حين ترى أفراد الشعب الإندونيسي يبتسمون لك، وترى فيهم نساء يرتدىن الحجاب وأخريات يرتدين ملابس ذات طابع أوروبى حديث، ستنظر إليهن وتتساءل فى داخلك، لماذا هم متناغمين؟ وحين تقابل أحد الناس فى العاصمة جاكارتا حتماً سيسألك والإبتسامه تملؤ وجهه من أين أتيت، ولكننى أتحداك أيها القارئ العزيز أن يسألك عن ديانتك مهما تحدثت معه، فالمواطن الإندونيسي يشعرك دائماً أنه لافرق بين أي دين وآخر من الأديان وأنه لا أهمية لاختلاف العقائد فى تلك الدولة التى تحوى بين أفرادها مايقرب من ثلاثمائة ديانة و عقيدة لاتعرف التطر هذا التساؤل حول التناغم الوطنى الإندونيسي والذى دار فى عقول أعضاء الوفد المصرى أثناء زيارة للعاصمة جاكارتا الأسبوع الماضى ضمن ورشة عمل نظمها "معهد السلام والديمقراطية بالى" حول الإنتخابات، حضرنا خلالها وقائع لجنتى إقتراع أثناء التصويت وثالثة اثناء فرز أصوات الناخبين ضمن إنتخابات محلية جرت فى ضواحى العاصمة جاكارتا، لفت انتباه الوفد المصرى أن هذه الإنتخابات جرت فى إطار من العلاقة الودية القائمة على احترام بالغ بين الناخبين واللجنة المنظمة للانتخابات والتى اتضح أن جميع أفرادها هم من نفس البلدة وأنهم متطوعين وأن الطابع الهادئ لتلك الإنتخابات سببه الثقة الكبيرة فى اللجنة الإنتخابية لأن الجميع لهم مصلحة واحدة ألا وهى التنمية لمجتمعهم الصغير، وهو الأمر الذى يشغل بال المصريين حتى الآن وهو كيف تستطيع مصر إقامة إنتخابات ديمقراطية سليمة بلا عنف أو تزوير؟ والسؤال الثانى هو كيف تنجو مصر من خطر الإحتقان الطائفى؟ جاءتنا الإجابة بكلمة واحدة، إنها " البانتشاسيلا". تلك الكلمة التى ساعدت على أن تنجو إندونيسيا من خطر الإحتقان الطائفى فى ظل هذا التنوع الكبير بين عقائد سكان الدولة البالغ عددهم مايقرب من 238 مليون نسمة. والبانتشاسيلا هي مبادئ خمسة صاغها سوكارنو في دستور عام 1945 الذى عادت إندونيسيا إليه بعد سقوط سوهارتو ودستوره لتصبح أساس عقيدة الدولة الناشئة ولتضمن تجمع الإندونسيين على مختلف دياناتهم وعقائدهم على هدف واحد هو الدولة الديمقراطية. وتتكون البانتشاسيلا من مبادئ خمسة هم؛ الإيمان بالله الواحد الأحد "الربانية المتفردة" أى أن هناك إله واحد يؤمن به الجميع، القومية وتنادي بالوحدة الاندونيسية، الديمقراطية أو الشعبية الموجهة بالحكمة في الشورى النيابية، الإنسانية العادلة المهذبة وأخيراً العدالة الاجتماعية.
أما عن تاريخ البانتشاسيلا، ففي سنة 1945م تشكلت لجنة الإعداد للاستقلال في اندونيسيا لوضع أسس للدولة الناشئة، ولما احتدم الخلاف بين القوى الإسلامية والوطنية حول أساس الدولة هل يصبح المرجع هو الإسلام أم أن الدولة ينبغى أن تكون مدنية، وقتها وضع سوكارنو، وهو أول رئيس لاندونيسيا بعد الاستقلال "البانتشاسيلا" لتكون أساس وفلسفة الدولة، حيث أنجزت اللجنة التي ضمت تسعة من الزعماء الإسلاميين والزعماء الوطنيين الإندونيسيين مهمتها في وضع ميثاق جاكرتا الذى تم التوقيع عليه في 22 يونيو 1945، هذا الميثاق أصبح مقدمة لدستور الإستقلال والذى حدد البانتشاسيلا بوصفها تجسيدا للمبادئ الأساسية للدولة الاندونيسية المستقلة، والتى أعلنها سوكارنو في خطابه المعروف باسم "ولادة من البانشاسيلا".
وعلى الرغم من أن القوميين الإسلاميين فى إندونيسيا أصروا فى ذلك الوقت على الهوية الإسلامية للدولة الجديدة، إلا أن واضعو البانتشاسيلا أصروا على هوية محايدة ثقافيا، متوافقة مع الديمقراطيات والأيديولوجيات الماركسية ، لتكون المبدأ الجامع للفروق الثقافية غير المتجانسة للسكان. وهكذا نجت الدولة الإندونيسية من التمزق بعد سقوط سوهارتو عام 1989 ودخول البلاد فى حالة من الفوضى والحروب الأهلية كادت تقضى علي نموذج من أنجح ديمقراطيات العالم، وهكذا أيضاً نجت الدولة الإندونيسية التى يبغ تعداد سكانها 238 مليون نسمة موزعين على 300 ديانة وعقيدة تحكمهم أغلبية مسلمة تصل إلى حوالى 60% من عدد السكان، حيث كانت الحكمة والرغبة فى أن تسموا الدولة على تلك الخلافات المذهبية والمصالح الشخصية للسياسيين هى السبيل لتنطلق فى مسار التقدم بعيداً عن كل تلك المعوقات. لا شك أن هذا التشابه الكبير بين الأحداث التى تمر بها مصر الأن وتلك التى حدثت فى دولتنا الشقيقة إندونيسيا يعطينا الأمل فى أن تنجو مصر من الأخطار التى تحيق بها لو أطالت النظر إلى تلك الديمقراطيات التى استطاعت أن تنجوا بفضل التسامح والبعد عن التطرف والرغبة الحقيقية فى تحقيق التقدم والنمو والعدالة الإجتماعية لجميع أفراد الشعب على حد سواء وأن تحذوا حذوها فى تلك اللحظات الفاصة من تاريخ البلد. المزيد من مقالات أحمد محمود