انتهي شهر رمضان المبارك, وكل عام وأنتم بخير وكثيرا ما يصاحب هذا الشهر الكريم عادات وتقاليد خاصة, فهناك السهرات الرمضانية, كما جاءت مسلسلات هذا الشهر المبارك لكي تصبح أحد طقوس شهر رمضان الجديدة التي لايمكن تجاهلها. فأنت تفتح المحطات الأرضية والفضائية والتي ربما جاوزت المائة محطة فتجد مسلسلات من كل صوب وحدب, فهذا مصري وذاك سوري وثالث تركي, ورابع خليجي, وخامس وسادس, ولامفر. وتريد أن تقوم ببعض الزيارات للأصدقاء, فتنصح بعدم الحضور قبل الساعة الفلانية, لأن ربة المنزل تشاهد إحدي الحلقات في ساعة محددة, ولذلك فالأفضل أن يكون حضورك بعد هذا الموعد المقدس ومن أشهر صفات الشهر, الي جانب الروحانيات, ما يعرف بتخاريف الصيام ولكن تخاريف رمضان والصيام لاتذهب معه بل تظل عالقة في الذهن حتي بعد انتهاء هذا الشهر الفضيل لفترة قد تطول أو تقتصر. وهذا المقال هو أحد توابع هذه التخاريف. كنت أقرأ خلال هذا الشهر كتابا للعالم الفيزيائي البريطاني ستيفن هاوكينجHawking عن الكون في عبارة موجزةTheUniverseinaNutshell وقد أصدر نفس المؤلف منذ أيام كتابا جديدا لم يصلني بعد وقد أشار في الكتاب الذي أقرأه الي بعض تأملاته عن مستقبل الإنسان. فهو يري أن الذي يفرق الإنسان عن غيره من الكائنات الحية هو كبر حجم المخ لديه مقارنة بحجم جسمه الكلي. فنسبة حجم المخ بالمقارنة الي جسمه في الإنسان هي أكبر نسبة بين كل الكائنات. وقد استمر هذا الحجم في النمو حتي وصل الي المعدل الحالي. ومخ الإنسان هو الذي يميزه عن غيره من الكائنات ويكفي أن نتذكر أن متوسط وزن المخ لايجاوز2% من الوزن العادي للإنسان, ولكن هذا المخ يستهلك نحو20% من حجم الطاقة التي يحتاجها الإنسان لكي يعيش. فكل خلية من خلايا المخ تستهلك في المتوسط عشرة أضعاف ماتستهلكه خلايا الجسم الأخري من الطاقة. ومن هنا أهمية المخ في حياة الإنسان. ويشير علماء التاريخ البشري الي أن الإنسان منذ أن وقف علي قدمين قد مر بمراحل متعددة بدءا من الإنسان المنتصب حتي وصل الإنسان الحالي( المفكر), وفي كل مرحلة كان حجم المخ يزداد حتي وصل الي المستوي الحالي. والسؤال: هل يمكن أن يستمر نمو مخ الإنسان في الزيادة بعد ذلك؟ يبدو أن هناك مشكلة بيولوجية, وهي أن حجم المخ يتوقف الي حد بعيد علي حجم الجمجمة, وهذا الحجم يتحدد بدوره الي حد بعيد بحجم الجمجمة عند الولادة, ومن الصعب أن يزيد هذا الحجم كثيرا عن الحجم الحالي نظرا لأن الولادة محكومة بحجم حوض المرأة عند الولادة. وهي حاليا عند حدود الحد الأقصي. ومع ذلك يثير هاوكينج الانتباه الي ازدياد أعداد الولادات عن طريق عمليات القيصرية. فهل يأتي زمن تغلب فيه الولادات القيصرية علي الولادات الطبيعية؟ بل ربما يمكن أن يعيش الجنين في حاضنات صناعية لمدة أطول في ولادات المستقبل, وبحيث يصبح إنسان المستقبل أكبر مخا, وبالتالي أكثر ذكاء وقدرة! وهكذا, فإن شكل الإنسان وقدراته قد تتغير بشكل كبير في المستقبل, كما أن تكوينه النفسي قد يصبح مختلفا إذا قصرت فترة الحمل لدي الأم, وأمضي الجنين فترة طويلة في حضانات صناعية! ولاشك أن هذا من شأنه أن يغير صفات المولود وربما أيضا من سيكولوجية الأم أيضا. ولكن بصرف النظر عما يمكن أن يخبئه القدر لشكل الإنسان وولادته في المستقبل, فإن هناك حقيقة أخري ديموغرافية بدأت تظهر معالمها الآن, وهي أن عمر الإنسان المعاصر يتجه الي الزيادة بشكل مستمر. فمعدلات العمر في تزايد مستمر في كل الدول, ومتوسط الحياة في الدول المتقدمة يكاد يجاوز الثمانينيات, وكثير من الأفراد يصل الي التسعينيات. وكان متوسط الحياة في المجتمعات البدائية لايكاد يتجاوز العقد الثالث. وفي انجلترا وحتي منتصف القرن التاسع عشر كانت الصدمة الأولي في حياة الابناء تصيبهم وهم في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمرهم عندما يموت رب الأسرة وهو في الأربعينيات من عمره. وهناك اعتقاد شائع في العديد من الأوساط العلمية أن مواليد القرن الحادي والعشرين قد يمتد بهم العمر الي مابعد المائة, ربما مائة وعشرون أو حتي مائة وأربعون سنة. وهو تغيير لابد وأن يستنبع تغيرات اجتماعية ونفسية هائلة في مجتمعات المستقبل. وفي المقابل فإن تأهيل الفرد لكي يدخل الحياة العلمية بدأ يتأخر بشكل كبير. ففي القرن التاسع عشر, وربما حتي بداية القرن العشرين كان الفرد يصل الي مرحلة الحياة العملية وهو في سن الخامسة عشرة أو الثامنة عشرة حيث يبدأ العمل وربما يتزوج في هذه السن. أما الآن فإن مراحل التعليم تصل بالفرد العادي الي مابعد العشرين, وإذا أراد أن يزداد تخصصا بمواصلة الدراسات العليا أو البحث العلمي, فإنه لن يبدأ حياته المهنية قبل الثلاثين من عمره, وهكذا قد أصبح سن الزواج متأخرا لدي كل من الرجال والإناث. فالاتجاه الغالب بين الشباب هو عدم الزواج قبل الثلاثين وربما بعد ذلك. والإناث, اللاتي كن يشعرن بالعنوسة وفوات قطار الزواج إذا تخطت الفتاة العشرين من عمرها قبل أن تجد عريسا, فإن زواجها الآن في نهاية العشرينيات وحتي منتصف الثلاثينيات أصبح أمرا عاديا. ولم يكن غريبا في ظل هذا التطور الأخير مع استمرار العادات القديمة أن يصبح موضوع عاوزة أتزوج مشكلة تخصص لها الروايات الأدبية والمسلسلات التليفزيونية. وفي مواجهة هذا التطور البيولوجي من حيث تقدم الصحة العامة وزيادة العمر من ناحية, وتغير احتياجات الحياة العملية وما تحتاجه من فترة طويلة للتعلم والتدريب واكتساب الخبرات المهنية من ناحية أخري, فلا تزال نظمنا القانونية والإدارية تستند الي أوضاع قديمة بسبيلها الي الزوال, فمازال سن التقاعد هو سن الستين في كثير من الدول, ومنها مصر. فماذا يعني ذلك؟ أنه يعني أن يحال الموظف الي التقاعد لكي يستمر في وضع التقاعد لثلاثة عقود وربما أكثر. وهي ليست فقط مشكلة نفسية لعدد متزايد من الأفراد بالشعور بالتهميش لفترة طويلة, وإنما لها آثار اقتصادية ومالية علي ميزانيات الحكومات وعلي الأداء الاقتصادي بشكل عام. لقد تزايد عدد الشيوخ الذين جاوزوا الستين, وهو يكاد يصل في بعض الدول المتقدمة الي حوالي ربع السكان( اليابان مثلا والولايات المتحدة في الطريق). ومعني ذلك أن واحدا من كل أربعة أفراد أصبح خارج قوة العمل وعبئا علي هيئات المعاش والتأمين. ولذلك لم يكن غريبا أن أصبح موضوع أعباء نظم التأمين والمعاشات هو المشكلة الكبري التي تهدد توازن مالية حكومات معظم الدول. وقد سبق أن ناقشت بعضا من مظاهر هذه الأوضاع في مقال سابق نشر في هذه الجريدة بعنوان العمر الثالث( يونيو2006), وقد أشرت فيه الي ظاهرة أخري متعلقة بأنماط الاستهلاك. فهؤلاء الشيوخ الذين يدخلون سن التقاعد في الستين وهم في ظروف صحية جيدة قد يفقدون آباءهم في حدود هذه السن أو قبلها بقليل, وبالتالي تنتقل اليهم التركة في هذا الوقت المتأخر من حياتهم, وبذلك يصبحون قوة استهلاكية متزايدة مهمة في هذه السن. ولذلك فإن قطاع الشيوخ قد أصبح أحد اللاعبين الأساسيين في الأسواق وحيث تتركز الثروة في أيديهم, وبالتالي فمن الطبيعي أن يتغير نمط الإنتاج لكي يواجه هذا الطلب الجديد. فماذا يريد هؤلاء الشيوخ؟ هناك طلب متزايد علي الخدمات الصحية وأماكن الترويح وربما المصايف والمشاتي. لقد كان النمط الإنتاجي وحتي القرن التاسع عشر يلبي عادة مطالب واحتياجات الرجال والنساء في مرحلة النضج في سن الثلاثينيات وحتي الخمسينيات. وجاء منتصف القرن العشرين ودخل أسواق الاستهلاك قطاع جديد من الأطفال والشباب مع ارتفاع مستويات دخول عائلاتهم. فأهم المشتريات للأسرة في النصف الثاني من القرن العشرين كانت مخصصة للأطفال والشباب, سواء من ألعاب متعددة للأطفال أو أزياء متجددة للشباب. كذلك أصبحت برامج الإذاعة والتليفزيون موجهة أساسا لهؤلاء الصغار نظرا لغياب الآباء والأمهات في العمل والبعد عن المنزل أغلب الوقت. وبذلك أصبح الإنفاق علي استهلاك أطفالهم وأبنائهم هو البديل عن بقائهم معهم في المنزل ولتعويضهم عن غياب الآباء والأمهات. وهكذا بدأت ميزانية الإنفاق علي احتياجات الأطفال والشباب تقتطع الجزء الأكبر من ميزانية الأسرة. والآن, فماذا بعد أن يزيد عدد الشيوخ وتتركز في أيديهم عناصر الثروة؟ لابد وأن يتغير نمط الاستهلاك بأن يتوجه الإنتاج لاستهلاك هذه الطائفة الجديدة والتي تتمتع بموارد مالية معقولة. فهل سيتغير شكل سكان العالم في المستقبل؟ حيث يولد الأطفال خارج رحم الأم, وبأحجام رؤوس كبيرة وربما ذكاء أكبر, وإن لم يكن ذلك مصاحبا, بالضرورة, بحكمة أكبر, وفي نفس الوقت يتزايد فيه عدد الشيوخ أو كبار السن. هذا عالم جديد: أطفال وشيوخ كثيرون لايعملون ولكنهم يستهلكون, وعلي العكس شباب قليل يعمل ويجتهد لحمل عبء الاثنين. وكل عام وأنتم بخير. والله أعلم المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي