جسدي.
نظر أقاربي وأصدقاء العائلة الذين جاءوا لوداع جثة والدي، والتي كانت موضوعة علي طاولة الطعام في غرفة المعيشة ، في وجهي بتعاطف، وطبطبوا علي رأسي بحنان وعطف. لم أشعر قبلها بأني محبوب بذلك القدر. تسللت بعيدا عن ذلك الجمع الحزين نحو الحديقة ، حيث انتابني وهزني شعور «كريه» بكوني أصبحت «حرا» أخيرا!!! «من يستطيع أن يمسك بي الآن؟»، «يمكنني أن أهرب»، و«يمكنني فعل أي شيء سيئ»، ولا يوجد أب يجلدني (كان يؤمن بالضرب بحسب فهم حرفي للإنجيل). ولن يكون الآن هناك أي أب ليقيمني ويحاكمني. ولم يكن يهمني تقييم أو محاكمة أي شخص آخر في العالم مهما كان قويا ومؤثرا. من الذي ينبغي أن يقيمني ويحكم علي الآن؟ «أمي»؟؟! بالتأكيد ، لكنها كانت باستمرار أكثر سخرية واعتدالا وليونة ، بحيث حتي لو قالت حكما سلبيا، فإنه لا يهمني ولا يؤثر في مطلقا. لأني اعتدت منها علي السخرية والليونة.
عدت الي المنزل لحضور العزاء، لكن كان بداخلي ذلك «السر القذر والحقير» الذي كان يجعلني أشعر، بعد وتحت جميع مشاعر الرعب والهول لموت أبي، أنني «مسرور». لكن ذلك الشعور لم يستمر لأن مشاعر الخوف وأسئلة المستقبل الصعبة هاجمتني جميعها فورا وقفزت إلي مقدمة تفكيري مثل: «كيف سنعيش الآن؟»، و«هل سنكون فقراء؟»، و«هل سيكون لدينا ما يكفي من الطعام؟»، والأهم: «من سيدير ورشة أبينا لصنع الصنادل الخشبية (قباقب، جمع قبقاب) التي حتي لو استمرت في العمل، لم تكن ستجعلنا في أفضل الأحوال نأكل اللحم سوي مرة واحدة فقط في الأسبوع، ونأكل بقية الأسبوع: مرقة الخضار، والخبز، والبيض؟!!
كنت مع أخي مشهورين بأننا مقاتلون جيدون ضمن أطفال الحارة في مدينتنا. كنا نخوض تقريبا يوميا معارك ملاكمة بالأيدي، ومباريات مصارعة نطرح فيها خصومنا أرضا، وهلم جرا، وكنا نمارس تلك المشاغبات غالبا كرياضة واختبار للقوة والمهارة، وأحيانا لدواعي الغرور وتحقيق بعض العدالة في الحارة (كنت إذا رأيت فتي يعذب قطة، أهجم عليه). وبعد وقت قصير من وفاة والدي، خضت معركة اعتقدت أنه كان يجب أن أفوز بها، لكن فجأة عندما تذكرت وفاة أبي، أصبحت بطيئا وشعرت بالرعب من احتمال خسارتها!! وهكذا وجدت نفسي تحت ذلك الصبي الذي كان يضرب رأسي بقوة علي دكة جلوس من الأسمنت في ملعب لكرة اليد. وخسرت معركة أخري للملاكمة بعد ذلك بقليل. قد لا يكون «ضعف الثقة بالنفس» هذا مرتبطا بالضرورة مع وفاة الأب، ولكنه في نظري يبدو شائعا ومشتركا الي حد كبير بين من فقدوا آباءهم.
مر أخي بالأزمة نفسها. ترك القتال في الحارة وبدأ هواية العزف علي الجيتار. ثم أخفي نفسه في البدروم ليعزف عدة ساعات دون إزعاجنا، ثم صار يريد أن يمتهن عزف الجيتار ليصبح موسيقيا محترفا، ولكنه لم يجد تشجيعا كافيا لذلك. ولكنه، رغم ذلك، أجاد العزف وبرع فيه حتي دعي للعزف في واحدة من أفضل فرق موسيقي الروك في يوغسلافيا، ولكنه اعترف لي بأنه لم يحضر في أول حفلة لأنه تذكر بحزن وفاة والدنا مما سبب له فوبيا (رعب) من الوقوف علي خشبة المسرح. ثم ترك المدرسة الخاصة التي يدرس بها وأصبح عاملا في مصنع، ثم فكر بحكمة، وواصل نشاطاته الانطوائية المتنوعة إلي أن حصل مؤخرا علي درجة الدكتوراة من كلية برينستون لعلم اللاهوت المرموقة في أمريكا. ولكنه يقول لي دائما بأنه متأكد جدا بأن مسار حياته كان سيختلف نحو الأفضل لو عاش أبوانا لما بعد فترة مراهقتنا.
وأصبح شقيقنا الأكبر طبيبا وقد كان يبلغ السابعة والعشرين عند وفاة والدنا ، ليكون بهذا «عمليا» بدرجة أكثر من شقيقيه الآخرين.
بطبيعة الحال، نظريتي هذه «ذاتية» بل ربما «وهمية» و«غامضة» ، ولن أتفاجأ لو أثبتت دراسة سوسيولوجية أن منطقي خطأ. وعلي أية حال، قبل وفاة والدي، لم يكن لدي طابع عملي في حياتي. لم أكن مطلقا واحدا من هؤلاء الأشخاص الذين يعرفون تماما في سن السابعة ما يريدون أن يفعلوا في بقية حيواتهم ويهمون بفعل ذلك بدقة، مثل (المخترع النمساوي/الأمريكي المهندس نيكولا) تسلا ، الذي كان لديه تصور واضح في بداية شبابه بأنه سيصنع توربينا ضخما في شلالات نياجرا، وفعل ذلك تماما بعد ثلاثين عاما (ليصبح رائد توليد الطاقة الكهربائية لأغراض تجارية في العالم).
عندما أقوم بزيارة أصدقاء لديهم آباء، أشعر عادة بدهشة. وأحيانا أتساءل: لماذا يعشقون الحديث مع رجل عجوز كبير في السن؟ وتقريبا لم يلفت نظري أي أب لأحد أصدقائي لكونه مصدر حكمة أو استقرار. ربما يعود هذا لكوني لا أصادق أشخاصا لديهم آباء مؤثرون، ولكن الأكثر احتمالا هو ندرة الآباء المؤثرين. من الصعب والعسير أن تكون أبا مؤثرا ومثاليا. أنا متيقن من هذا الأمر تماما لأني أب. في الواقع، ابني الآن بمثل عمري عندما فقدت والدي. ولذلك، في بعض الأحيان، أطلب منه لا مازحا أن «يكون لطيفا معي لأنه لا أحد يعرف متي يختفي الأب» ، ولأنه من المؤكد والثابت علميا أن «الآباء لا يستمرون طويلا».
اسمه هو اسمي
اسمه هو في الأساس نفس اسمي، مع ملاحظة أن اسمي هو «جوزيب»، وهو المرادف الكرواتي لجوزيف بالإنجليزية (أو يوسف بالعربية). اسم والدي كان جوزيب بالمثل. وأنا أعلم انه في كثير من التقاليد والثقافات أنه من علامات سوء الحظ تسمية ابنك باسم والدك، ولكن لا أعتقد أنه كان لدي خيارات عديدة. فهناك تقاليد قليلة جدا في عائلتي، ووجدت من الأسهل كسر واحدة منها بدل تأسيس تقليد جديد. والد والدي كان اسمه جوزيب، واسم والده كان جوزيب (وقد قتل لسقوط شجرة عليه عندما كان عمر جدي ثلاث سنوات فقط!!!)
يبدو أن والدي لم يؤيد استمرار ذلك التقليد العائلي بتسمية الابن الأكبر جوزيب، ولذلك سمي شقيقي الأكبر فلاديمير. وسمي الثاني إيفان، وبعد ذلك عندما ولدت أنا تساءل: ماذا سيسميني بحق الجحيم؟ للأسف، أمي لم تكن مهتمة مطلقا بتسميتي لأنني - كما أكدت لي - سببت لها آلاما شديدة أثناء الولادة حتي كادت تموت تقريبا من الألم، كان ذلك قبل ابتكار العملية القيصرية. لذلك قال أخي فلاديمير لوالدي مذكرا : «لقد نسيتَ شيئا ما يا أبي» (أي تسمية الوليد). ثم تذكر والدي وقال: «أوووه، طبعا، طبعا».
وهكذا، شكرا لهذا التقليد العائلي المجنون، ولمعرفة ما سيكتب علي لوحة قبري ، أذهب إلي المقبرة لرؤية الصرح الرخامي فوق قبر والدي والمنقوش عليه أيضا «جوزيب نوفاكوفيتش» بحروف فضية واضحة.
عندما يكون لديك أب ، يمكنك أن تتعلم كيف تصبح أبا. في البداية، كنت صديقا ممتازا مع ابني جوزيف، ولكن في الآونة الأخيرة أصبحت لدينا مشاكلنا الكبيرة!!! فهو - مثلا- لا يتحمل فوزي عليه في لعبة «البينج بونج» أو «الشطرنج». ولذلك، أقول له غاضبا: «هل تريد أن أخسر أمامك لكي تفرح؟! لقد لعبت هذه اللعبة لمدة ثلاثين سنة قبلك ولمدة ثلاثين يوما معك، ومع هذا تريد أن تهزمني»!!! عندما كان في السادسة، علمته كيف يلعب كرة القدم، وكان يبكي إذا سجلت أهدافا أكثر منه!! ولذلك، كنت أتهاون وأتظاهر بالضعف ليسجل أهدافا أكثر مني ليفرح ونواصل اللعب. ولكنني لم أستوعب تماما دوري وصورتي «كأب» لديه إلا عندما ذهبنا ذات يوم إلي تدريب فريق كرة القدم لصفه في مدرسته. وفعلت نفس الشيء مع الأولاد في المدرسة عندما لعبت مازحا دور حارس مرمي. وعندما تعمدت مرارا ترك الكرة تدخل مرماي وتلامس الشبكة كهدف، بكي ابني جوزيب، فقلت له : «قل لي بربك: ما خطئي الآن؟» ثم باح لي وهو يبكي بأنه يعتقد أنني «أفضل» لاعب كرة قدم في العالم أو كما وصفني بجدية وهو يبكي: «اللاعب الذي لا يقهر»، ودخول هدف من طفل في صفه هزه بالفعل ومحا صورة «الأب/اللاعب» الذي لا يقهر. لكن وبطبيعة الحال، تمكنه هو من التسجيل في مرماي يجعله أفضل لاعب، بينما تركي الأطفال الآخرين يسجلون يخفض قيمته ويهز سمعته شخصيا لأنه ابن «الأب/اللاعب» الذي لا يقهر.
ضرورة وجود الآباء
ما ضرورة وجود الآباء؟! معظم المخلوقات الثديية لا تشمل آباء. في الجوهر، وعلي المستوي البيولوجي، الآباء ليسوا ضرورة، الأمهات هن بالفعل ضروريات. وربما كانت مسألة تطور Evolution التي أعطت البشر أفضلية ليكون هناك آباء ليساعدوا في تأمين المعيشة والحماية. لكن حتي مع هذا، في المراحل المبكرة من الحضارة ، الآباء عادة لا يقيمون كثيرا في البيت. لقد كانوا دائما في الخارج للصيد، وشن الحرب، والمشاركة في أنشطة خطرة تؤدي في كثير من الأحيان إلي وفاتهم. وفي حالة وفاتهم، يمكن لرجال آخرين القيام بوظائفهم الوقائية في القبيلة. وبموجب قوانين الزواج «العبرية» القديمة، إذا مات الرجل، يقوم شقيقه بدور زوج الأرملة. لذلك، فإن دور الأب يمكن الاستغناء عنه. وعلي أية حال، الأب الذي يبقي دائما في المنزل، ربما كان «يعرقل» علي نحو ما تطور ونمو أطفاله. فمع وجوده دائما في المنزل، ربما لا يتم دفع الأطفال الذكور إلي العمل والاستقلالية تماما بوتيرة أسرع بدون وجوده.
وعلي الرغم من شعور «عدم اليقين» (الغموض) الذي سببه لي فقدان والدي، اكتشفت أنني أصبحت بعد وفاته: «أكثر استقلالا» ، و«أكثر حرية» ، بل والعجيب أنني تمكنت من استثمار «غيابه» لمصلحتي. فعندما كنت علي وشك أن أطرد من الكنيسة المعمدانية في حينا لعدة أسباب (طول الشعر، وتدخين السجائر ، والسرقة، والتخلف عن الذهاب للكنيسة يوم الأحد، والتهاون في أداء صلاة الشكر قبل تناول الطعام)، جاءني القس، وقال إنه نظرا لفقداني والدي، فإن شيوخ الكنيسة قرروا العفو عني ومنحي فرصة أخري لكي أتوب. وأعتقد أنه لو كان لدي أب، لكان تصرف كواحد منهم. وبالطبع، شكرت القس علي هذا العرض السخي. (وعندما أتأمل ذلك العرض بأثر رجعي الآن، أجده يبدو مثل وعد «دبليو بوش» لبوتين بنشر وتعزيز الديمقراطية في روسيا!!)
في المدرسة، كنت أتغيب عن الحصص. ولبعض الوقت، كنت أمشي في طريق المدرسة، وأدور حولها، وأدخل الغابة حيث أقضي معظم اليوم في تسلق الشجر والقراءة. تغيبي عن الحصص كان يعفي عنه دائما لأني عديم الأب. وأصبح البيت أكثر هدوءا الآن. ويمكنني أن أكون كسولا في حياتي. ولم يكن واجبا علي إتقان العزف علي الالآت الموسيقية كما يطلب منا مدرس الموسيقي. ولكن أخي الذي رفض العزف عندما كان والدنا حيا، بدا الآن يتمرن بجنون ليتقن العزف كما لو كان يريد أن يستدعي ويبتهل بطريقته الخاصة ليعود إلينا والدنا.
أتذكر العديد من المزايا لوجود الأب. فقد كان يغني في بعض الأحيان في المساء بل وشاهدته يعزف بنفسه سرا علي الجيتار. وكان أيضا يعزف علي الكمان والدف والطبلة وغيرها من الآلات. ولكن الأهم: أنه كان يقص علينا حكايات - ليس مرات كثيرة، ولكن علي الأقل نصف دستة كما أذكر كانت كفيلة لترك بصمة علي. كان يرتجل الحكايات بكثرة. وبعد كل رحلة عمل من رحلاته تحولت حكاياته إلي مثل «وجبة شاي» Teatime خفيفة عندما يحكي أحداثها الشيقة، وبينما كنا دائما منسجمين مع الحكاية ونمضغ الخبز والعسل والزبدة، كان يشرح لنا كيف نجا، بمساعدة سماوية، من مخاطر عديدة في رحلاته. لقد نشأتُ وأصبحتُ مهتما بالروايات ربما لأن أبي كان حكواتيا مذهلا. لقد كان يحفظ مقاطع طويلة من الإنجيل عن ظهر قلب، وبعد وفاته - بدوري - واصلت قراءة الإنجيل وكذلك قراءة روايات (الفرنسي) ألكسندر دوما ، (والألماني) كارل ماي ، و(الملاحم الشعرية اليونانية:) الإلياذة والأوديسة. ربما جعلني عالمَ الخيال والأسطورة أقرب لوالدي الغائب. ربما كانت كتاباتي لها علاقة ما مع غيابه وبقايا صوته وهو يحكي عن رحلاته، وأهمها رحلته للعالم الآخر، عندما لم يشفع له إيمانه بالله لينجو من مخاطر توقف قلبه.
حافز للكتابة
وفاة والدي أعطتني حافزا للكتابة. وبعد قراءة رواية تولستوي العبقرية والمذهلة «موت ايفان ايليتش» التي تصف بدقة مذهلة مراحل ومفارقات وفاة قاض، اعتقدت أنني يمكن أيضا أن أصف وفاة والدي، وهكذا خربشت مائتي صفحة من الرسومات التي تحتوي علي الفناء الخلفي لمنزلنا وشوارع مدينتنا أي مسقط رأسي، ولكن مع هذا لم أستطع الكتابة عن وفاته، وبدلا من ذلك بدأت في كتابة قصة كوميدية ساخرة عن الموت. وفي وقت لاحق، كتبت قصائد قليلة عنه وعن موته وأحلامي عنه بكونه لا يزال علي قيد الحياة ويموت للمرة الثانية والثالثة. كتبت بضعة مقالات عن وفاته ، وقصة من نوع السيرة الذاتية كانت أول ما نشر لي جديا ومهنيا في مجلة «بلاوفشير» (الأمريكية الأدبية المرموقة).
واحتوت روايتي «يوم كذبة إبريل» علي فقرة طويلة تصف حالة وفاة غريبة، والتي من المؤكد أنها انبثقت من وفاة والدي. بصراحة، أنا لست واثقا بأنني كنت سأصبح كاتبا لو لم يمت والدي قبل سنوات مراهقتي. ولذلك، الكتابة هي «إرثي التاريخي»، وحتي هذا المقال هو كذلك. أو علي الأقل هكذا أتصور وأتخيل، ربما متمنيا إعطاء والدي دورا في حياتي، لأن حتي غيابه كان له شكل من أشكال الوجود، رغم كونه وجودا «شبحيا»!!
مونتريالكندا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.