قلت لابنتي «لا يملك الإنسان إلا الشعور بالأسي عند تفرق أي جمع»، و كان ذلك تعليقاً علي انفضاض جمع لنزلاء الفندق بعد تجمعهم وقت العشاء والتفافهم للاستماع إلي فقرات الترفيه الموسيقية. جمعهم الطعام والموسيقي والمكان للحظات، عاشوا جميعا لحظة واحدة ثم افترقوا كل في طريق وكل في اتجاه كأنهم لم يروا بعضهم من قبل أبداً. يصعب دائما فرط اللمة، حتي الأطفال الذين تستغرقهم مباراة أو لعبة من الصعب اقناعهم بالاكتفاء والانصراف كل الي منزله... اتذكر ونحن اطفال كنا عندما نلتقي بأولاد خالاتنا كنا نصرخ في وجوه بعضنا البعض من فرط السعادة وكنا نلوم الأهل لالحاحهم ألا نطيل السهر وأن نخلد للنوم، كنا لا نريد لليوم أن ينتهي وكان النوم معناه النهاية والسهر معناه الامتداد.. دائما مشهد اللقاء يكون مبهجا ومميزا بينما لحظات الوداع تكون خانقة ومؤثرة. عند سفر شقيقتي الصغري بعد انتهاء الاجازة السنوية التي مرت كلمح البصر، قالت وهي تقف بجوار الباب وهو نصف مفتوح نتبادل آخر الكلمات والسلامات، قالت : كأنه لم يمر عام وكأن وقفتنا هذه تشبه وقفتنا تلك في العام الماضي قبل سفري. وتذكرت بهجة استقبالنا رمضان وفرحتنا بأول سحور وأول تراويح وأول تجمع للأهل علي مائدة الإفطار، و نقاشنا عن برامج التليفزيون، و الزحام في الشوارع، والإقبال علي المساجد، و حرص الأبناء الغائبين علي العودة الي بيت العائلة وفرحة الأطفال وتدربهم علي الصيام، لكن ما أن نبدأ في الاعتياد عليه حتي نراه يودعنا سريعا كأنه لم يأت أصلا. كلما جاء رمضان، أخاف من فرحتي به، أخاف أن تنفرط أيامه سريعا، دون أن أفيه حقه ودون أن أغتنم أيامه، و دون أن أقيم لياليه. أخاف من الزائر الذي يأتي بعد شوق وانتظار لكن زيارته نهايتها محددة من البداية، أخاف من الاستئناس والاطمئنان بصحبته، فيأتي الفراق في لحظة غفلة مني. تجد الكبار يتذكرون رمضان الذي مضي وكيفية الاحتفال به ورخص الأسعار والاستماع إلي الإذاعة، و الشباب يتذكرون رمضان وهم أطفال وألعابهم ولهوهم وتجمعهم في بيت العائلة. كما تذكرنا أغنية «أهلاً رمضان» للمطرب عبد المطلب برمضان زمان، و يجمع الجميع علي أن رمضان زمان هو الأجمل والأفضل والأبقي في الذاكرة. كيف نقبض علي اللحظة ؟ كيف نتشبث بمن نحبهم؟ وهل يجدي التعلق والتشبث في إلغاء ماهو محتوم؟.. كلما قبلتني ابنتي وقالت «ربنا يخليك لي»، اتذكر كم تمنيت أن تبقي لي أمي، و كم دعوت ربنا «أن يخليها لي»، و لكن كما قال جبريل عليه السلام لسيدنا محمد، صلي الله عليه وسلم، « عش ماشئت فإنك ميت واحبب ماشئت فإنك مفارق...». هل الأصل في الحياة التلاقي أم الفراق؟ هل رحلتنا في الحياة هي تدريب مكثف علي عدم التعلق بالأشخاص والأشياء والمواسم والأيام الجميلة؟ وإذا كانت سنة الحياة هي الافتراق، لماذا تبقي الذكريات ولا تنمحي وتودعنا هي أيضا؟ ولماذا تصبح الأيام التي مرت أكثر جمالاً وأكثر جاذبية وذكرياتنا عنها مشحونة بالشجن والتحسر علي فقدانها. هل صحيح أن كل ما مر ومضي هو الأفضل وهو الأكثر بهجة ؟ اعتقد أن الحياة بكاملها من ايام وليالي وبشر داخل عقولنا، وأننا نتحايل علي الفراق والبعد والمسافات بأن نحتفظ بكل من نحب وما نحب في صندوق الذاكرة ونغلق عليه ونحكم الإغلاق، ونضيف إليه كلما أمكن. وكما يحب كل شخص أن يطلع علي ثروته المدخرة من فترة لأخري، تجد في أية مناسبة كقدوم شهر رمضان في موعده كل عام فرصة لكل منا لأن يفتح خزانته ويخرج منها ذكرياته ويسردها علي من حوله حتي لايأكلها النسيان، ثم يعود مرة أخري ليغلق ذاكرته علي من التقي وفارق وما عاشه وانقضي.