رغم أن نظرية النظر لنصف الكوب الملآن بدلاً من النصف الفارغ تستخدم في العادة كدعوة من أجل التفاؤل، فإنها أصبحت نظرية مشبوهة ومثيرة للأعصاب بعد أن أصبحت تستخدم بإفراط وتكاد تكون أكليشيه دائم في فم بعض رجال السياسة أو الاعلاميين الذين ينصبون علي الرأي العام بدعوتهم لعدم الالتفات إلي المشاكل، والبحث في الكوب الفارغ عن قطرات الإنجازات، ويبدو أن أغلب صناع الدراما التاريخية هذا العام قد أجمعوا علي الالتفات إلي النصف الفارغ في التاريخ ورصد جميع أنواع الهزائم والنكد الذي شاهده العرب خلال القرون السابقة.. لم يجد كتاب الدراما في التاريخ كله إلا الهزائم ليحتفوا بها في حلقات مسلسلة تطارد المتفرجين في الشهر الكريم الذي أصبح - بعد غياب المسلسل الديني - ساحة لمسلسلات جلد الذات الدرامية التاريخية، وهذا العام نري عدداً من المسلسلات التاريخية تجتمع في هذه الاختيارات الكئيبة دون أن نجد بينها مسلسلاً واحداً يتناول أي انتصار ولو علي سبيل التعبير، أو النظر إلي نصف الكوب الملآن. مسلسل (سقوط الخلافة) للكاتب «يسري الجندي» والمخرج «محمد عزيزية» يتناول فترة حساسة للغاية من التاريخ الإسلامي والعربي، وهي نهاية عصر الخلافة الإسلامية، ويستعرض المسلسل أسباب سقوط دولة الخلافة العثمانية في تركيا مستعرضاً المؤامرات الداخلية والخارجية التي أسهمت في إضعاف الدولة، ومن ثم نهايتها، وظهور اتفاقية «سايكس- بيكو» التي أعادت رسم وتقسيم خريطة الوطن العربي من جديد، ومهدت لتجزئته واحتلاله من قبل القوي العظمي العالمية لاحقاً. يلعب الفنان السوري «عباس النوري» شخصية السلطان عبدالحميد الثاني الذي يعيش كثيراً من المشاكل السياسية والشخصية في مواجهة المؤامرات والدسائس الموجهة ضده وضد عرش الخلافة، ولا شك أن مثل هذه المنطقة التاريخية رغم أهميتها وثرائها درامياً، فإنها تسلط الضوء علي حقبة حزينة من التاريخ الإسلامي والعربي علي حد سواء. منطقة أخري من مناطق النكد التاريخي اختارها صناع مسلسل (ملكة في المنفي) للكاتبة «راوية راشد» والمخرجين «محمد زهير رجب»، و«وائل فهمي عبد الحميد»، فبعد نجاح تجسيد شخصية الملك فاروق في مسلسل شهير كتبته «لميس جابر» وأخرجه «حاتم علي»، وقام ببطولته «تيم الحسن» عام 2007 لفت النظر إلي شخصية الملكة نازلي زوجة الملك فؤاد وأم الملك فاروق آخر ملوك مصر، فهي شخصية جدلية كانت عوناً لابنها الشاب المراهق في الجلوس علي عرش مصر رغم صغر سنه، فإن علاقتها برئيس الديوان الملكي «أحمد حسنين باشا» أثارت ابنها ضدها ووصلت خلافاتهما إلي الحد الذي قامت فيه نازلي بالخروج من مصر بعد أن أجبرها ابنها علي التخلي عن ألقابها الملكية، وأقامت بعدها في منفاها الاختياري بالولايات المتحدة، وهناك شهدت حياتها كثيراً من الأحداث المآساوية هي وبناتها اللائي رافقنها. أما مسلسل (شيخ العرب همام) فهو يتناول سيرة حياة الشيخ همام أشهر شيوخ قبائل الصعيد وقصة صراعه مع إبراهيم بك الكبير والي مصر ومع المماليك، ورغم أن سيرة الشيخ همام بها من البطولات الكثير، الأمر الذي جعلها من السير الشعبية الشهيرة التي تروي حتي الآن، فإنها أيضاً قصة تراجيدية نهايتها حزينة، فقد انهزم همام وجيشه من المماليك بعد خيانته من قبل بعض المقربين إليه، ولا ننتظر من المسلسل نهاية سعيدة مختلفة عن تلك الحقيقة التاريخية المعروفة، ومما سيزيد الإحساس بالحزن والاكتئاب بالنسبة للمشاهد في نهاية المسلسل هو ارتباط جمهور المشاهدين بشخصية همام التي يؤديها باقتدار «يحيي الفخراني»، وهي شخصية تجمع بين الحزم والعدل والتسامح والطيبة. ويتناول مسلسل (كليوباترا) قصة الملكة المصرية الشهيرة، وكما يعلم الجميع، فقصة كليوباترا تراجيديا تاريخية تناولها كتاب كبار مثل «ويليام شكسبير» والشاعر «أحمد شوقي» في أعمال درامية تراجيدية، وتناولتها السينما العالمية أيضاً في أعمال رصدت حياتها الصاخبة علي المستوي الشخصي والسياسي، تحدت كليوباترا الإمبراطورية الرومانية بعد أن كانت حليفة لروما وزوجة ليوليوس قيصر الذي قتل، وتولي الحكم من بعده الإمبراطور أغسطس الذي ناصب كليوباترا العداء، وركزت جميع الأعمال التي تناولت سيرتها علي نهايتها الحزينة، وهي نهاية ليست سعيدة بأي حال من الأحوال، فحسب الروايات التاريخية الأشهر انتحرت كليوباترا بلدغة ثعبان بعد هزيمة جيوشها وجيوش حبيبها مارك أنطونيو وبعد وصول أخبار كاذبة إليها عن انتحاره. يبدو أن إدمان الهزائم في الواقع المعاصر جعل من كتاب الدراما أيضاً مهتمين بالبحث والتنقيب عن الأصل التاريخي لهذه الهزائم المستمرة.