سالي عادل في الصباح، توقظه بخدود وردة اقتطفتها من أجله: - هيا، الإفطار جاهز. ولكنها تقذف بالوردة أسفل الفراش، ما إن يفتح عينيه يبادر بالسؤال: - زوجتي، كيفها؟ - ما زالت نائمة، لقد سهرت جوارها طوال الليل وتسليت بضبط ثوبي لها، فإنهن بنات البندر شديدات النحافة. تتناول قميصا مشجّرا زاهيا فتبسطه أمام وجهه: - كما أعددتُ لك هذا القميص، فما رأيك؟ يطويه بيده شاكرا، فيما يحاول القيام، لكنها تمنعه بإصرار: - ليس قبل الإفطار، جبن وعسل وزبد لن تتناول مثلهم بالمدينة. يستجيب فيتناول لقيمات ويسرع إلى زوجته، تنفض الفراش وتضبط الأغطية والوسائد، حين تدوّي الصرخة. تركض في سرعة إلى الخارج، تراه وقد أحنى جبهته فوق جسدها وعلا نحيبه، تكتم صرختها بيدها وتنمو الدموع فوق عينها، يلتفت إليها ويهتف بجزع: - لقد ماتت! لقد ماتت! ثم يلقي بنفسه بين ذراعيها ويجهش بالبكاء، تتوقف دموعها فجأة، تختبر بدهشة ذاك الإحساس الغريب الذي تشعر به، إن احتضان الرجل يختلف تماما وكأبعد ما يكون عن احتضان خيال ما.
*** تسيل الدماء من جرحه، تُسرِع بالتقاط الفأس من يده: - ارتح أنت ولا تنسَ أنك مصاب. تتابع الحفر فيما يستند بظهره إلى ظهر التوتة، يستخرج شيئا مثل هاتف من جيبه ويتفحصه، ثم يلقي به في حقد: - ما زال الجو يعوق الاتصال. - لا تقلق، سيتحسّن عمّا قريب. - ألا تمر سيارات من هنا؟ - يمر عليّ تاجر الدواجن يلتقط إنتاجي كل عدة أيام. - فمتى يجيء؟ تدع الفأس وتجلس تنظر إلى عينيه: - ولماذا تتعجل الرحيل؟ هل أغضبتك في شيء؟ ينظر إليها بامتنان: - بل أنتِ ملاك حقيقي. يشرق وجهها غير مصدّقة: - أنا؟! يقوم، يحمل زوجته في الملاءة البيضاء، ويريحها في قبرها، يقف في خشوع، يخفي وجهه بكفيه، ويهتز جسده بالبكاء، تقترب من خلفه، تمد راحتها إلى كتفه تربّت عليه، ثم تمتد ذراعاها حول خصره تضمّه، ومن خلف كتفه تنظر إلى العينين المحدّقتين في الظلمة، عينان من أزرة قميص قديم لأبيها، ووجه من القش، تخفي وجهها في ظهر الغريب، وتشدد الضمّة. تمسك بيده وتقوده للكوخ، تسمع حسيسا خلف أذنها، ويلفحها الصهد من خلف العنق، تلتفت في سرعة، ترمق زرا القميص وقد توهّجا بالنار، وترقب شفاه القش تتحدث بصوت أمها: - تذكري أن كلهم خائنون. تكتم صراخها وتدير رأسها، تقع عينها على البقرة وقد توهجت عيناها وصاحت: - تذكّري ما وقع لي، فكلهم خائنون. وينبح كلبها: - كلهم خائنون. تتلفّت حولها في ذعر، تتلفت في كل اتجاه، إلى أين تذهب وكلهم خائنون، يثبّتها الغريب بيديه، يديرها إليه: - ما بكِ؟! ماذا حدث؟! ترفع عينيها إليه: - إنني أرى... تقطع عبارتها إذ ترى اشتعال عينيه وتسمع عبارته: - كلهم خائنون. تدفعه عنها، تركض إلى الدار، فيتبعها ذاهلا، تتوقف بمواجهة اللوحة التي تتوهج ولا تكف عن اختراق سمعها بعبارتها الكاذبة، تضرب بقبضتها اللوحة فتتناثر الشظايا، ويهدأ الضجيج من حولها، فتسقط على الأرض هاتفة: اصمتي، ودعيني أقرر لمرة واحدة إن كانوا حقا خائنين. يسقط جوارها، يتناول كفها الدامية في قلق، يستخرج منها قطعة الزجاج، ويقطع من قميصه بقدر ما يكفي ليضمدها به. تنظر إليه باهتمام إذ يعني بها ولا تنطق كلمة، يريحها فوق الأريكة، يسند رأسها بالوسادة ويسحب فوقها وشاحا: - ششش! اهدئي، وارتاحي قليلا. يجلس يشعل نيرانا للتدفئة، ثم يصعد يجلس جوارها: - أتصدقي أني لم أعرف اسمك بعد؟! - أمي تقول إن كلكم خائنون. - ولماذا لا تعيش معكِ أمك؟ - لقد رحلت. - ولكن أيضا ما كان يجب أن تعيشي وحدك هكذا، هذا ليس آمنا. - أنا لستُ وحدي، خيال المآتة بالخارج، وأمي تقول إنه رجلي الوحيد. - يبدو أن أمك قد مرّت بتجربة سيئة، فظنّت السوء بكل الرجال. - نعم، أمي مرت بتجربة سيئة جدا كلفتها حياتها، وذلك حين قامت بإحراق أبي وعشيقته. ينتفض، يرجع خطوات للوراء، تومئ له مؤكدة: - وعلى حبل المشنقة توهجت عينها بالحقد وقالت إنكم خائنون، ثم لم تكف منذ ذاك الحين عن أن تخبرني بأنكم خائنون. يتناول الهاتف ويعيد محاولة الاتصال، تنفض الوشاح برفق وتخطو تجاهه: - ولكني أخبرتها أنك لست مثلهم. تتلمس بأناملها كفه: - أنت لست مثل أي شيء أعرفه. ترسم بأناملها دوائر فوق كفه: - كما أني لستُ أنا منذ أتيت أنت، وحياتي ليست حياتي، وخيال المآتة ذاك، ليس رجلي. تصعد بكفّها فوق كفه وعبر ذراعه فتستند براحتيها إلى صدره وتهمس: - أنت رجلي، وكما تشدو المغنية، فإنك أنت الذي أنتظر موعده، أنت الذي أشعر بالسعادة حين أراه، وأنت الذي أتمنى أن أمضي عمري معه، كما أن هذا بعينه هو ال... حب. يُنزِل ذراعيها بعنف: - حب! إيّاكِ أن تتحدثي عن الحب أيتها الصغيرة الشاذة! تهمس ذاهلة: - أتنكر الحب؟! يبادلها الذهول بذهول: - أوعدتك بالحب؟! - فمن؟! تصرخ: - فمن الذي أخبرني أني ملاك حقيقي؟! من الذي ألقى بنفسه بين ذراعيّ وأجهش بالبكاء؟! من الذي كاد يموت قلقا حين أدميتُ يدي؟! تمسك بذراعيه وتهتف: - من الذي نظر بعمق إلى عينيّ، وأخبرني من داخل قلبه أنه ممتن؟! من؟! من؟! - ينفض ذراعيه ويلقي بها بقوة تسقطها بالركن، وهو يهم بالرحيل: إنكِ مجنونة مثل أمك. تستند إلى الحائط وتهب واقفة، تتلمس حدود بلاص عسل بالركن، فتحمله بكلتي يديها وتصوّبه إلى رأسه: - وأنت خائن مثل كل الرجال. يسقط فاقدا الوعي. تعلّق الفأس بكتفها، وتجرجره من ساقيه إلى الخارج.. تتوقف لحظة، تلتقط صورة أمها: - اطمئني يا أمي، فكلهم خائنون، وخيال المآتة هو رجلي الوحيد.
*** تقيّده إلى جذع التوتة، ثم تتجه إلى خيال المآتة: مرحبا يا خيالي وظلّي. تدور حوله: - كيف حالك اليوم؟ تسمع لهاثا من خلفها، تلتفت إلى الغريب المذعور وقد فتح عينيه وراح يتلوى في قيوده، يصرخ في هيستيريا: - ماذا ستفعلين بي! ماذا ستفعلين بي؟ كان بإمكاني أن أجهز عليك بالبلاص، كما أجهزت على زوجتك بالوسادة. تتسع عينه ذهولا وذعرا: لا تقتليني أيتها المجنونة! لا تقتليني. تبتسم في أريحية: لا تخف، أنا لا أقتل رجلي، فقد أكون مجنونة مثل أمي. تميل تلتقط الفأس من الأرض فتحتبس أنفاسه في حلقه فيما تتابع قائلة: - ولكني لستُ خائنة مثلك. وفي لحظة، تدور فتضرب بقوة أسفل قدم خيال المآتة، متحدثة إليه: - فلتسقط كما سقطت من عيني، ولا تكن قد صدقت يا خيال المآتة بأنك رجل. يسقط أرضا؛ تتدحرج قبعته، فتتناولها وتمعن النظر في نقراتها الجديدة: - إنك حتى لم تكن تصلح لإخافة العصافير. تخطو نحو الغريب المذعور ببطء، وتميل تضع القبعة فوق رأسه: وها قد حصلتُ أخيرا على خيالي الحقيقي.
*** مغروسا مثل وتد، مصلوبا مثل قديس، ناصبا قامته، باسطا ذراعيه، رافعا رأسه مثل رجل حقيقي، بقبعة لا تقي الشمس وقميص لا يقي البرد، وإذا ما مر عليه الصبح أو الليل يبقى، إذا ما مر الصيف أو الشتاء، لو تنازعت ثوبه الفئران لن يدفعها، أو قرصته الحشرات، فلن يتمكن من حك جلده، إنه خيالها وظلها، ولكن من لحم ودم.