»سألني صديقي: ماذا أصاب الرجل حتي انقلب، وكأنه خلق من جديد؟« الاثنين: كان فظا غليظ القلب، ولكنه بقدرة قادر أصبح في هذه الأيام لينا مهذبا رقيقا، كان بخيلا شحيحا، لا ينفق الا بحساب، فإذا به في هذه الايام تصيبه موجة من الكرم والسخاء، ينفق من غير حساب، يسأله الناس فيجيب، بل يكاد يعطي من غير سؤال: كان يسلم علي الناس بأطراف أصابعه، ينصرف عنهم اذا أقبلوا عليه، ويقبل عليهم اذا انصرفوا، فإذا به في هذه الايام يقبل اذا أقبلوا، بل يقبل حتي وان لم يجد أحدا!! كان بيته مقفلا، لا يعرف احد من الناس أين بابه، كان طعامه كأنه الدواء، لا يعطي إلا بمقدار، وكلامه كأنه الذهب، لا يرسل الا بعيار، وتحيته كأنها البركة، لا تعطي الا لمن وهبه الله الحظ الحسن، فإذا به في هذه الأيام يفتح بابه علي مصراعيه، ويملأ خوانه بالطعام، ومائدته بألوان الحلوي واشهي المأكولات، واذا كلامه ما أكثره، وتحيته ما أعذبها وأرقها! كان الرجل جاهلا، معترفا بجهله، ولا يدعي العلم ولا المعرفة، ولا يعنيه أن يدعيهما، فإن الله الذي أعطاه الجهل، أعطاه الغني، ولكنه في هذه الأيام أصبح يدعي العلم، وبقدرة قادر تبين أنه حصل من الشهادات علي أعلاها، ومن المعرفة علي اسماها. ويسألني صديقي: ماذا أصاب الرجل حتي انقلب، وكأنه خلق من جديد؟ قلت: هل نسيت أن الانتخابات يقترب موعدها، وأنه أعلن عن ترشيح نفسه!! العرفان بالجميل.. سمة النبل الثلاثاء: قال، وهو يشكو ويأسف ويكاد الدمع يطفر من عينيه: أرأيت إلي فلان هذا، لقد كفلته، وقدمته ومهدت له سبل النجاح، حتي بلغ ما بلغ من مركز كبير، إنه فعلا يستحق الخير، وهو كفء لاشك في كفايته، أمين لا شك في أمانته، كل ما فعلته أنني اكتشفت فيه الموهبة والأمانة والكفاية، فافسحت له الطريق، وأرحته بعد عناء كثير. قلت له: اذن أنت راض عنه، فماذا جعلك تسخط عليه؟ قال: لأنه أهملني وأنا رجل كبرت ووهن عظمي، زرته لا لأرجوه، أو ألتمس معونته، ولكنني زرته لأفرح بغرس يدي، ألا يسرك أن تري البذرة التي وضعتها في الأرض تزكو وترتفع، فلم يحسن لقائي، ظن وبعض الظن إثم، أنني ألجأ اليه، فأشاح بوجهه عني، فلما عرف لماذا جئت إعتذر عن سوء استقبالي، وابتسم وتهلل، ولكنني حزنت وأسفت، قلت له: شكرا يا بني، إن الاستاذ القديم يسعده أن يري تلميذه، ويسعده اكثر أن يذكر التلميذ أستاذه بالخير، وأنت تصرفت لأنك حسبت أنني في حاجة إليك، ولم أكن في حاجة إلا أن أراك. اسمع يا بني، لقد كبرت تماما خبرة وعملا، ولكنك لازلت في حاجة إلي نصيحة مني، إن ما يرفع مقامك اكثر وأكثر أن تكون عارفا بالجميل، إن العرفان سمة النبل، وأصالة الخلق.. وتركته وانصرفت، ولكن الحزن والأسي لما حدث ظل مقيما معي حتي الآن! الرياضة.. ليست صراعا! الاربعاء: اصبح التعصب للعبة الكرة أشبه بالمرض منه بالحب الصحيح للرياضة، فالرياضة تعلم التسامح والتعاون، والنظر الي الغالب والمغلوب نظرة فيها العطف علي المغلوب، وليس التشفي، والتشجيع للغالب وليس التفاخر والتعالي، وكأن الغالب سيظل أبدا غالبا، والمغلوب سيظل أبدا مغلوبا، وليس هذا أو ذاك من طبيعة الحياة، وليس هذا أو ذاك من طبيعة الرياضة التي هي صورة من الحياة السوية الرياضية، التي لا حقد فيها، والحقد يفسد الرياضة، وينقلها من مجالها الرحب الفسيح الي مجال من الكراهية والانتقام والتحدي. وأنت حينما تقول عن إنسان إنه ذو خلق رياضي، تعني أنه يقبل الهزيمة بصدر رحب ودون ضيق، ويستعد لاستئناف المحاولة من جديد، ويتقبل النصر دون زهو أو غرور، وأن كليهما الهزيمة والانتصار لايحركه عن الخلق الحميد، بل يجعله اكثر تمسكا به، ايمانا منه أن الحياة سباق شريف، وانها في النهاية بشطريها من الانتصار والهزيمة، تتحول الي مستوي أفضل، يرتفع فيه الانسان عن رذائل الزهو والغرور والتحدي والكراهية، الي فضيلة الحب والتعاون والأخوة. ان الرياضة يفترض فيها نشر التسامح والحب والتعاطف، ولكننا للأسف نجدها تنقلب الي التعصب الذي يبلغ حد الحقد والتجني، والي التشنيع الذي يبلغ حد التوتر، فيؤثر علي الأعصاب المشدودة، فيموت ناس وينتحر آخرون! ان الرياضة قصد بها تجميل الحياة، وجعلها أكثر رحابه وأمنا، فإذا بها تجعلها صراعا بكل ما في الصراع من قسوة وكراهية وحقد. الترف.. بداية التدهور! الخميس: عرفت من الرجال من يتأنق كالسيدات، وعرفت منهم من يشغله البحث عن رباط عنق معين أو حذاء يناسب البدلة ورباط العنق أو قميص شفاف هفهاف، أضعاف ما يشغله البحث عن شيء جديد في عمله بل ما يشغله عن عمله كله، عرفت من يشغله أن يكون في الظاهر أنيقا مترفا، وهو في الداخل عقل فارغ، وقلب أجوف، وصدر خاو يرن كالطبل، ولا بأس بالأناقة والنظافة والجمال في المظهر، بل هي مطلب أساسي لكل انسان مهذب متمدن، ولكن البأس كل البأس أن تكون الشغل الشاغل للإنسان، وأن تصبح في ذاتها غاية، وليست وسيلة للعيش المريح الذي يساعد بدوره علي الانتاج الكثير الوفير. ان الترف والمبالغة في التأنق علامة علي بداية التدهور، وهما دليل علي أن الانسان يكرس كل وقته، أو الجزء الأكبر منه من أجل نفسه، فلا يبقي شيء ولا يبقي أقل القليل لخدمة مواطنيه ووطنه، ومن هنا كان المواطن الذي يبالغ في الترف والتأنق ويصبح كما قال الشاعر »لمس الحرير يدمي بنانه!«، مثلا شيئا لا يؤذي نفسه فحسب، ولكنه يؤذي أمته أيضا. قد تدهور أفراد، وتدهورت جماعات وتدهورت أمم بسبب المبالغة في الترف والكف عن المشقة والجهد والتعصب، والترفه مجلبة للكسل والخمول والانسياق وراء الملاذ وفقدان المثل والقيم، وليراجع من يشاء التاريخ، تاريخ الافراد والأسرات والأمم، فسيري أن الانحطاط والارتفاع كانا نتيجة الاندفاع في الشهوات والملاذ، والأخذ منها بما لا يوازن بين حاجة البدن وحاجة العقل! ذكري سيد درويش الجمعة: ونحن نحتفل بذكري رحيل المرحوم سيد درويش الفنان الذي امتزج بالشعب، وأحسن التعبير بموسيقاه وألحانه، عن متاعبه وتطلعاته منذ ما يقرب من قرن، أعني في وقت كان يتسابق فيه المطربون والموسيقيون والفنانون عامة الي تسلية الطبقة الحاكمة اكثر مما هو للتعبير عن آلام الشعب وآماله، وقد ذاعت موسيقي سيد درويش وألحانه بين الطبقات الشعبية لأنها وافقت هواها، وأحسست فيها نبض حياتها. وقد اختلف الكتاب في الرأي عن فن سيد درويش، بعضهم يذكر ان ما يكتب أحيانا عن سيد درويش فيه بعض المبالغة، ويكادون يقررون انه لم تكن هناك موسيقي ولا غناء شعبي قبل سيد درويش، والبعض يقول ان هذا مخالف للحقيقة، وهناك من يقرر أنه لم يأت بعد سيد درويش من بلغ مكانته. ولست أزعم لنفسي أنني أصلح قاضيا للحكم علي موسيقي سيد درويش، ولكنني أزعم لنفسي القدرة علي القول بأن هذه الآراء يمكن تأييد بعضها، ورفض البعض الآخر، ولكني أقول ان احكامنا في كثير من الأحيان تتسم بالمبالغة العاطفية الشديدة. ان بلادنا لم تبدأ من فراغ، وتاريخنا مليء بالكفاح والمفاخر وشعبنا لم تخمد جذوته يوما.. سواء في مجال الفن أو في المجالات الأخري.