تحررت البلاد من الحكم الذي عاث فيها فسادا، وبدأ الشعب الذي نال حريته في بناء دولته الجديدة، واحتدم الصراع بين الإسلاميين والليبراليين على مشكلات عديدة كان من أهمها صياغة الدستور. الأغلبية الساحقة في البلاد من التيار الإسلامي، والليبراليون يريدون موادّ تحمي مدنية الدولة، مع إصرار الإسلاميين -في نفس الوقت- على التمسك بمواد الشريعة.
ما الحل؟ وما المخرج الآن من هذا الخلاف؟
الجواب بمنتهى البساطة "وضع مبادئ حاكمة للدستور؛ حتى لا تستأثر فئة بكتابته على حساب الأخرى".
هذا الحل كان من نتاج فكر حاكم الدولة العسكري، والذي فرض خمس مواد حاكمة للدستور قسرا؛ لتكون تلك المواد أساس وفلسفة الدولة، ولتسير على هديها اللجنة التي ستقوم بصياغة الدستور.
هكذا استطاع الحاكم العسكري أن يبرز من بين الخلافات بين كافة التيارات والقوى السياسية في الدولة؛ ليفرض أسس صياغة الدستور.
ونظرا للخلاف بين الإسلاميين والليبراليين الذي لم ينتهِ تشكّلت لجنة مكونة من 9 أشخاص فقط تضمّنت الزعماء الإسلاميين والزعماء الليبراليين، ومهمتها وضع ميثاق يصبح مقدمة للدستور المزمع كتابته، والذي سيخلو من وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية على معتنقيها.
تم التوقيع على الميثاق في 22 يونيو 1945 بالعاصمة الإندونيسية جاكرتا!!!!!!!
لا تتعجب -عزيزي القارئ- فهذا السيناريو هو ما حدث في إندونيسيا بعد نيل استقلالها منذ أكثر من 60 عاما، وأعتذر عن سوء الفهم الذي دفعك للظن بأن ما ذكرت يجري الآن في مصر!
وتم اعتبار هذا الميثاق -الذي تم التوقيع عليه من قِبل الجمعية التساعية- بداية لدستور مؤقت ينهي الكثير من الصراعات والخلافات.
ونجح الحاكم العسكري سوكارنو -رئيس إندونيسيا الذي وضع المبادئ الخمسة الحاكمة للدستور- من أن يوقف الخلاف بين القوى السياسية مؤقتا؛ وذلك بفرض أسس الدستور المؤقت والذي تم إنجازه قبل نهاية عام 1945.
ظل دستور 1945 مستمرا حتى تم استبداله بالدستور الاتحادي في سنة 1949، والذي استمر حتى لست سنوات؛ حيث جرت انتخابات لمجلس النواب الإندونيسي على خلفية الدستور المؤقت، واختيار جمعية دستورية لوضع دستور جديد ونهائي.
على إثر ذلك نشبت الخلافات القوية بين الإسلاميين والليبراليين، خاصة حول المواد التي تضمن تطبيق الشريعة الإسلامية في إندونيسيا، مما أصاب الحاكم العسكري سوكارنو بخيبة أمل متزايدة، مما دعاه -وهو المدعوم من قوات الجيش- إلى اقتراح العودة للدستور المؤقت الذي وضع أسسه في عام 1945.
وفي البرلمان تم رفض اقتراح الحاكم العسكري لإندونيسيا؛ إذ لم يحصل بالتصويت على ثلثي الأعضاء لتحقيق الأغلبية المطلوبة.
وبعد رفض اقتراحه أنهى الحاكم العسكري الأزمة الدستورية التي تحياها إندونيسيا بعد استقلالها ببساطة.. حيث أصدر مرسوما بحلّ الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الجديد، وقرر العودة إلى الدستور المؤقت.. برضه!!
إلى الدستور الذي وضع سوكارنو مبادئه فوق الدستورية.. إلى دستور 1945!! وقد ضمت المبادئ الخمسة الحاكمة للدستور أو "البانتشاسيلا" كما يُطلق عليها بإندونيسيا ما يلي: الإيمان بالله الواحد الأحد. القومية التي تنادي ب"الوحدة الإندونيسية". الديمقراطية. الإنسانية العادلة. العدالة الاجتماعية.
في الختام دعونا نتساءل: "هل من الممكن أن يعيد التاريخ نفسه؟"