هناك في الحياة أشياء لا نتوقف عندها، لكنها تعمل عملها في حركة المجتمع. الزحام مثلا أحد أسباب الحركة سلبا أو إيجابا. فدولة مثل الصين استطاعت أن تجعل من الزحام والكثافة السكانية عاملا إيجابيا. ودول اخري لم تنجح في ذلك، ونحن للأسف من هذه الدول. والغريب والعجيب أن لدينا مساحات كبيرة جدا من الأراضي الواعدة بالخير، لكننا حتي الآن لم نضع خطة طموحة لتقليل الزحام في المدن الكبري، وإحداث هجرة منظمة وراء أعمال جديدة في الصحراء الغربية والشرقية. ولا توجد فرص عمل حقيقية إلا في المدن الكبري، لذلك ازدادت الهجرة من الريف إلي المدينة بشكل فاق الخيال عبر الأربعين سنة السابقة، فتم ترييف المدن نفسها شكلا وموضوعا. شكلا في حركة البناء العشوائي التي ساعدت فيها المحليات وفسادها، وموضوعا في السلوك الذي من أقل مظاهره الصوت العالي، والقيادة بلا ضابط كأنه يجري علي الزراعية مثلا، حيث لا يوجد أحد. لقد ارتبطت بالنازية نظرية سياسية تعرف بالمجال الحيوي، vital place، وتعني أن لكل دولة مجالها الحيوي، فألمانيا دولة كبيرة العدد، وحولها دول صغيرة وكبيرة المساحة ،فمن حق ألمانيا أن تتمدد فيها، أي تحتلها. وهذه النظرية يمكن أن تطبق علي المدن. فالريف الذي تزدحم قراه الصغيرة بالأعداد دون فرص عمل ،يتمدد الي المدن الكبري، حتي ضاقت بدورها، وراحت تتمدد عمرانيا فقط. والإنسان أيضا له مجال حيوي. فإذا اقترب منك شخص مثلا تشعر بالرغبة أن تبعده عنك قليلا، وقد تطلب منه ذلك. وفي الزحام لا تكون هناك فرصة لهذا الابتعاد، لذلك يحدث الضيق والشجار ،وربما القتل بعد ذلك. كثير جدا من جرائم القتل التي تحدث الآن لا يكون وراءها زحام بشكل مباشر. قد يكون وراءها المال ، الحاجة أو الطمع، وقد يكون وراءها الجنس، لكن هذه العمومية، وهذا الشيوع للجرائم، لا يكفي هذا كله في تفسيره، دون أن نضع زحام المدن في اعتبارنا. خلق الزحام ثقافة جديدة هي الفوز بأي طريقة بما تريد فعلي الطريق لا يتم الالتزام بالقواعد المرورية، فلا أحد مثلا يقف في الجانب الأيسر أو الأيمن إذا كان هناك ملف قريب ستدور منه، لكن عادة يقف في جانب الملف من هو مستمر في طريقه، أما من يرغب في الدوران، فيأتي من أبعد جانب ليدور ويقف أمامك. وفي المحلات لاينتظر أحد دوره أبدا، وحتي في البنوك والمصالح الخدمية التي تعطي أرقاما لزوارها، تجد المتأخرين في الرقم في حالة غم لا يستقرون علي مقعد . وأمام 90% من البيوت الآن، والمحلات في الشوارع والأزقة، أحجار تمنع وقوف السيارات الغريبة، وليس مهما أن تتعطل الحركة بسبب الركن في عرض الطريق. والتاكسيات والميكروباصات وعربات النقل هوايتها المفضلة التقاط ركابها عند منحنيات الطرق، رغم أن أول دروس المرور، ألا تقف في المنحنيات. وزحام الفصول يجعل المدرسين عاجزين عن الشرح، والطلبة عاجزين عن الفهم، ويكون الحل في التزويغ والدروس الخصوصية. ونستطيع أن نمضي في الزحام وآثاره الضارة إلي ما لا نهاية. ولكنني انتقل الآن الي شيء آخر قد لا يخطر علي ذهن أحد وهو الموسيقي والغناء. لقد سميت الموسيقي والغناء العربي بالطرب، الذي هو قرين الراحة والاستماع باستسلام جميل ووداعة، واختلفت طبعا عن الموسيقي الغربية سريعة الإيقاع منذ وجدت في الشرق موسيقي. ولا شك أن هذا كان انتاجا طبيعيا للمكان الذي يدعو الي الاطمئنان. والذين عاشوا عصور الطرب العظيمة، أو لحقوا شيئا منها، مثلي ومثل من ولدوا مع ثورة يوليو أو قبلها، يعرفون كيف كانت الأغاني تدغدغ المشاعر بالآمال والأحلام الجميلة، وكيف كانت أغنيات الهجر تثير الشفقة والتعاطف، وكيف كان المحبوب في كل الأحوال هدفا نبيلا بعد أو قرب. حتي أغاني اللوم للحبيب أو العواذل، كانت تنسكب منها الرقة، التي تجعل الشباب ينظرون إلي الفتيات نظرة ود ومحبة، والعكس صحيح. كانت هناك دائما أغان فجة، ولكنها لم تبتعد عن الملاهي الرخيصة، ولم تصل لكل الأسماع في البلاد من الإذاعة أو التليفزيون فيما بعد. كانت ليلة غناء أم كلثوم أو فريد الأطرش أو عبد الحليم حافظ ، ليلة يحتفل بها الوطن كله، وينتظرها الناس، ويستعدون لها، حتي الحشاشون الذين ارتبطوا بسماع ام كلثوم الي حد ما، كانوا يعرفون أن الحشيش يرقق العواطف، وهو للأسف كذلك فعلا. علي غير الأنواع الأخري من المخدرات التي ظهرت في مصر منذ السبعينيات. الموسيقي الآن صخب وعنف غير مبرر، وكثير من الموسيقيين يصنعونها علي آلات كهربائية، وكمبيوترات فاقدة الحس الانساني .والكلمات في 90% من الأغاني تستهين بالحبيب ،وتتوعده وتتعالي عليه، وأحيانا تشتمه هو وأهله ! والمستمعون من الأجيال الجديدة، وهذا يحيرني جدا ،لا يستمعون إلا لأجهزة الراديو او المسجلات عالية الصوت ،كأن المستمع يجلس في صحراء وحده، وليس بين أهله في البيت، أو بين الناس في الشارع، أو المواصلات العامة والخاصة. وكل الأغنيات التي يرفعون صوتها من هذا النوع الشتام سريعة الإيقاع والصخب ،وتندهش جدا أنها تشيع في السيارات الملاكي الفارهة غالية التكلفة، لكن سرعان ما تزول دهشتك إذا عرفت أن كثيرا جدا، ممن يملكون هذه السيارات، راضون عن جهلهم الذي أوصلهم إلي هذا الغني من طرق سهلة. أما في المحلات والميادين والأسواق وافتتاح المحلات، فحدث ولا حرج عن الضوضاء الممتلئة بهذا السب العلني، والأغاني الخالية من أي صورة فنية حقيقية، وصخب موسيقي لا يختلف عن النهيق . لقد زحمت هذه الموسيقي الأرواح ،ومن ثم كان لها أثرها الضار علي السلوك، وعلاقة الرجل بالمرأة. ويحتاج الأمر إلي من يبحث القيم الرذيلة، التي أشاعتها هذه الأغاني وهذه الموسيقي الصناعية، في الروح المصرية. زحام في الأرض وزحام في الفضاء . في بلد قامت حضارته علي الدعة والاستقرار.