صباح السبت، يوم الإجازة يذكرني بأيام الجمع في مصر، الشوارع خالية، البيوت ناعمة تشي بحالات قاطنيها، نيام حتي الآن أو خرجوا إلي الريف، عربة المرسيدس الفارهة تقف عند نهاية الشارع، أحمل حقيبة اليد، تحتوي علي ما يلزمني لمدة ليلتين فقط، يرافقني السفير زولدش، يتحدث العربية بطلاقة، مثل بلاده في دولة الامارات وهو مرافقي خلال أيامي السلوفاكية تلك، طبعا تلك اشارة إلي الأهمية التي يحيطونني بها، ليس لأنني في منصب مهم، لكن باعتباري كاتبا عربيا ومثقفاً وتلك بداية خطوات مماثلة، أدركت هنا أن لديهم هذا الاتجاه تقوية العلاقات الثقافية مع العالم العربي خاصة والشرق عامة، الاتجاه غرباً بمفرده لا يكفي، نعم سيصبحون جزءا من الاتحاد الأوروبي، لكن هذا لا يكفي، الثقافة مدخل أعمق وأبعد مدي للعلاقات، ليتنا ندرك ذلك! السائق المهيب يتقدم ليفتح الباب، بعد أن استقر كل منا في مكانه، فوجئت بجندي شرطة يتقدم من السيارة، يتحدث إلي السائق، يدقق الأرقام، يقول السفير زولدش إنه يتأكد من هوية السيارة ذات الأرقام الدبلوماسية لأن المكان ممنوع علي السيارات إلا في الحالات الضرورية فقط. قال إن ذلك جيد، الجندي يقوم بواجبه، هذا يعني أنه متيقظ، في مثل هذه المواقف أستدعي مواقف مشابهة من مجتمعاتنا، إذا جري ذلك في بلادنا، ستجد أحيانا من يهب في الجندي متسائلاً باستنكار: ألا تعرف من أنا؟ يحدث هذا في إشارات المرور، وأمام المصالح وفي الأغلب الأعم يكون الشخص الذي يدعي أنه مهم لا أهمية له، لكن الأمر مرتبط بهيبة السلطة وقوتها وسريان القوانين علي الجميع، تواجد الشرطة في الشارع عنوان لهذا كله. انطلقت السيارة إلي الطريق المؤدي إلي مدينة بيشتاني إحدي مناطق العلاج الطبيعي المشهورة في أوروبا، حوالي مائة وخمسين كيلو متراً تتخلل المناطق الزراعية، حقول ممتدة لا توجد ارتفاعات حادة، أخيرا نصل إلي بشتاني، الطبيعة متغيرة، ثمة مرتفعات متوسطة مكسوة بالخضرة، الأشجار فارهة لكنها جرداء، الخريف هنا خريف، والشتاء شتاء، الفوارق بين الفصول واضحة في أوروبا كلها، عندنا تتداخل الفصول، يمتد الصيف إلي ديسمبر، وفي ربيعنا تهب عواصف الخماسين، اما الخريف فيرق الجو ويصبح هو الربيع. منطقة الفنادق والاستشفاء تقع في جزيرة وسط الدانوب، نجد الجسر الذي يتصدره تمثال كبير من الناحية اليمني حيث الدخول لرجل يتوكأ علي عكاز، تمثال آخر من الناحية اليسري لنفس الرجل يمضي علي قدمين، يكسر عكازه ويلقي به بعيدا. الفنادق ضخمة، فسيحة، تذكرني بالمنتجعات التي شيدت في المعسكر الاشتراكي زمن الانفتاح قبل انهيار الاشتراكية، المكان تم خصخصته وأصبح ملكا لمستثمر بريطاني يحمل لقب لورد، هنا عيادات طبية تعالج مرضي العظام والروماتويد بالطين المجلوب من النهر والذي يتم إعداده طبيا في أماكن خاصة. عندما دخلت إلي الغرفة الوثيرة، الفسيحة نسبيا بالقياس إلي الفنادق الكبري التي أعرفها في أوروبا، أدرت مفتاح تشغيل التليفزيون، المحطة العربية الوحيدة، الفضائية الكويتية، عرفت أن عددا كبيرا من الأخوة الكويتيين يجيئون للاستشفاء، وأنهم اكتشفوا المكان منذ فترة مبكرة، قال لي مدير الموقع إن الاقامة الكاملة بالعلاج تكلف النزيل مائة يورو يومياً، وعندما أبديت ارتياحي لرخص التكاليف، قال: إن هذا لن يستمر إلا لمدة سنة، بعد الانضمام التام إلي الاتحاد الاوروبي، سوف تسري الأسعار المعمول بها في أوروبا، هذا يعني تضاعف التكاليف، قال إنه ينصحني بالبدء الآن، قلت أنني أحمد الله فالعظام سليمة، وإن كان المكان يحوي علاجا لأمور أخري عديدة منها تخفيض الوزن، ولكن هذا يحتاج إلي ثلاثة أسابيع علي الأقل. يبدو المكان قصيا جدا، بعيدا، هكذا تبدو الأماكن التي تقف علي الحافة، أكثر من سبب يدفع بالمنشآت كلها إلي الحافة، يقع الفندق وأماكن العلاج علي جزيرة، والجزيرة بين ضفتين، أي بين حافتين، طبيعة المكان مصحة، كل من جاء إليه يسعي إلي العلاج، هكذا يقف بين الصحة والمرض، في الصباح تبدو صالات الفندق خالية، الأشجار علي المرتفعات شاحبة، بعيدة، انه الشتاء، حيث الموجودات كأنها من وراء زجاج، يتخللها الضباب الشفيف، هنا تتخذ حركة البشر سمتاً خاصا، فالكل يتحرك علي مهل، الحياة تصوير بطيء، أما الهدوء فمعقم، لم يكن لدينا برنامج صحي يشغل وقتنا، لا أنا ولا السفير زولدش، لذلك كان هناك الوقت الكافي للجلوس وللتأمل، خاصة الصالة المطلة علي الحديقة والمرتفعات المحيطة، التأمل من خلف الزجاج، هواية قديمة منذ أن اعتدت الجلوس في مقاهي وسط المدينة في الستينيات، خاصة المطلة علي ميدان التحرير، أجلس وراء الزجاج وأتأمل المطر، هنا في بريشتاني، أتأمل الطبيعة والبشر الباحثين عن العلاج، وأستعيد أيامي الغاربة. في المساء يظهر النزلاء الذين اختفوا نهاراً، يظهرون في المطاعم، في صالات عزف الموسيقي، ينتمون إلي جنسيات مختلفة، وأعمارهم مختلفة أيضا، اعتدت بعد تناول العشاء أن أصغي إلي عازفين متلازمين دائماً، من حواري معهما عرفت أنهما من الجنسية المجرية أصلا، أحدهما عازف الكمان، الآخر عازف علي البيانو، توجد أقلية مجرية في سلوفاكيا إلي جانب أقليات أخري. استمعت إليهما في المطعم، لفت نظري قدرتهما علي العزف، لا أحب الاستماع إلي الموسيقيين أثناء تناول الطعام والدردشة، أجد في ذلك نوعاً من إهانة الفن والفنانين، أبديت لهما الود، طلبت الاستماع إلي متتاليات هنغارية لبرامز، وكان ذلك مدخلا لتفاهم انساني وعلاقة عابرة تركت عندي أثراً في هذا المكان النائي الذي يلتمس فيه الانسان الشفاء من خلال الماء والطين.